وداعًا يا صديقي.. وداعًا أبا هيثم
تاريخ النشر: 5th, January 2025 GMT
علي بن سالم كفيتان
تلقيتُ خبرًا صادمًا صباح الأحد، بفقدان صديق عزيز عرفته عن قرب، وعملنا لسنوات معًا، وظل تواصلنا مع كل انقطاع قائماً؛ لأنَّ أبا هيثم شخصية نادرة بكل المقاييس، أخلاق جمة وارتكاز على إرث اجتماعي أصيل، جُبل على انتقاء المواقف الصحيحة في أصعب الظروف، والاصطفاف إلى جانب الحق، والحفاظ على اللحمة، والعمل بتفانٍ وشغف مع كل المحيطين به منذ 30 عامًا ونيف.
تزاملنا في أروقة جامعة السلطان قابوس، وعرفته كإنسان مُحب للجميع، على استعداد لتقديم التضحيات، مهما كان عظمها، قذفته الحياة واختبرت صبره على بلائها، فوجدته صلبًا جلدًا لا يلين. يمنحك أبو هيثم الابتسامة في أحلك الظروف، ويرى دائمًا النور في نهاية النفق، لديه حضور لافت بين أهله؛ حيث كان شخصية وازنة، مستندًا إلى إرث أسرته العريقة (بيت أرعيب) ومواقف خالدة لعمه الشيخ محاد بن أرعيب العمري- عليه رحمة الله- قدم الكثير لولايته مرباط، من خلال لجانها وفرق عملها، رغم مرضه العضال. رحمك الله يا صديقي.
لم يكن مرضه وفشل كليتيه عن العمل عائقًا؛ بل كان حافزًا لكي يُلهم الآخرين الثبات والصبر. وما زلت أذكر شجاعة وإقدام أخيه بخيت- حفظه الله- في أواخر القرن الماضي، عندما تبرع له بإحدى كليتيه، رغم أنَّ عمليات نقل الكلى في تلك الفترة كانت في بداياتها ونسبة فشلها عالية، لكن توفيق الله منح أبا الهيثم فرصة جديدة من العطاء والتأثير الإيجابي، لكل من عرف المهندس سعيد بن مسلم أرعيب العمري ذلك الشاب الذي ذرع الصحاري والقفار في مستهل حياته العملية في وزارة موارد المياه (سابقًا)، ومشاركته في مشروع حصر الموارد المائية في عُمان، مع ثلة من زملاء دكة جامعة السلطان قابوس، فكان العمل عظيمًا، والنتيجة مبهرة. ما زلت أتذكر عندما كنت ألقاه وهو يسوق سيارة الميدان الممتلئة بالأجهزة والمعدات الفنية، مبتسمًا وهو في طريقه لتخوم الربع الخالي ومفازات سلسلة جبال ظفار، في الوقت الذي كنت أنا أحمل همًا آخر وهو العمل البيئي، نلتقي بعد كل جولة نخوض فيها مجاهيل عُمان، نتحدث في أحد المقاهي في صلالة، ولا نحس بالوقت؛ فجُل الحديث عميق، والشغف لا يُفارق ما نقوم به من قول أو عمل. كان الجهاز البارز تحت جلد إحدى يديه يذكره بأيام غسيل الكلى، وكنت أسأله: لماذا لم يتم إزالته بعد نقل الكلية؟ فكان يجيبني قد يحتاجونه يومًا يا صديقي.
