الحداثيون: ما عسانا نفعل بهذا الإسلام!
تاريخ النشر: 5th, January 2025 GMT
عبد الله علي إبراهيم
ملخص
يرهن كثير من الناس عندنا وعند غيرنا إنهاء الحرب حقاً بموارد وطنية تأخذ بناصيتها وتبلغ بها شط الأمان كما لا يفعل غيرها في العالم. وهو فأل حسن ولكن تمامه رهين بفحص دقيق لهذه الموارد التي انتخبنا منها هنا صفوة الرأي والقلم لنقف على ما بوسعها القيام به لوقف الحرب.
في يوم الجمعة قبيل استقلال السودان عام 1956، جاء المدير السوداني الأول لمديرية كردفان مكاوي سليمان أكرت إلى مسجد المدينة بجلبابه وعمامته ونزل بسيارته الحكومية يرفرف على جانبيها العلم.
لا أعرف حكاية جسدت مفهوم "الهوان الأخلاقي الاستعماري" لبازل ديفدسون، المؤرخ النبيل لأفريقيا، مثل مطلب الشيخ القرشي من مدير المديرية في دولة استقلت لتوها أن يمحو عار نازلة الاستعمار بصلاته الجمعة ولو بغير وضوء. فقال ديفدسون إن المسلم يحس بعار هذا الهوان فطرياً لتطاول حكم الكفر، يقضون أمرهم ولا يؤمنوهم في مصلاهم. وزاد ديفدسون بقوله إن الصفوة، خلافاً لعامة الناس، قبلت بهذا الهوان المذل كثمن لا بد من دفعه لاقتناء الحداثة. وخرجت لإزالة هذا العار مشاريع إسلامية أو صحوات مثل "الإخوان المسلمين"، وحتى حركة الجمهوريين لمحمود محمد طه عندنا، لا تزال تخطئ وتصيب، ولكنها جميعاً مما استمد أرقه الثقافي والروحي لتفكيك إرث الاستعمار من هذا الهوان الأخلاقي الاستعماري.
هوية الدولة
سأل أحدهم رمزاً من رموز ثورة ديسمبر 2019 بعد وقوعها بوقت قصير عما يريدون من هوية للدولة التي سينشئونها على أنقاض "دولة الإنقاذ"، وهو سؤال في صميم ما يريدون كثوار لمنزلة الإسلام في تلك الدولة. وقال الرمز إنهم سيعقدون مؤتمراً لنقاش المسألة عن قريب. وها أنت ترى تسويف هذا الرمز الحداثي في موضوع هوية الدولة لا بعد ثلثي قرن من استقلالنا وحسب، بل بعد ثلاثة عقود أيضاً من صراعهم على دولة جازفت بهوية إسلامية للدولة ولم تحسن صنعاً وسقطت بوابل اتهامها بـ "الثيولوجية أو حتى "الظلامية"، في إشارة إلى القرون الوسطى في أوروبا.
ولا يعرف المرء كيف حاربوا مثلها لـ 30 عاماً ولم يتواضعوا على بديل لها استوفى شروطه من جهة الدولة والإسلام وهي المسألة المركزية في السياسة السودانية في أعقاب ثورة أكتوبر 1964.
وتغاضي الصفوة الحداثية عن هوية الدولة من جهة إسلامها قديم واحتالت على هذا بصور مختلفة. فهي إما قالت إن الإسلام السوداني شعبي لا أرثوذكسي خلا من التشدد الشرعي وصح ألا نهجس بهوية الدولة ومنزلة الشريعة فيها، أو أن من جاء بالدين للسياسة جاء به من باب استغلاله لمصالحه، أو انتهز سانحة وجود غير المسلمين في الدولة ليبطل موضوع دينها بالكلية، أو أذاع أن الفصل بين الدين والدولة اكتمل في الغرب ولسنا من يريد اختراع العجلة، أو استجهل القائمين بالصحوة عندنا وأراهم بينات علمه بها ليفحمهم لا لينافسهم بمشروع حسن له فيها.
