العدالة الانتقالية في سوريا الجديدة
تاريخ النشر: 5th, January 2025 GMT
أكبر تحد يواجه الدول في المراحل الانتقالية هو تحقيق العدالة في ظروف سياسية واقتصادية متقلبة، ولم تُبنَ عدالة انتقالية ناجحة إلا في ظل أنظمة راسخة ولها قدر كبير من السيطرة. فالفكرة ليست في المحاكم ولا في القانون، ولكن في القوة التي تحمي تطبيق هذا القانون والتراضي المجتمعي عن هذه المحاكم وآلياتها. واليوم في سوريا يبدو التحدي كبيرا وغير مسبوق محليا ولا حتى دوليا.
وتحتمل فكرة العدالة الانتقالية ذاتها تأويلات عديدة؛ تبدأ من خطورة تحولها لأداة انتقامية وانتهاء بتفريغها من مضمونها وإفلات الجناة من العقاب ومن ثم إمكانية تكرار الجرائم بطرق آخر، والتاريخ القريب شاهد على هذا وذاك.
ينبغي التنويه بداية إلى أنه لا مشاحة في الاصطلاح، ومفهوم العدالة الانتقالية هو مرادف لرد الحقوق لأصحابها وتنظيم معاقبة الجناة أو حتى العفو عنهم طبقا لقواعد موضوعية وليس شخصية، وتعويض المضارين. وهو أمر في غاية الصعوبة في بلد أُخرج منه الملايين من بيوتهم وتشردوا، بخلاف مئات الآلاف من المعتقلين. أي أننا أمام ملايين المظالم، فأين البداية؟ وكيف تعوض كل هؤلاء المضارين؟ ورغم صعوبة السؤال فإن ثمن إهماله أفدح من البدء به والسير قدما رغم العوائق.
لقد كانت السنوات الأربع عشرة الماضية كافية لإنشاء جيل من السوريين في المهجر لديهم وعي كبير بالحقوق والحريات وآليات التوثيق بسبب الظروف التي مروا بها واضطروا للتعامل معها في دول مختلفة، وفي الوقت نفسه يمتلك المجتمع السوري المحلي آليات اجتماعية لفض المنازعات في سياقات قبلية وعشائرية ومناطقية.
وتشير كافة تجارب العدالة الانتقالية الناجزة في العالم بعد الصراعات الممتدة ومذابح الإبادة الجماعية التي مرت بها دول مثل سوريا؛ إلى أن المجتمع المحلي له دور كبير في تطبيق هذه العدالة الانتقالية. وهذا الدور يختلف باختلاف الدولة وثقافتها وظروفها، مثل المشاركة في جمع الأدلة أو تحقيق التراضي العام لنتائج هذه المحاكمات وآليات وطرق التعويض.
يمكن القول إن العدالة الانتقالية قد بدأت بالفعل في سوريا ولو بشكل غير رسمي. ويمكن تتبع ذلك في ثنايا الأخبار خلال الأسابيع الماضية، ومنها فكرة أن كل من يسلم سلاحه من عسكريي النظام السابق فهو آمن، ومنها فكرة إرجاع كثير من العقارات التي صودرت من ملاكها الأصليين لأصحابها. ولا يمكن إغفال مثل هذه الآليات البسيطة، فهي نواة هامة ومؤثرة تشير إلى أن هذا الملف لا يحتمل التأجيل ولا يحتمل أيضا القيام به بشكل صوري أو غير فعال.
من خلال قراءاتي عن كثير من تجارب العدالة الانتقالية الناجحة حول العالم، لفت نظري أمر هام وهو أن العدالة الانتقالية لم تضمن رفاهية كبيرة للبلد لكنها ضمنت الحد الأدنى لعدم تكرار المآسي الإنسانية نفسها مرة أخرى. ولذلك فإن تجارب العشرية الحمراء في الجزائر لم تتكرر بعد قانون الوئام المدني ولم تتكرر تجارب التعذيب الرهيبة في المغرب بعد قانون الإنصاف والمصالحة، كما لم تتكرر تجربة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا بعد أعمال لجنة الحقيقة والمصالحة. ولهذا فإن السقف الأدنى لأي عدالة انتقالية هي عدم تكرار ما جرى مهما كانت العوائق، وهذا سقف هام لا ينبغي التنازل عنه والتوعية به كي يكون واضحا ما أهداف كل هذه العملية.
مما لفت نظري أيضا إبداع كل مجتمع في صناعة الآليات الخاصة به. ففي أوزبكستان مثلا، وهي من الدول غير المشهورة في هذا الملف، قامت بتركيب كاميرات في بدلات الضباط وفي غرف التحقيق في أقسام الشرطة بداية من عام 2018. تسجل هذه الكاميرات كل صغيرة وكبيرة يقوم بها أفراد الأمن، وبالتالي عند ورود أية شكوى أو حدوث أي انتهاك لا تستغرق التحقيقات أوقاتا وموارد عديدة، فكل شيء مسجل. وبذلك تغلبت أوزبكستان على مشكلة انتهاكات حقوق الإنسان في أقسام الشرطة التي ظلت لسنوات عديدة مضرب المثل في الرعب في دول آسيا الوسطى. وأتصور أن السوريين لديهم القدرة على ابتكار طرق ووسائل جديدة لتحقيق هذه العدالة بشكل ناجز.
x.com/HanyBeshr
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه العدالة المجتمعي الحقوق سورية مجتمع حقوق عدالة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد اقتصاد سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة العدالة الانتقالیة
إقرأ أيضاً:
كيف يمكن احتواء المخاطر التي تتعرض لها سوريا؟.. محللون يجيبون
شدد محللون تحدثوا لبرنامج "مسار الأحداث" على أهمية المسار السياسي وتطبيق العدالة الانتقالية لمواجهة واحتواء المخاطر التي تهدد السلم الأهلي في سوريا، وقالوا إن الأحداث الأمنية في الساحل السوري لها عدة دوافع.
