براغماتية الشرع أمام اختبار التوازنات: هل تنجح سوريا في صياغة معادلة الاستقرار الجديد؟
تاريخ النشر: 5th, January 2025 GMT
لطالما شكلت سوريا عقدة الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط، حيث لا تكتمل الخرائط الاستراتيجية من دون أن تتوسطها دمشق التي تحتل موقعا يجعلها نقطة التقاء للمصالح أو صراع على النفوذ ومسرحا دائما للتنافس السياسي والعسكري بين القوى الكبرى.
خلال الأسابيع الماضية التي أعقبت سقوط الأسد، تحولت سوريا لمحور اهتمام دولي وإقليمي فسلكت وفود الدول طريق دمشق، ورغم أن الهدف هو جس النبض لقائد الإدارة الجديد أحمد الشرع القادم من خلفية جهادية، وتقييم الواقع على الأرض فإنها تؤسس لمرحلة المفاوضات والمساومات المستقبلية.
وفي ظل مطالب الدول وتخوفات البعض منها، يبرز التساؤل عن الكيفية التي ستدير بها القيادة السورية الجديدة لعبة التوازنات الدقيقة والمصالح المتشابكة على الجغرافيا السورية؟
الصراع على سوريا
تحت عبارة "من يقود الشرق الأوسط لبد له من السيطرة على سوريا" ركز الكاتب البريطاني الشهير باتريك سيل في كتابه "الصراع على سوريا" على أهميتها في المنطقة، وكيف أصبحت خلال أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي مركزا للصراعات.
ولأن "سوريا مرآة للمصالح المتنافسة على المستوى الدولي مما يجعلها جديرة بعناية خاصة"، كما يقول سيل، تحولت خلال العقد الماضي، إلى واحدة من أكثر الساحات تعقيدا للصراعات الإقليمية والدولية، حيث تنافست قوى متعددة لتحقيق مصالحها الاستراتيجية وتوسيع نفوذها.
وتوزع اللاعبون، خلال السنوات الماضية، على مختلف الجبهات السورية، فالولايات المتحدة في الشرق، وروسيا وإيران في الوسط والغرب، وتركيا في الشمال، إلى جانب بعض الدول العربية وخاصة الخليجية التي دعمت نظام الأسد لمنع أي تمدد تركي.
في شرقي سوريا قادت الولايات المتحدة ومن ورائها الغرب، تحالفا دوليا لمحاربة تنظيم داعش وضمان عدم عودته إلى الأراضي السورية، واستخدمت واشنطن هذه الحرب ذريعة لتبرير وجودها العسكري ودعم قوات سوريا الديمقراطية كحليف رئيسي على الأرض، الأمر الذي أدى إلى توتر العلاقة مع تركيا الحليف القوي في الناتو.
إضافة إلى ذلك، كانت أولويات واشنطن الاستراتيجية تشمل ضمان أمن إسرائيل، والحد من النفوذ الإيراني، وإضعاف روسيا ومنعها من تحقيق سيطرة كاملة في سوريا.
على الجانب الآخر، شكلت سوريا بالنسبة لروسيا منصة حيوية لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط وإظهار قوتها كدولة عظمى على الساحة الدولية، فقدمت دعما مطلقا لنظام الأسد، عسكريا وسياسيا، مقابل الحصول على قاعدة استراتيجية على البحر الأبيض المتوسط، تمثلت في قاعدة حميميم، مما منحها موطئ قدم في المنطقة.
أما الدول العربية فتباينت مواقفها تجاه الملف السوري، فركز بعضها على الحد من النفوذ الإيراني، بينما دعم البعض الآخر النظام في مواجهة أي نفوذ لتركيا في سوريا، والتي تعتبر الرابح الأكبر مما يجري بسبب علاقتها الجيدة مع الإدارة الجديدة.
تغير المعادلة
مع سقوط الأسد، تغيرت المعادلة وموازين القوى وظهرت شروط ومطالب جديدة، ترافقها مخاوف متزايدة، خاصة من الدول العربية، بشأن احتمالية عودة تيارات التشدد الإسلامي أو تصدير الثورات، مما يضيف مزيدا من التعقيد إلى المشهد السوري.
بدورها ربطت الدول الغربية أي تعاون مستقبلي مع الإدارة الجديدة بخروج روسيا من سوريا، معتبرة ذلك شرطا أساسيا للمشاركة في إعادة الإعمار ورفع العقوبات، إلى جانب ضمان حقوق الأقليات، خاصة الأكراد، الذين يحظون بدعم أميركي كبير في الشرق.