الحكم والدين
فالاتفاق بين صفوة الحداثة قائم بأن سلطنة الفونج (1504-1821)، الدولة المسلمة الأولى في السودان، اتخذت الإسلام ديناً ولكن وشته بوثنيات جعلته إسلاماً "أفريقيا" شعبياً، ولو نفخت في هذه العبارة تردها إلى أصل لجرجرت أذيالها عائدة لموضعها الأصل في كتاب "الإسلام في السودان" للمبشر الأنغليكاني سبنسر ترمنغهام (1949). وهو الكتاب الذي أصبحت مادته من المعلوم بالضرورة عن إسلام السودان لدى الصفوة يأخذ من معارفه التي على الشيوع حتى من لم يقرأه. وقد راق الحداثيون هذا الفصل بين الدين الرسمي الأرثوذكسي والشعبي لأنه يبيح لهم شجب الإسلاميين وطبقة العلماء باستيحاء دين غير دين أهلهم مما يوقعهم في الشطط الديني والهوس.
وطال بهم الأخذ بهذه الحيلة الفكرية منذ مقاومتهم مشروع الدستور الإسلامي عام 1968 إلى يومنا هذا يرمون الضالعين في بناء الدولة الإسلامية بالغربة عن المعلوم عن تعبد أهل السودان بالضرورة. وظلت صورة هذا المبشر المسيحي للإسلام في السودان متماسكة لا يعتورها شك أو مراجعة على مدى العقود التي تصرمت منذ فترة مضطربة طوال عهد الاستقلال وخلال، طغى فيها موضوع الدين. وصار كتابه العمدة في خطاب الحداثيين عن إسلام السودان وهو الظنين فينا بقوله "إذا ما تحرر السوداني من إرثه الديني فإن تطوير فكره وخياله سيكون أمراً ميسوراً".
مفهوم الأداتية
أما الحيلة الأخرى لتغاضي الصفوة الحداثية عن هوية الدولة ناظرين لإسلام أهلها فهي في رمي كل ساع إلى توطين الدولة على شيء من إسلامها بأنه استغلال للدين وهو ما يعرف بالتفسير الأداتي (instrumentalist) للدين.
وبالنتيجة فقد أعفى مفهوم الأداتية الحداثيين من الغوص في نصوص وديناميكية الدين كما ينبغي لمن تولى، أو سيتولى، قياد شعب كثيره مسلم. فكل الإسلام سياسة بنظر الأداتية. ولا يقع عليه إلا كل مستغل أشرّ. فالدين بحسب هذا المفهوم مطية للصفوة ولغمار الناس "الإسلام الشعبي" الذي خالطته "الوثنية الأفريقية" في رأي ترمنغهام، فلا نفع منه ولا خطر، كما تقدم. ولم تسأل الصفوة الحداثية نفسها إن كان يواتي الدين كل مستغل في كل زمان ومكان، أم أن هناك أشراطاً تقع في المجتمع فتزكي لأهله دينهم كمفتاح للفرج، فيستصحبها "المستغل"؟ فتجد في الولايات المتحدة من أراد استغلال الدين وتوظيفه مثل منكري نظرية التطور، أو مثل القاضي الذي أراد الحكم بالوصايا الـ 10 كفاحاً. ولم ينقد لهم الدين لأن المجتمع لم يتهيأ لهم، وربما تهيأ يوماً كما سنرى.
ولما اكتفينا من تديين الدولة بمفهوم الأداتية الذي يقصر الدين على "غيتوني" (وهو مستغل الدين في عرف الناس) غاب عنّا تديين المجتمع الحر في دورة من دوراته ومطلبه للعدل والسوية من بين صفحات دينه. فحرام على الدين عند الصفوة الحداثية أن يطأ ساحة السياسة وإلا كان في "حال تسلل". ومنعاً لقصر صحوة المسلمين عند صفوتهم، حتى الإسلاميين منهم، فقد رغب ركس أوفاهي، المؤرخ للسودان، أن يقع على وصف للصحوة الإسلامية يذهب في تفسيرها إلى أبعد من ثقافة ونزاعات وتواريخ الصفوة غربية المنشأ. والسبيل إلى ذلك، في قوله، أن ننظر إلى جذورها بين المسلمين كطرف أصيل في الإحياء الإسلامي لا موضوعاً له.