وتخوض قوات الأمن السورية معارك ضد فلول نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد بعد تنفيذ هؤلاء كمائن مسلحة استهدفت قوات الأمن في منطقة الساحل وأسفرت عن عشرات القتلى والمصابين.
وقال الكاتب والمحلل السياسي، محمد علوش إن ما جرى في منطقة الساحل كان متوقعا، "لكن المفاجأة الكبرى كانت في تقاطع التحركات التي تهدد استقرار الدولة في سوريا، في منطقة الساحل وفي الجنوب السوري".
ورأى أن ما جرى في منطقة الساحل يمكن قراءته محليا وخارجيا، فقد كانت هناك "محاولة لتشكيل تمرد عسكري على الدولة السورية لإخراجها من هذه المناطق"، وقال إن الخلايا التي تنشط في هذه المناطق لا تريد أن تكون جزءا من الدولة، بالإضافة إلى أن الخلايا وقادة النظام المخلوع الذين تحصنوا في هذه المناطق لا خيار أمامهم سوى التمرد لحماية أنفسهم.
كما أن التحركات الإسرائيلية في الجنوب السوري شكلت -حسب علوش- محفزا لخلايا النظام المخلوع في منطقة الساحل من أجل محاولة تشكيل التمرد المسلح.
إعلانكما أشار إلى أن التحديات التي تواجهها الإدارة السورية تتمثل في ما وصفها بالشروط القاسية التي تفرضها "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، وفي المشروع الذي قال إنه يتبلور لرفض الاندماج في الدولة الجديدة.
وبحسب الباحث السياسي عبد المنعم زين الدين، فقد كانت الأحداث متوقعة لعدة أسباب، منها عدم المحاسبة، وأن المجموعات والفلول التي تقوم بالقلاقل تحاول استعادة مكاسب فقدتها بعد سقوط النظام السابق.
احتواء المخاطروعن كيفية احتواء المخاطر التي تتعرض لها سوريا، رأى علوش أن هناك 3 مسارات يمكن للإدارة السورية الجديدة أن تعمل عليها، أولها الحزم الأمني في التعاطي مع مشكلة الفلول، باعتبار أنهم يشكلون تهديدا للسلم الأهلي، بالإضافة إلى مسار التسويات، ومسار العدالة الانتقالية.
وقال إن أكبر وسيلة لمواجهة المخاطر التي تهدد الأمن الأهلي في سوريا هي تحقيق العدالة الانتقالية ومحاسبة المتهمين بارتكاب جرائم بحق الشعب السوري خلال سنوات الصراع وفق القانون وليس وفق الأعمال الانتقامية، كما أوضح علوش.
كما أشار علوش إلى أهمية المسار السياسي، "فكلما كان هناك انخراط من جانب المكونات في عملية تشكيل مستقبل سوريا، كانت هناك قدرة للإدارة الجديدة في مخاطبة هذه المكونات وجعلها جزءا من عملية التحول".
بينما قال زين الدين إن مواجهة المخاطر تكون عبر الإسراع في محاسبة من سماهم المتورطين المجرمين في الأحداث، والتأكيد على أن ما يجري لا علاقة له بالطائفية، وأن المعركة ليس ضد أي طائفة، مشيرا إلى أن من أشعل الطائفية في سوريا هو النظام المخلوع.
وفي قراءته العسكرية للأحداث التي تعرفها سوريا، أوضح الخبير العسكري والإستراتيجي العميد إلياس حنا، أن تلك القلاقل ليست عملا منفردا وستستمر لعدة أسباب، بالنظر إلى أنها تحصل في منطقة جغرافية معينة وفي بيئة معينة، مشيرا إلى أن "القيادة السورية الحالية غير قادرة على فرض سيطرتها على كامل سوريا".
إعلانوتهدف المجموعات التي تقوم بالقلاقل -يضيف العميد حنا- إلى "جر الحكومة إلى عمل عسكري في الأماكن التي تنشط فيها حتى يقوم المجتمع بالانقلاب عليها".
ويذكر أنه بعد إسقاط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024، أطلقت السلطات السورية الجديدة مبادرة لتسوية أوضاع عناصر النظام السابق، من الجيش والأجهزة الأمنية "شريطة تسليم أسلحتهم، وعدم تلطخ أيديهم بالدم".
واستجاب الآلاف لهذه المبادرة، بينما رفضتها بعض المجموعات المسلحة من فلول النظام، لا سيما في الساحل السوري، حيث كان يتمركز كبار ضباط نظام الرئيس المخلوع. وبدأت هذه المجموعات بإثارة التوترات الأمنية وشن هجمات متفرقة ضد القوات الحكومية.