هذه الشروط جسدتها تصريحات بعض المسؤولين الأوروبيين، إذ قالت رئيسة دائرة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، كايا كلاس، إن "أحد شرط حوار الاتحاد الأوروبي مع السلطات السورية الجديدة يجب أن يكون انسحاب القواعد العسكرية الروسية من سوريا"، مشددة على أن إيران وروسيا "يجب ألا تلعبا أي دور في بناء مستقبل سوريا الجديد".
من جانبه قال وزير الخارجية الهولندي، كاسبار فيلدكامب، إن رفع العقوبات عن سوريا سيكون مرتبطاً بإطلاق مسار سياسي وضمان حقوق الأقليات، كما أن إغلاق قواعد روسيا بسوريا سيكون ضمن الشروط الأوروبية لدعم دمشق".
وخلال زيارتها إلى العاصمة دمشق، الجمعة، أكدت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك على ضرورة انسحاب القوات الروسية من سوريا.
وقالت عقب لقائها الشرع في دمشق إن "أوروبا ستدعم سوريا الجديدة لكنها لن تقدم أموالا للهياكل الإسلامية"، مشيرة إلى أن "أوروبا حضت على عدم إقامة حكومة إسلامية عقب إسقاط النظام.
وشددت الوزيرة الألمانية على أن رفع العقوبات عن سوريا سيعتمد على تقدم العملية السياسية وإشراك كل الطوائف.
الرد الروسي لم يتأخر عبر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي قال إن "قائد السلطات الحالية في سوريا أحمد الشرع يتعرض لضغط كبير من الغرب لوقف تعامله مع روسيا".
براغماتية الشرع
على مدى الأسابيع الثلاثة الماضية، وخلال تصريحات إعلامية ولقاءات رسمية، حاول الشرع إيصال رسائل إلى الدول كافة بأن سوريا مهمة للغاية من الناحية الجيوستراتيجية، وأن الغاية الأساسية التي يسعى إليها هي التنمية الاقتصادية، التي لن تحصل من دون علاقات استراتيجية ومصالح متبادلة مع الدول الأخرى.
"سوريا لديها شخصية مستقلة ولا تخضع للضغوط" بهذه الكلمات حدد الشرع ملامح المرحلة المقبلة فيما يتعلق بالتعامل مع الدول ومصالحها والضغوط التي قد يتعرض لها، مؤكداً على تجنيب سوريا أي عملية تجاذبات سياسية يمكن أن تؤثر على الدول المجاورة.
وشدد الشرع، خلال مقابلته الأولى مع وسيلة إعلامية عربية، أن "سوريا لن تكون ساحة صراع بين روسيا والغرب، ولا تخضع للضغوط ونحن ننظر إلى مصالح شعبنا بالدرجة الأولى ونتعامل مع الدول على هذا الأساس.
أمام هذا المشهد والتصريحات، تدخل سوريا مرحلة جديدة ممتلئة بالتحديات ولعبة توازنات معقدة وحادة تتطلب قدرة على المناورة وإدارة المصالح المتضاربة من قبل الشرع الذي وصفته باربرا ليف مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط، عقب لقائه في دمشق بأنه "براغماتي".
ويرى الباحث السياسي محمود علوش أن تشكيل علاقة متوازنة مع مختلف القوى الفاعلة في الملف السوري هي من بين التحديات الكبيرة التي تواجه الإدارة الجديدة.
وقال علوش لموقع تلفزيون سوريا إن هناك أولويات للإدارة الجديدة على رأسها إقامة علاقات جيدة مع محيطها العربي والدول الغربية بسبب المزايا التي تحصل عليها وخاصة على المستوى الاقتصادي وإخراج سوريا من دائرة العزلة والعقوبات، وهذه المزايا تتجاوز في أهميتها بالنسبة للإدارة الجديدة أي مزايا يمكن أن تجلبها العلاقة الجيدة مع روسيا على سبيل المثال.
ورغم أن العلاقة مع روسيا لن تجلب مزايا كبيرة لسوريا الجديدة، بحسب علوش، لكن يمكن من خلالها أن تحد الإدارة الجديدة من مخاطر أن يتحول الدور الروسي إلى عقبة محتملة تفسد عملية التحول السياسي والاستقرار الأمني.