أما الحيلة الثالثة للصفوي الحداثي للتغاضي عن هوية الدولة ناظراً إلى إسلامها فهو استخدامه لوجود غير المسلمين في السودان، وكانوا أمة من الناس قبل انفصال الجنوب، للقول بأن هوية الدولة الإسلامية مما يغمط حقوقهم كمواطنين، وقولهم هذا حق إلا أن في التشريع من الدماثة ووسع الحيلة ليعقد في الحلال حقوق سائر من في الأمة، فليست خطة الإسلاميين في السودان ودولتهم نهاية الأرب.
ونعرض لمزيد من حيل الحداثيين التفاتاً للجهة الأخرى ما طرأ طارئ الدين والحكم.
ibrahima@missouri.edu
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: هویة الدولة فی السودان
إقرأ أيضاً:
درس الاستـقلال .. تعاسة مشهد الحرب وإمكانية عـودة العقل
درس الاستـقلال .. تعاسة مشهد الحرب وإمكانية عـودة العقل
محمد الأمين عبد النبـي
الحقيقة التاريخية المجردة تؤكد على ان الادارة الاستعمارية عمدت على تفكيك الدولة الوطنية الأولى التي أنتجتها المهدية، وعملت جاهدة على طمس ومحو أثار تلك الدولة التي أقامها السودانيون بكافة مكوناتهم من أقصى شمال السودان وجنوبه ووسطه وغربه وشرقه وتوحدت إرادتهم في أهداف وطنية ودينية واضحة حققت سيادة وطنية واقامت نظاماً سياسياً وخلقت نسيجاً مجتمعاً موحداً ووضعت إطاراً تعريفياً للدولة السودانية، جاءت الادارة الإستعمارية بسياسات تثبيت أركان سلطتها وفقاً لمصالح استعمارية خالصة، ورسم كتشنر السياسة وهيكلة الادارة لمديريات ومناطق وقسم السودان على اساس اثني وقبلي كان ذلك جلياً في سياسة المناطق المقفولة في جنوب السودان ودارفور والنيل الازرق وجبال النوبة على أسس دينية واجتماعية، سياسة العزلة المناطقية هذه كانت بمثابة أول بذرة للفصل الاثني والعرقي بين مناطق السودان، وكرست الادارة الاستعمارية سياساتها بصورة اكبر خلال حكم ونجت باشا الذي وضع سياسة الادارة الجديدة في إعادة صياغة الانسان السوداني والتي ركزت على تشويه المهدية وخلق نمط ديني بديلاً للفهم الديني التي دعت له لكي يتماشى مع السياسة الاستعمارية، وخلق طبقة من الصناع والموظفين والافندية وفق نظام تعليمي موجه بعد إنشاء مدارس ابتدائية وصناعية وإنشاء كلية غردون التذكارية لخدمة الادارة الاستعمارية وأهدافها ولتشكيل ثقافة الغازي، ونجحت السياسة حيث ظهر مثقفين يقلدون المستعمر في كل شي فإنتشر بينهم لبس البرنيطة والكاسكيتة والطربوش والشورت حتى طريقة التفكير ومظاهر الاكل والشراب، إضافة للتدابير السياسية والادارية والاجتماعية تبني المستعمر سياسات تنموية واقتصادية في مناطق معينة ذات جدوى اقتصادية رأها المستعمر مما خلقت تمايز كبير بينها وبين المناطق الاخرى من حيث التعليم والخدمات.
