دمشق.. من قيود النظام إلى آفاق التحرر الاقتصادي
تاريخ النشر: 5th, January 2025 GMT
شهدت دمشق، مدينة التجار العريقة، تحولا اقتصاديا جذريا عقب سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي. فحيثما تلفَّتَّ تجد سوقا وحركة تجارية، في مشهد لا يعد غريبا على تلك المدينة التي غلبت عليها طبائع التجارة منذ الزمن الروماني إلى يومنا هذا.
بَيد أن هذه التجارة مرت بأطوار كثيرة، وأسوأ أطوارها على الإطلاق هي ما كان في ظل نظام حكم الأسد الأب والابن، والأشد سوءا كان ذلك الذي مرت به التجارة في دمشق منذ 14 عاما إلى لحظة سقوط النظام.
عمل النظام على تشكيل لوبيات عائلية تشارك التجار تجارتهم في كل شيء، وتتدخل في حركة التجارة والسوق، وترسم الدورة التجارية بما يحقق مصالحها. لذا خلال السنوات الأخيرة، شهدت السوق التجارية ضعفا هائلا.
ولأن "رأس المال جبان" فكثير من رؤوس الأموال غادر البلاد لأن البيئة الاقتصادية طاردة للمال ولأصحابه، فلا تُتخذ قرارات الاستثمار في مكان تظهر به مؤشرات القلق أو الاضطراب.
علاوة على ذلك، عرفت فترة حكم آل الأسد حالة من احتكار التعامل بالدولار، فقد اعتبر حينها وجود العملة الأميركية في جيوب التجار بمثابة جريمة تستحق الإخفاء.
وقبل شهر واحد من سقوط النظام تم إخفاء العديد من التجار بتهمة التعامل بالدولار، وفُقدت البضائع والسلع من الأسواق.
إعلانوكان الوقود مثل الزئبق الأحمر، نادرا للغاية وصعبًا الحصولُ عليه، في حين لا يملك السوريون أي مقوم من مقومات التدفئة أو الحركة إلا بالحد الأدنى الذي لا يكاد يكفيهم من المازوت (السولار) والبنزين والغاز، إضافة إلى ارتفاع الأسعار، واحتكار السلع الغذائية الرئيسية.
فور سقوط نظام بشار الأسد، أصبح سعر الدولار اليوم 13 ألف ليرة في تحسن ملحوظ ومشهود للعملة السورية (الأناضول)الدولار ومفاجآت تجارية أخرى
وبعد الإطاحة بنظام بشار، كانت المفاجآت الأولى تجارية صرفة، فبعد يوم واحد من سقوط النظام أصبح التعامل بالدولار علنيا وفي الشارع.
وبات الأطفال يسيرون في شوارع دمشق يحملون رزم الليرات السورية وهم ينادون بأعلى صوت: "صراف…صراف"، في مشهد يمثل حالة الانعتاق الاقتصادي من نظام اقتصادي سابق إلى نظام اقتصادي جديد.
هذا الدولار الذي طالما تعامل به الناس بسرية تامة، كما لو أنهم يتبادلون شيئا من المخدرات الممنوعة. تلك المخدرات التي اشتهر النظام بتصنيعها وتصديرها للعالم. الأمر الذي أكدته تقارير عده، بعد العثور على كميات كبيرة من أقراص "الكبتاغون" المكدّسة في مستودعات وقواعد عسكرية.
لم يكن الدولار هو السلعة الأولى أو المادة الأولى التي تتحرر بعد تحرر الشعب من قيود النظام، بل تحررت أيضا بقية السلع، فأصبحتَ تسير في الشارع فتجد عبوات المازوت (السولار) والبنزين مرصوفة على جانبي الشارع يبيعها الناس. وأصبح الغاز يباع في الشوارع في مشهد لم يألفه الناس منذ 14 عاما، وهم ينظرون إليه ولا يصدقونه.
كانت سوريا ربما هي الدولة الاستثناء في سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار بعد سقوط نظام بشار الأسد. فكل الدول التي تسقط فيها الأنظمة تتهاوى العملة، بينما كان الأمر هنالك مختلفا.
