تتنوع أساليب السرد السينمائي بتنوع التجارب السينمائية، وعلى الرغم من تخطي أساليب السرد الأكثر واقعية عبر تاريخ تلك التجارب وتوالي المنجز السينمائي من حول العالم إلا أن ما يلفت النظر هو العودة إلى ذلك السرد الواقعي والشخصيات الأكثر واقعية والتي يمكن تلمس حياتها وسيرتها من خلال يوميات تتوالى فيها الأحداث التي تكشف عن الشخصية ودوافعها.

من هنا يمكن النظر إلى هذا الفيلم الحديث للمخرج تيم ميلانتس وهو يقدم النجم الايرلندي الشهير سيليان ميرفي في دور جديد ربما يكون مختلفا عن كثير من أدواره السابقة التي برع فيها.

تدور أحداث هذا الفيلم في إحدى البلدات الصغيرة في أيرلندا خلال ثمانينيات القرن الماضي، حيث يقدم لنا حكاية بيل فلورنس – الممثل ميرفي، متعهد نقل الفحم، الذي يعيش حياة بسيطة وهادئة، مكرسًا نفسه لأسرته وعمله.

هذه الحياة التي تم تشخيص خطوطها الأساسية الواضحة هي التي تأسس في موازاتها ذلك النوع من السرد الفيلمي الذي من أسسه ومقوماته يوميات معتادة ممتزجة بذكريات الماضي وبحياة شخصيات موازية تعيش على الهامش وتدفع ضريبة سطوة مجتمع متشدد لا يرحم.

على وفق هذه الأركان الثلاثة تم بناء خطوط السرد السينمائي التي بدت متوازية ومنسجمة مع ما رسمه السرد الروائي الذي سطرته الكاتبة كلير كيغان حيث تم تحويل تلك الرواية إلى فيلم على يدي كاتبة السيناريو ايلدا والش والتي برعت في رسم مسارات سردية متنوعة ولكنها بدت أكثر واقعية وتعبيرا عن ظروف اجتماعية صارمة تحف بالشخصيات.

فعلى الرغم من الحياة الوديعة والهادئة التي يعيشها بيل والتي تبدو واضحة التفاصيل من فرط تكرارها، فها هو يدور على العديد من الأماكن إما لتفريغ الفحم أو تحميله، على الرغم من ذلك إلا أن تلك القوقعة شديدة القتامة التي يغرق فيها بل إنها غالبا ما أعادته إلى ما يريد الانصراف عنه ونسيانه وهو الذي يتعلق بشخصه وذكرياته وفقد والدته ووطأة المجتمع تجاهه.

ها هو يتوقف في وسط الطريق لتفقد صبي وسؤاله عن عائلته ثم يهديه مبلغا بسيطا ليساعد والديه وهو يعلم ما تعانيه تلك العائلة من فقر ثم يمتزج ذلك بحواره مع بناته الأربع اللائي تسألنه عن ذلك الصبي لكنه يرفض المضي في شرح ما جرى بينهما.

هنالك في هذا الركن المخفي جانب من عذابات الذات وهي ليست إلا انعكاسا لإحساس عميق بعذابات الآخرين، فهنالك فئات هشة ومنسية وكان هو قد ذاق ذلك وتجسم أمامه بعد فقد والدته ولهذا فإنه ملاحق بصورتها وهي مسجاة على جانب الطريق وقد لفظت أنفاسها.

وفي موازاة ذلك فإن يوميات بيل كلها يجري رسمها إضائيا وتعبيرا في أجواء شديدة القتامة وكأن ذلك الفحم الذي يعيش معه ما هو إلا انعكاس لقتامة الواقع ولهذا تجده وهو عائد إلى منزله يستخدم فرشاة لإزالة السواد عن أصابعه وهو يكرر ذلك مرارا فيما دورة الذاكرة تتصاعد.

في وسط تلك العتمة لابد من وجود شخصيات ما سوف تعزز البناء السردي وتستكمل تلك الخطوط السردية غير المكتملة، وهو ما سوف يتحقق فعليا وحيث يتغير مجرى حياة بيل عندما يتلقى طلبًا لنقل الفحم إلى دير تديره الكنيسة.