قاوم السودانيون السياسة الاستعمارية مبكراً سيما في ثورة ود حبوبة 1908 وثورة اللواء الابيض 1924 ومؤتمر إدارة السودان 1946 ومذكرة مؤتمر الخريجين 1942، وانطلقت الحركة الاستقلالية من رحم رفض السياسة الاستعمارية ومقاومتها تحت شعار (السودان للسودانيين). وبالتالي لم يكن استقلال السودان منحة كما يظن البعض بل جاء نتيجة جهود مضنية لإنهاء الاحتلال وإعادة الدولة الوطنية.
ظهرت تحديات ما بعد الاستقلال في بناء دولة وطنية تستند إلى أسس ومبادئ المواطنة، وتكون قادرة على استيعاب التعددية المجتمعية، العرقية والقبلية والدينية والجهوية، وتحويلها إلى مصدر قوة وإثراء بالاضافة الي تحديات التنمية وقضايا الحكم الوطني الاخرى، وقد ألقت الثقافة الاستعمارية وتشوهاتها بظلالها على الحكم الوطني منذ تمرد الكتيبة الاستوائية قبيل الاستقلال بعام واحد في 1955، يقول الامام الراحل الصادق المهدي: (مؤسسات الدولة التي ورثناها من العهد الإمبريالي لم تكن ناضجة كما يجب وولاءات المواطنين الأولية الاثنية والقبلية والطائفية لم تتراجع بالقدر الكافي لصالح الولاء القومي، وفي ظل الحكم الوطني من عام 1956 في السودان تراجع نضج مؤسسات الدولة وبرزت الولاءات الاولية بصورة اضعفت الانتماء القومي هذه العوامل جعلت الشروط المطلوبة لنجاح الدولة الوطنية تتقاصر على المستويات المطلوبة، مفهوم الدولة الوطنية نفسه غير مؤصل بالقدر الكافي مما فتح المجال لولاءات فوق قطرية، الاهتمام بإنضاج مؤسسات الدولة الحديثة وبلورة الولاء القومي الذي يعلو على الولاءات الأولية ويكرس الولاء للدولة الوطنية من شروط نجاح التجربة الديمقراطية).
الواضح لم تكن هناك قطيعة عن السياسات والانماط التي خلفها المستعمر ولم تعالج المظالم التاريخية والخلل التنموي بل في بعض الاحيان كانت هناك تبعية للإستعمار في كثير من السياسات، ولعل اعظم تدخل احدث قطيعة كاملة عن نمط الدولة الاستعمارية كان ثورة إكتوبر 1964 التي أعادت تأسيس دولة تعبر عن الوعي السياسي والاجتماع السوداني، هذا الوعي إستمر في خلال النظم الديمقراطية التعددية على قصر فترتها، وتظل تجارب مؤتمر القوى الجديدة ومؤتمر المائدة المستديرة ولجنة الاثني عشر وكوكادام علامات فارقة في معالجة المشاكل التي خلفها المستعمر، ولكن الانظمة الديكتاتورية العسكرية التي حكمت أكثر من 60 عاماً بنت على السياسات الاستعمارية حذوك النعل بالنعل لدواعي ايدلوجية ولطبيعة النظام الديكتاتوري المركزي نفسه بإحتكار السلطة واقامة حكمه على الاستبداد.
مما لا شك فيه ان النخب السياسية فشلت في تقويم السياسات الاستعمارية وإدارة التنوع وتسبيك الهوية الجامعة ومعالجة الخلل التنموي والاقتصادي؛ ولكن الامانة العلمية التاريخية تقتضي الإشارة بوضوح الي ان هذا الفشل يرجع بالاساس الي النظم الشمولية العسكرية، وبصورة أكبر يعود الي نظام الانقاذ (العسكري – الاسلاموي) ليس لطول فترة حكمه فحسب بل لأنه اعتمد فلسفة متكاملة لإعادة صياغة الانسان السوداني مبنية على الارث الاستعماري السياسي والاقتصادي والاجتماعي وما مشروع حمدي الا احدى تجلياته.