فقبل بدء عملية ردع العدوان بأشهر عديدة، كان سعر الدولار يساوي 18 ألف ليرة. بينما ساءت حالته خلال عملية ردع العدوان، وتهاوت الليرة السورية حتى بلغت 28 ألف ليرة للدولار الواحد. وفور سقوط نظام بشار الأسد، أصبح سعر الدولار اليوم 13 ألف ليرة في تحسن ملحوظ ومشهود للعملة السورية.
إعلانرافق ذلك التحسن انخفاض ملحوظ في أسعار السلع شعر به الجميع، فالموز، السلعة التي يتندر السوريون اليوم بأنها كانت "عزيزة، فذلّت"، كان قد وصل سعر الكيلو منه قبل سقوط النظام بيوم واحد إلى 50 ألف ليرة، أما اليوم فتراه ينتشر على العربات في الطرقات وقد أصبح الكيلو منه بـ10 آلاف فقط.
بالإضافة إلى انخفاض أسعار السلع الأساسية كـ"السكر والأرز والشاي" بشكل ملحوظ وبنسب واضحة، وهذا كله جرى في الأسبوع الأول فقط من سقوط بشار الأسد، مما عدّه السوريون إنجازا اقتصاديا عاجلا.
أما في سوق الإلكترونيات، فقد أعلن عن إلغاء ما يسمى "جمركة الهاتف"، وهي ضريبة كان يفرضها النظام السابق على الهواتف المستوردة تجعل سعر الهاتف ضعفي أو 3 أضعاف ثمنه.
وقد أدى الإجراء الجديد إلى انخفاض أسعار الهواتف، وشجع الشباب على شرائها بشكل ملحوظ جدا، وأتاح الفرصة أمام الجميع للحصول على الهاتف الذي يريد.
وعلى صعيد أسواق السيارات، أشتهر ارتفاع أسعار المركبات في مناطق النظام، حتى إن بعض السيارات القديمة المتهالكة كانت تبلغ 20 ألف دولار. ومع سقوط النظام، ازدهر هذا السوق بشكل مختلف، ودخلت سيارات كثيرة أكثر حداثة من شمال سوريا، من المناطق المحررة، بينما بلغ سعر السيارة الحديثة بين 3 آلاف دولار و5 آلاف دولار، علاوة على الحرية الكبيرة في الحركة قبل الترسيم لـ3 أشهر.
رفع الرواتب ووعود اقتصادية
كل هذا التحسن جرى في أسبوع واحد، مع وعود اقتصادية يصدقها المواطنون اليوم بأن رفع الرواتب سيكون مع بداية الشهر القادم، أي بعد أيام يسيرة، بنسبة 400%.
فالحكومة الجديدة تسعى إلى سن سياسات اقتصادية جديدة، تعمل على تحرير السلع، ورفع الدعم، وخفض الضرائب، وخفض الرسوم الجمركية بالتوازي مع رفع الرواتب.
كل هذا يسير وفقا لمنظور اقتصادي جديد يهدف لجعل السوق سوق منافسة، لإنعاش هذا الاقتصاد مرة أخرى.
إعلانوعلى الرغم من ذلك، يظل هناك تخوف يؤرق أصحاب المصانع في سوريا، خشية تدفق البضائع الأجنبية إذا ألغيت الضرائب بنسبة كبيرة، مما سيكون له بالغ التأثير على حماية المنتج الوطني، غير القادر على المنافسة، لا سيما في ظل بلد خارج من حرب طاحنة أكلت الأخضر واليابس.
وما زالت إلى اليوم، الحكومة الجديدة تناقش تلك القضية في لقاءاتها مع الصناعيين ومع غرف التجارة.
وأمام كل ذلك، تظل هناك فرصة ذهبية بين يدي القيادة الجديدة لإبراز الإنجازات الاقتصادية التي عملت عليها وما زالت، في حين أنها تسلمت بلدا متهالكا متهاويا.
فأي شيء يمكنها أن تضعه في هذا البلد من المال أو الإصلاحات الصغيرة، سيبرز على أنه إنجاز اقتصادي، مما سيعزز من شرعيتها والحاضنة الشعبية لها والتفاف الجماهير حولها.