قادتنا الأقدار للانضمام معًا في العمل، بعد دمج وزارة موارد المياه مع قطاع البيئة، وأقنعته- بإلحاحٍ شديدٍ- بالانتقال معي في صون الطبيعية؛ فوافق، وبدأنا رحلة جديدة معًا، استمرت أكثر من 20 عامًا، شغل خلالها مواقع مُهمة وحساسة في حماية الحياة الفطرية، وساهم في بناء أعمال الرقابة في ظفار، وعمل بإخلاص قلّما تجده في غيره، لبناء فريق عمل متماسك، يذود عن مفردات حماية الحياة الفطرية في ظفار. التف حوله الجميع بشخصيته الجامعة وحضوره اللافت ورأيه السديد. استخدم أبو هيثم إرثه الأسري العريق لإيجاد حلول وتوافقات لأصعب القضايا التي يكون طرفها المجتمع؛ فرسم صورة مُشرقة وأسلوب عمل نادر، استطاع من خلاله كسب المجتمعات المحلية واصطفافها إلى جانب صون الطبيعة. كان أبو هيثم توافقيًا حصيفًا لا يعلو صوته مطلقًا، وأعرف أنه غاضبٌ، عندما أرى ابتسامة غامضة على محياه في وسط حوار صاخب في قضية ما، يدور الجدل فيها عن حماية بيئة ومجابهة المعتدين على مفردات الحياة الفطرية.
خاض أبو هيثم صراعًا آخر غير المرض، وهو سعيه لإدماج أصحاب الإعاقة السمعية في التعليم العام، ومن ثم التعليم العالي في ظفار، حتى انتصر وتخرّج هيثم مع أول دفعة من المعاقين سمعيًا قبل شهرين من جامعة ظفار، وأصبح أيقونة للنجاح، فكل شاشات العرض في ولاية صلالة على الشوارع والطرقات العامة، عرضت ذلك الشاب المُفعم بالحياة وهو يروي قصته بإشارات وحركات تُجبرك على الوقوف والتحية لمن كان خلف هذا الإنجاز. توقفت الكُلية وعاد أبو هيثم لرحلة الغسيل المرهقة منذ عامين، وكان آخر تواصل بيننا قبل شهر عبر صوتيةٍ، باركت له فيها تخرج هيثم، وسألته عن حاله، فرَّد عليَّ شاكرًا، وطمأنني بأنَّ برنامجه العلاجي في تركيا يسير على خير ما يُرام. وفي صباح يوم الأحد الشتوي الكئيب، تلقيتُ خبر وفاته.. رحمك الله يا صديقي ورفيق دربي.. لن أنساك ما حييت أبو هيثم.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
إهداء الأعمال الصالحة للغير.. الإفتاء تكشف هل يصل ثوابها للمتوفى
إهداء العمل الصالح للغير وهل يصل أجرها إلى الميت أم لا؟ من أبرز الأسئلة التي أجابت عنها دار الإفتاء المصرية حيث يود كثيرون إهداء ثواب الأعمال الصالحة للميت عن طريق التبرع أو الصيام أو أداء الحج بالإنابة عن المتوفي.
وفي السطور التالية نتعرف على حكم الشرع إهداء ثواب العمل الصالح للغير حيث يعرض "صدى البلد" آراء المذاهب الفقهية حول هبة ثواب القُرُبات للأحياء والأموات.
وفي هذا الإطار، أكدت دار الإفتاء المصرية، أنه يجوز شرعًا هبة مثل ثواب الأعمال الصالحة للغير مطلقًا، ويصل إليه بإذن الله؛ لأن الكريم إذا سُئِل أعطَى وإذا دُعِيَ أجاب.
واستشهدت دار الإفتاء، بما رويه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضحَّى بكبش أقرن، وقال: «هذا عنِّي، وعمَّن لم يُضَحِّ من أمَّتي» أخرجه الإمام أحمد في "المسند"؛ فقد جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثواب الأضحية لمن لم يُضَحِّ من أمته، ومثله سائر القُرَب؛ لاشتراكها في معنى القربة؛ فهو تعليم منه صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ الإنسان ينفعه عمل غيره، والاقتداء به هو الاستمساك بالعروة الوثقى.
لمن صام رمضان والست من شوال.. تعرف على علامات قبول العمل الصالح
أعمال صالحة يصل ثوابها للميت ما عدا فعل واحد .. الإفتاء تكشف عنه
خطيب المسجد الحرام: من علامات قبول العمل الصالح وقوع الحسنة تلو الأخرى
ازاي ربنا هيحاسب غير المسلمين على أعمالهم الصالحة؟.. علي جمعة يجيب
وذكرت الإفتاء، آراء المذاهب الفقهية في إهداء ثواب الأعمال الصالحة للميت ومنها:
نصَّ فقهاء الحنفية والحنابلة على جواز هبة ثواب القُرُبات للغير مطلقًا، سواء كانت تلك القربة ممَّا تقبل الإنابة أم لا، وسواء كانت الهبة للأحياء أم للأموات.