واعتبر علوش أن العلاقة مع روسيا لا تزال استراتيجية بالنسبة لسوريا، ما يفرض على الإدارة الجديدة إعادة تشكيل العلاقات من منظور مختلف، وبالتالي فإن العلاقات مع الغرب والمطالب التي يقدمها فيما يتعلق بمستقبل وجود القواعد الروسية سيضغط بشكل كبير على دمشق لإيجاد نوع من الموازنة في علاقاتها مع كل من موسكو والغرب.
إدارة اللعبة
يدير الشرع لعبة توازن دقيقة في إدارته الجديدة، مستهدفا تحقيق الاستقرار بين إرضاء بنيته الداخلية وخاصة القوى المقاتلة الأجنبية والمؤسسات الناشئة، وبين طمأنة دول الإقليم المتوجسة من النفوذ الإسلامي، وبناء علاقات متوازنة مع القوى الدولية الكبرى.
يرى مدير الأبحاث في مركز عمران للدراسات، معن طلاع، أن محددات التعاطي السياسي للإدارة السورية الجديدة تنقسم إلى أربعة محددات رئيسية، أولها يرتبط بالصورة العامة التي تسعى الإدارة إلى تقديمها عن نفسها، من خلال التأكيد على قدرتها على التحول من فاعل ما دون الدولة إلى فاعل دولة منسجم مع محيطه الإقليمي والدولي، مع الحرص على عدم إثارة مخاوف الدول المجاورة.
المحدد الثاني يركز على البعد السياسي والدبلوماسي، حيث تسعى الإدارة الجديدة إلى تقديم سوريا كبلد استقرار وليس ساحة للصراعات بين الدول، انطلاقا من قناعة بأن استقرار سوريا يمثل مفتاحا لاستقرار المنطقة كلها.
والمحدد الثالث، يرتبط بتحديات الإدارة نفسها، إذ اضطرت إلى تبني نموذج إدلب، ليس لأنه النموذج الأمثل أو الأكثر كفاءة، بل لأنه يمثل الخيار الأكثر أمانا في المرحلة الحالية لتحقيق الاستقرار المؤقت.
أما المحدد الرابع فيرتبط بالجانب المجتمعي سواء الشق الخدمي وتحديد الأولويات وتقديم حلول ملموسة لقضايا ملحة مثل ملف الطاقة والأمن الغذائي وتأمين الرواتب، أو فيما يتعلق بالسلم الأهلي والتعامل بحس الدولة مع قضايا حساسة مثل الأقليات.
وبحسب طلاع تواجه الإدارة الجديدة تحديات كبيرة في تحقيق التوازن بين الداخل والخارج، ومن أبرز هذه التحديات كيفية التعامل مع الدول التي تبدي توجسا كبيرا من أي نموذج حركي للإسلام، مثل مصر.
ووفقا لمعطيات طلاع، فإن محاولة إرسال رسائل إيجابية للقاهرة لطمأنة مخاوفها تتعارض مع قرار ترفيع شخصية مطلوبة على قوائم الأمن القومي المصري إلى منصب قيادي برتبة عميد.
لكن في الوقت نفسه، تواجه الإدارة تحديا داخليا يتمثل في كيفية التعامل مع القوى التي قاتلت إلى جانب الشرع وواكبت جميع التحولات، وإيجاد طريقة لإبلاغها بأن دورها قد انتهى دون أن يؤدي ذلك إلى اضطرابات داخلية تهدد استقرار الإدارة الجديدة.
وأشار طلاع إلى إمكانية اتخاذ الشرع استراتيجية سياسة "DDR" حيث يتم استيعاب هذه القوى مؤقتا قبل إخراجها تدريجيا من المشهد، وهو النهج الذي استخدمه سابقا في إدلب (ضد عناصر القاعدة)، لكن يبقى التساؤل عما إذا كانت دول مثل مصر والإمارات والأردن ستفهم هذه الرسائل وتبني عليها للتصالح مع الإدارة الجديدة.
ويرى طلاع أن الدول العربية تعتبر جزءا من معادلة التوازن، فيدرك الشرع أن هذه الدول تعاني من توجس تجاه ما قامت به "تحرير الشام"، حيث يحاول إيصال رسالة واضحة، بشكل مباشر أو غير مباشر، تؤكد على أهمية الدور العربي في تحقيق التوازن مع الدور التركي وخلق مساحة لوجود عربي فاعل يوازي الدور التركي في سوريا.
ويتابع أن "لعبة التوازن هنا تعتمد على قدرة الشرع على إدارة هذه المساحة بما يضمن تعزيز الوجود العربي من دون تعريض التوازنات الإقليمية للخطر".