هناك، يكتشف وجود فتاة محتجزة، وهو ما سوف يدخله في معضلة أخلاقية، ويشعل داخله صراعًا بين أفضلية التزامه بالصمت أو تحمل تبعات إنقاذ الفتاة وحيث يتلقى تهديدا مباشرا من الكنيسة ونصيحة ألا يتدخل فيما لا يعنيه وحيث إن الظاهر أن تلك الكنيسة تشغل فتيات فقيرات في غسيل الملابس بينما يقع هنالك في الخفاء الكثير من العبودية والتعذيب واحتقار آدمية تلك الفتيات وهي الإشكالية التي يغرق فيها بيل عاجزا عن الخروج منها.

وفي هذا الصدد، يقول الناقد ديمتريوس ماثيو من موقع ارت ديسك، "هناك الكثير مما يمكن ملاحظته والإشادة به في هذا الفيلم، فهو فيلم حساس ومصوّر بشكل رائع ومؤثر مقتبس من رواية كلير كيغان الشهيرة، وإن أكثر ما يلفت الانتباه في الفيلم هو ما يمكن أن أسميه بغموض التمثيل، وخاصة قابلية بيل للتنقل بين المواقف المختلفة؛ قد نطلق على هذا موهبة أو حرفة، من خلالها تم تقديم قصة عن موضوعات تتعلق بالقيم الإنسانية والمعاناة الاجتماعية والأخلاقية".

ما يلفت النظر أيضا أن الفيلم يحمل في جانب آخر منه، قصة فضيحة اجتماعية منكرة، سوف يكون بيل سببا إضافيا في التعريف بها، فهو موقف رجل واحد ضد شرور ما عرف تاريخيا بمغاسل ماجدالين سيئة السمعة في أيرلندا.

أما الناقد روجر روبنسون من موقع رايترز موزاييك، فيقول إنه "يمكننا الحديث عن جوانب التميز في هذا الفيلم من زوايا مختلفة، فهو لا يتفوق في ترجمة الرواية إلى السينما فحسب، بل إنه أيضًا تفوق للشكل السينمائي نفسه. في الظاهر، يبدو هذا الفيلم هادئًا ومتواضعًا؛

بينما تتخلل هذه الحبكة البسيطة على ما يبدو نسيج غني من الرمزية البصرية التي تضيف عمقًا إلى القصة".

واقعيا، يصبح الفحم وغبار الفحم رمزين قويين للعار الذي تتشكل ملامحه من قصة الفتاة المحتجزة وسط البرد في غرفة مهجورة، بينما يحمل بيل الفحم على ظهره وهو ينفذ كل طلبية؛ تسود يداه ووجهه بغبار الفحم، الذي يفركه كل مساء في محاولة لكي يكون متفاعلا مع أفراد عائلته المنشغلين بالحياة اليومية بينما هو يشعر بالعزلة والحزن، وعلى نحو مماثل، نجد أن الفتاة الشابة التي يجدها في الدير محاصرة ومغطاة بغبار الفحم ــ وكأن ذلك الفحم، تحول إلى رمزية للعار، لأنه يشكل جزءا من عقابها.

وتمتد الرمزية إلى الأماكن الخلفية في الفيلم. فالشوارع الضيقة المتدهورة عكست واقعا اجتماعيا مريرا، والسير فيما بينها كأنه تعبير عن لا مبالاة وبما يعني التواطؤ في تجاهل الانحلال الأخلاقي للمجتمع. وتتسع هذه الشوارع مع تنامي شعور بيل بالذنب، وكأن المساحة المحيطة به تتسع مع تزايد وعيه بمسؤولياته.

من جهة أخرى، كانت أغلب المشاهد غارقة في العتمة بينما تدور أحداث الماضي في ضوء طبيعي، وهو ما يعكس العصر الأكثر قتامة الذي كانت تعيشه أيرلندا في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، وبذلك تكاملت في ذلك الشكل السردي مسارات متعددة، حفل كل مسار بمميزات جعلته إضافة نوعية للسرد الفيلمي مما عزز المتن الحكائي السمعي – البصري.

...