قال الإمام الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (2/ 212، ط. دار الكتب العلمية): [مَن صام، أو تصدَّق، أو صلَّى، وجعل ثوابه لغيره من الأموات أو الأحياء جاز، ويصل ثوابها إليهم عند أهل السُّنَّة والجماعة] اهـ.
وقال العلامة ابن عابدين الحنفي في "رد المحتار" (2/ 595، ط. دار الفكر): [مطلب في إهداء ثواب الأعمال للغير: (قوله: بعبادة ما) أي سواء كانت صلاة أو صومًا أو صدقة أو قراءة أو ذكرًا أو طوافًا أو حجًّا أو عمرة، أو غير ذلك من زيارة قبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والشهداء والأولياء والصالحين، وتكفين الموتى، وجميع أنواع البر، كما في "الهندية" ط. وقدمنا في الزكاة عن "التتارخانية" عن "المحيط" الأفضل لمن يتصدق نفلًا: أن ينوي لجميع المؤمنين والمؤمنات؛ لأنها تصل إليهم ولا ينقص مِن أجره شيء] اهـ.
وقال الإمام البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع" (2/ 147، ط. دار الكتب العلمية): [(وكل قربة فعلها المسلم وجعل ثوابها أو بعضها كالنصف ونحوه) كالثلث أو الربع (لمسلم حيٍّ أو ميت: جاز) ذلك (ونفعه ذلك لحصول الثواب له)] اهـ.
وقال العلامة الرحيباني الحنبلي في "مطالب أولي النُّهى" (1/ 936، ط. المكتب الإسلامي): [(وكل قربة فعلها مسلم وجعل) المسلم (بالنية، فلا اعتبار باللفظ، ثوابها أو بعضه لمسلم حي أو ميت: جاز، ونفعه ذلك بحصول الثواب له، ولو لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)، ذكره المجد. (من): بيان لكل قربة (تطوع وواجب تدخله نيابة كحج) أو صوم نذره ميت (أو لا) تدخله نيابة، (كصلاة ودعاء واستغفار وصدقة) وعتق (وأضحية وأداء دين وصوم) غير منذور، (وكذا قراءة وغيرها)] اهـ.
بيان مذهب المالكية والشافعية في إهداء العمل الصالح للغيربينما قصر فقهاء المالكية والشافعية جواز إهداء الثواب للغير على ما يقبل الإنابة؛ كالصدقة والدعاء، أمَّا ما لا يقبلها؛ كالصلاة والصوم فلا.
قال العلامة الدردير في "الشرح الكبير" (2/ 10، ط. دار الفكر): [(و) فُضِّل (تطوُّع وليِّه) أو قريبه مثلًا، يعني ولي الميت (عنه) أي عن الميت، وكذا عن الحي (بغيره) أي بغير الحجِّ (كصدقة ودعاء) وهدي وعتق؛ لأنَّها تقبل النيابة، ولوصولها للميت بلا خلاف، فالمراد بالغير غير مخصوص وهو ما يقبل النيابة كما ذكر، لا كصوم وصلاة، ويكره تطوُّعُه عنه بالحجِّ كما يأتي، وأمَّا بالقرآن فأجازه بعضهم وكرهه بعضهم] اهـ.
وقال الإمام الماوردي في "الحاوي الكبير" (15/ 313، ط. دار الكتب العلمية): [أمَّا الصيام عن الحيِّ: فلا يجوز إجماعًا بأمر أو غير أمر، عن قادرٍ أو عاجزٍ؛ للظاهر من قول الله تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى﴾ [النجم: 39]، ولأنَّ ما تمحَّض من عبادات الأبدان لا تصحُّ فيها النيابة، كالصلاة، وخالف الحج؛ لأنَّه لمَّا تعلق وجوبه بالمال لم يتمحَّض على الأبدان، فصحَّت فيه النيابة كالزكاة] اهـ.