وجدير بالذكر أن القيادة الجديدة حين قدومها وضعت في خطتها أن يكون تطوير دمشق على نهج ما فعلت في إدلب اقتصاديا.
ويترقب الناس المستقبل الجديد لسوريا، ويأملون الأفضل في ظل القيادة الجديدة، فهم يرون أن لا قادم أسوأ مما عاشوه من حضيض، وأن أي فعل أيا كان سيكون في صالحهم.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات سقوط نظام بشار الأسد سقوط النظام ألف لیرة
إقرأ أيضاً:
“الدموية في نظام بشار الأسد: قراءة في ضوء علم النفس السياسي”
“الدموية في #نظام_بشار_الأسد: قراءة في ضوء #علم_النفس_السياسي”
بقلم الكاتبة #هبة_عمران
لطالما كان علم النفس السياسي أداة لفهم السلوكيات القمعية للأنظمة الدكتاتورية، ولا يمكن تجاوز شخصية بشار الأسد دون تحليلها ضمن هذا الإطار. فمنذ وصوله إلى السلطة، طبع الأسد نظامه بالدموية والعنف الممنهج، ما يثير تساؤلات حول العوامل النفسية والسياسية التي تغذي هذا السلوك.
الأسد: الشخصية السلطوية وآليات الدفاع النفسي
مقالات ذات صلة ما بعرفن ! 2025/02/03يظهر بشار الأسد كحاكم سلطوي، تتجذر في شخصيته ميول نرجسية واضحة. يحرص دائمًا على تصدير صورة الحاكم القوي الذي لا يتزعزع أمام الضغوط. لكن خلف هذه القشرة، يمكن رصد انعدام أمان داخلي مرتبط بعقدة الخوف من فقدان السيطرة، وهي سمة تتكرر في الشخصيات التي تصل إلى السلطة دون شرعية شعبية حقيقية.
وفقًا لعلم النفس السياسي، يميل القادة الذين يعانون من انعدام الثقة بالنفس إلى التعويض عن ذلك بالعنف المفرط لإخضاع الخصوم وبناء ولاء قائم على الخوف.
الدموية كوسيلة للبقاء في السلطة
يتجلى السلوك الدموي للأسد في السياسات التي تبناها خلال الثورة السورية، حيث اعتمد على القتل والتدمير كوسائل لإسكات المعارضة. هذا السلوك ليس مجرد استراتيجية سياسية باردة؛ بل هو انعكاس لتراكمات نفسية تتسم بالبارانويا والخوف المستمر من المؤامرات.
علم النفس السياسي يفسر هذا السلوك باعتباره وسيلة لحماية الذات من تهديدات حقيقية أو متخيلة، حيث يصبح العنف هو الحل الوحيد للتخلص من أي مقاومة محتملة.
الإرث الأسري وتأثير البيئة المحيطة
لا يمكن فهم شخصية الأسد دون الرجوع إلى إرث والده، حافظ الأسد، الذي أسس نظامًا قائمًا على الرعب والولاء الأعمى. بشار، الذي نشأ في هذا المناخ، تشرب أساليب الحكم القائمة على القوة المطلقة. هذه التنشئة انعكست في سلوكه، حيث يرى في القمع المفرط وسيلة “طبيعية” لضمان الاستقرار.
النتائج النفسية على المجتمع السوري
علم النفس السياسي لا يكتفي بتحليل شخصية الحاكم، بل يمتد إلى دراسة تأثير سلوكياته على شعبه. النظام الدموي للأسد خلق مجتمعًا مثقلًا بآثار الصدمة الجماعية، حيث يعيش السوريون في حالة من القلق المستمر، تفكك النسيج الاجتماعي، وتراكم الكراهية بين الطوائف.
خاتمة
من خلال قراءة دموية بشار الأسد في ضوء علم النفس السياسي، يتضح أن العنف الذي ينتهجه ليس مجرد أداة حكم، بل هو انعكاس لأزمة نفسية عميقة. سلوك الأسد يوضح كيف يمكن للجوانب النفسية لشخصية القائد أن تشكل مصير أمة بأكملها، محولة السلطة إلى مصدر رعب وعنف بدلًا من أن تكون أداة لخدمة الشعب.