إخراج: تيم ميلانتس

تمثيل: سيليان ميرفي ( بيل)، ايلين والش ( الزوجة ايلين)، ايميلي واتسون (الأخت ماري)، زارا ديفلين (سارة)

إنتاج: سيليان ميرفي، مات دامون

سيناريو: ايلدا والش عن رواية كلير كيغان

التقييمات: آي أم دي بي 7 من 10، ميتاكريتيك 82%، روتين توماتوس 93%

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: هذا الفیلم فی هذا

إقرأ أيضاً:

العلمانية في السودان- بين الواقع والطموح السياسي

تاريخٌ من التوظيف السياسي للدين
لطالما كان الدين حاضرًا في الوعي الجمعي السوداني، ليس فقط كمعتقد روحي، بل أيضًا كأداة سياسية تُستخدم لتبرير السلطة، وكسب الولاءات، وإقصاء الخصوم.
منذ عهد الدولة المهدية، مرورًا بالحكومات المتعاقبة، وصولًا إلى حكم الحركة الإسلامية بقيادة عمر البشير، ظل الدين جزءًا لا يتجزأ من المعادلة السياسية.
لكن هل يمكن اليوم، بعد ثورة ديسمبر 2019، بناء دولة قائمة على مبدأ الحياد الديني؟
الخلفية التاريخية- محاولات الجمع بين الدين والدولة
شهد السودان عدة تجارب سياسية سعت لتحقيق توازن بين الدين والدولة، ولكنها غالبًا ما انتهت بإقصاء أحد الطرفين:
الدولة المهدية (1885-1898): قامت على أساس ديني واضح، حيث تم توظيف الإسلام كمصدر للشرعية، ولكن سرعان ما انهارت بسبب الاستبداد وانغلاقها على ذاتها.
الإدارة الاستعمارية (1898-1956): فرضت حكمًا علمانيًا إداريًا، مع الإبقاء على دور محدود للزعامات الدينية.
الفترة الديمقراطية الأولى (1956-1958): شهدت جدلًا حول طبيعة الدولة، بين دعاة الدولة المدنية والتيارات الإسلامية الصاعدة.
نظام النميري (1969-1985): بدأ بميول اشتراكية، لكنه انقلب إلى الإسلام السياسي بإعلانه قوانين الشريعة الإسلامية في 1983.
حقبة الإنقاذ (1989-2019): رسّخت سيطرة الإسلاميين على الحكم، وجعلت الدين أداة لشرعنة القمع والاستبداد.

* ثورة ديسمبر 2019 والتوجه نحو العلمانية
جاءت ثورة ديسمبر 2019 كرفض واضح لاستغلال الدين في السياسة، حيث رفع الشباب شعارات تطالب بالحرية والعدالة، بعيدًا عن الخطاب الديني المؤدلج.
كان هذا تحولًا جذريًا في الفكر السياسي السوداني، حيث بدأ الحديث بجدية عن ضرورة بناء دولة مدنية تتعامل مع المواطنين على أساس المواطنة، لا الانتماء الديني.
العلمانية في المشهد السوداني
أ. ميثاق التأسيس والإشارة للعلمانية
أحد أبرز مظاهر التغيير كان الإشارة الواضحة للعلمانية في ميثاق التأسيس للحكومة الانتقالية، والذي أكد على حياد الدولة تجاه الأديان. العلمانية هنا لم تكن رفضًا للدين، بل محاولة لفصله عن الدولة لضمان عدم استغلاله سياسيًا.
ب. ردود الفعل المتباينة
الشارع السوداني: قطاع واسع من الشباب والمثقفين رحبوا بهذه الخطوة باعتبارها ضمانة للحرية والعدالة الاجتماعية.
التيارات الإسلامية: رفضت هذا التوجه بشدة، معتبرةً أنه تهديد للهوية الإسلامية للسودان.
المتاجرون بالدين: بعض رجال الدين والساسة استغلوا الجدل حول العلمانية لإثارة الفتنة وربطها بالإلحاد، مما زاد من تعقيد النقاش حولها.

تأثير العلمانية على المجتمع السوداني
أ. تحرير العقل الجمعي
العلمانية يمكن أن تشكل فرصة لتحرير المجتمع السوداني من سطوة رجال الدين الذين استغلوا الدين لتبرير الفساد والاستبداد، مما يتيح حرية أكبر في التفكير واتخاذ القرار السياسي.
ب. حماية الدين من الاستغلال
كما هو الحال في العديد من الدول العلمانية، يزدهر الدين عندما يكون بعيدًا عن السياسة. التجربة التركية والتونسية نموذج لهذا التوازن، حيث بقيت المجتمعات محافظة دينيًا رغم فصل الدين عن الدولة.
ج. مواجهة التطرف
بفصل الدين عن الدولة، يتم تقليص نفوذ الجماعات المتطرفة التي تستغل المشاعر الدينية لتحقيق مكاسب سياسية أو تبرير العنف.