من جانبه يرى الدبلوماسي السوري السابق بسام بربندي أن الدول العربية وخاصة الإمارات ومصر والأردن متخوفة من التيار الإسلامي، خاصة إذا كان هذا التيار يحمل طابعا متشددا أو يتبنى فكر تصدير الثورة.
واعتبر أن هذه الدولة مستعدة للتعامل مع سوريا الجديدة واحتضانها ودعمها، بشرط أن تكون القيادة في سوريا تتسم بالاعتدال والانفتاح، وفي الوقت ذاته، تحرص هذه الدول على تحقيق توازن مع تركيا لضمان أن سوريا الجديدة لا تتحول إلى ولاية تركية أو تقع بالكامل ضمن نفوذ أنقرة.
وفيما يتعلق بالتعامل مع دول الاتحاد الأوروبي التي ستلعب دورا مهما في تمويل وإعادة إعمار سوريا، أكد بربندي أن الأوروبيين هدفهم الحقيقي والجوهري في سوريا هو إعادة اللاجئين وبالتالي يحرصون على أن يكون هناك استقرار اجتماعي وسياسي واقتصادي في سوريا.
وتسعى الإدارة السورية الجديدة إلى تحقيق توازن في التعامل مع دول الاتحاد الأوروبي، بحسب طلاع، عبر التركيز على توفير بيئة آمنة تضمن عودة اللاجئين، فالشروط التي وضعها الأوروبيون، خاصة المتعلقة بخروج روسيا من سوريا، تبدو صعبة التنفيذ، لكن من المحتمل أن تواجهها الإدارة بتقديم خطوات ملموسة في ملف اللاجئين وتحقيق الاستقرار الأمني.
ويخلص طلاع إلى أن الشرع يدير لعبة توازن دقيقة للغاية وحادة جدا في ظل أوضاع إقليمية حساسة، حيث يكمن جوهر هذا التوازن الذي يعمل عليه أن كل دول الإقليم تسعى لاستقرار سوريا، ورغم أن بعض هذه الدول، بما فيها الولايات المتحدة، قد لا تفضل استمرار هذه الإدارة الحالية، لكن الأولوية الإقليمية تتركز على إنهاء النزاع وضمان استقرار سوريا بعيدا عن النفوذ الإيراني.
المصدر: مأرب برس
كلمات دلالية: السوریة الجدیدة الإدارة الجدیدة سوریا الجدیدة الدول العربیة الشرق الأوسط هذه الدول فی الشرق مع الدول مع روسیا فی سوریا من سوریا
إقرأ أيضاً:
باحث سياسي: من مصلحة الدول الأوروبية أن تبحث في مستقبل سوريا
تحدث بشير عبد الفتاح، الكاتب والباحث السياسي، عن آخر تطورات الأوضاع في سوريا في أعقاب سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، مشددًا على أن هناك رغبة واضحة من قبل الدول الأوروبية في التواصل مع الإدارة السورية الجديدة، مؤكدًا أن زيارة وزيري خارجية ألمانيا وفرنسا إلى سوريا تمثل زيارة للاتحاد الأوروبي بأكمله إلى سوريا.
وأوضح وفي حواره مع الإعلامية فاتن عبد المعبود في برنامج "صالة التحرير"، الذي يُبث على قناة "صدى البلد"، قال عبد الفتاح، أن هذه الزيارة تمثل خطوة هامة نحو التقارب الأوروبي مع سوريا، مؤكدًا أن أهم دولتين في الاتحاد الأوروبي زارتا سوريا خلال الفترة الماضية بعد سقوط نظام بشار الأسد وتولي الإدارة الجديدة مقاليد الحكم.
وشدد على أن هذه الزيارة تُظهر أن الأوروبيين عازمون على التواصل مع الإدارة السورية الجديدة بعد فترة طويلة من العزلة، متابعًا: “هناك العديد من القضايا التي تشغل الاتحاد الأوروبي بشأن سوريا”.
ونوه بأنه من أبرز الشواغل الأوروبية اللاجئين السوريين في أوروبا، بالإضافة إلى القضايا المتعلقة بـ الأقليات وحريات وحقوق المرأة وحقوق الإنسان، مؤكدًا أن أوروبا قد تأثرت بشكل كبير من تداعيات الإرهاب.
وأشار إلى أن من مصلحة الدول الأوروبية أن تبحث في مستقبل سوريا تحت قيادة الإدارة السورية الجديدة.