التحديات التي تواجه التوجه العلماني
أ. المقاومة من التيارات الإسلامية
التيارات التي فقدت نفوذها بعد سقوط نظام البشير ستسعى لإفشال أي محاولة لبناء دولة علمانية، عبر وسائل سياسية وإعلامية ودينية.
ب. الفهم المغلوط للعلمانية
يتم الترويج للعلمانية على أنها معادية للدين، ما يجعل تقبلها صعبًا لدى شرائح واسعة من المجتمع.
ج. الانقسام المجتمعي
العلمانية قد تؤدي إلى استقطاب سياسي واجتماعي، وهو ما قد يؤثر على استقرار البلاد، في ظل هشاشة الوضع السياسي.
مواقف القوى السياسية السودانية
حزب الأمة القومي يتبنى دبلوماسية فكرة الدعم السياسي الوسط لصالح فكرة الدولة المدنية لكنه يرفض المصطلح الصريح للعلمانية.
الحزب الاتحادي الديمقراطي وهؤلاء الذين يظنون أنهم أصحاب ميل لنموذج إسلامي معتدل.
المؤتمر السوداني هنا تكمن ضبابية المواقف لصالح قضايا الجماهير
التجمع الاتحادي لا تصريح لهم في هذه القضية ولكنهم مع الاتحاداليمقراطي لديهم محاولات اللعب علي رؤوس الافاعي لتحقيق حضور سياسي
الحزب الشيوعي السوداني يدعم العلمانية بشكل كامل التساؤل المهم هنا أيضا أين طرحه لبرنامج حكم علماني في السودان
قوى الحرية والتغيير - تشهد تباينًا في مواقفها بين داعم صريح للعلمانية وبين مؤيد للدولة المدنية دون تسميتها.
أغلب الكيانات الصغيرة تعتبر قضية العلمانية يجب تأجيل مناقشتها الان لحين نهاية الحرب
منظمات المجتمع السودانية لا تعرف الكثير عن العلمانية وهي المناط بها شرح الامر لكل جماهير شعبنا تحتاج لشرح الفكر العلمانية وتطوير قدراتها اتصبح في خدمة الناس
مستقبل العلمانية في السودان الفرص والتحديات
أ. فرص النجاح
دعم الشباب والمثقفين- الثورة أظهرت رغبة قوية لدى الشباب في بناء دولة مدنية حديثة.
التجارب الدولية - دول مثل تونس أثبتت إمكانية تحقيق توازن بين الدين والسياسة في بيئة عربية إسلامية.
ب. مخاطر الفشل
ضعف المؤسسات السياسية - لا تزال البنية السياسية السودانية هشة، مما قد يعيق تنفيذ إصلاحات جوهرية.
التدخلات الخارجية- بعض القوى الإقليمية قد تعمل على إفشال التوجه العلماني لضمان استمرار نفوذ التيارات الإسلامية.
العلمانية ليست حربًا على الدين، بل وسيلة لحماية المجتمع من استغلاله سياسيًا. في السودان، يمثل هذا التوجه تحديًا وفرصة في آنٍ واحد. نجاحه يعتمد على قدرة القوى السياسية والمجتمع المدني على تحقيق توافق وطني
ومواجهة التحديات الفكرية والسياسية التي تعترض طريقه. هل يستطيع السودان تجاوز إرث الاستغلال الديني والسياسي ليؤسس لدولة مدنية حقيقية؟ الإجابة تكمن في إرادة شعبه.

zuhair.osman@aol.com

   

مقالات مشابهة

  • جورج سيدهم وصفه بـمزيكة الحي الكروي.. مصطفى يونس يرد بكلمات مؤثرة
  • توفير 289 ألف رأس من الحيوانات الحيّة لتلبية احتياجات المستهلكين
  • العلمانية في السودان- بين الواقع والطموح السياسي
  • الحلقة التاسعة من "الكابتن": حسام ينفذ طلب سحر.. و"طاطا" في مواجهة الواقع
  • النمر يكشف عن 3 أشياء يحتاج إليها قلبك في رمضان
  • شكّل قرية صغيرة من عائلته فقط.. رجل تنزاني لديه 104 أبناء و144 حفيدا! (فيديو)
  • 5 أشياء جعلت باريس سان جيرمان أفضل بعد رحيل مبابي
  • انسحاب أميركا يهدد التحول بمجال الطاقة بجنوب أفريقيا والدول النامية
  • مستوطنون يدخلون الى قبر العباد الواقع ضمن الأراضي اللبنانية في اطراف حولا
  • دراسة تكشف وجود ملعقة صغيرة من البلاستيك داخل دماغ الإنسان