الشاهد أننا في الحقيقة امام أكثر من مقاربة حول دولة 56 وليس واحدة كما تقول إحدى سرديات الحرب والتي جاءت للقضاء على دولة 56 حسب ما يشاع؛ مقاربة الدولة الوطنية والتجربة الديمقراطية المستوعبة للتنوع والتعدد والقائمة على التراكم الوطني الحميد، في مقابل مقاربة تبعية نمطية للدولة “الكولونيالية” الاستعمارية “فرق تسد” وفق النسق الشمولي والإسلاموي القائم على تمكين العسكر من السلطة والدولة، إضعاف وتقسيم الأحزاب السياسية، تجريف مؤسسات المجتمع المدني، بث خطاب الكراهية والقبلية والعنصرية، تكريس الخلل التنموي والفشل الاقتصادي وإستسهال الانفصال والتقسيم.
إن القراءة الفاحصة والمدخل الصحيح هو بناء سردية إنهاء دولة 1989 الانقاذية العميقة والموازية كإمتداد لسياسات وتوجهات المستعمر، وليس الانجزاز عن الجذور والانبتات عن الواقع وتحويل المظالم التاريخية كمعول هدم لمقومات الدولة السودانية وتحميل المسئولية ظلماً وتزويراً للنظم الديمقراطية رغم إخفاقاتها أو القوى السياسية رغم تقاصر دورها الوطني، ولكن من يتحمل المسئولية كاملة عن الفشل التاريخي والحروب والتهميش والاستقطاب بالأساس هي المؤسسة العسكرية بتدخلها المستمر في السياسة والحكم فـ”القوات المسلحة هي الفيل في غرفة السياسة السودانية” على حد تعبير الدكتور عبد الله علي ابراهيم، وذلك طبعاً بمعاونة القوى الايدلوجية التي لا تؤمن بالتداول السلمي للسلطة وفي طليعتها الحركة الاسلامية بكل مسمياتها التي إنتهجت الانقلابات والحروب كوسيلة للحكم.
إن إعادة قراءة التاريخ أضحت ضرورة ملحة لفهم ما جرى في بلادنا منذ الاستقلال الاول مروراً بالاستقلال الثاني والعهود الديمقراطية والعهود الديكتاتورية العسكرية وإنتهاءاً بحرب الخامس عشر من ابريل 2023، وذلك لتحديد مكمن الداء وأصل الانحراف للتمكن من وعي الحاضر والتوجه نحو المستقبل بوثوق ووضوح، إذ لازال هذا الأمر ضرورياً باعتبار أن أجزاء هامة من تاريخنا المعاصر تعرضت للتشويه وطالها التزييف والتزوير، مما أضاع على السودانيين فرص تحقيق مقاصد الاستقلال وبناء الدولة السودانية.
بعد مرور 69 عاماً من الاستقلال، مازال السودان يرزح في الحروب والاستبداد، نتيجة فساد الفكر وضحالة المشاريع السياسية وشهوة السلطة لدى العسكريين، حتى وصل بنا المطاف في أول قائمة الدول الفاشلة بفقدان السيطرة وتعدد الجيوش وإنتشار المليشيات وتأكل الشرعية وإنعدام الخدمات العامة وعدم التفاعل مع المجتمع الاقليمي والدولي، وكل المؤشرات تؤكد بان بقاء الدولة السودانية المعروفة أصبح على المحك.
تمر علينا ذكرى الإستقلال ومشهد الحرب قد دمج كل عناصر السريالية في قالب واحد، حيث تحولت البلاد بأكملها الي مسرح عبثي بإمتياز، يعج بالتناقضات واللا معقول والسخرية، يجافي كل ما هو منطقي وبديهي، قلة في الحقائق ووفرة في التسريبات والتاويلات، ملهأة قادة وتجار حرب ومأساة شعب بلا وطن، تبدل في المفاهيم والتصورات والدلالات والسياقات، فعلى خشبة المسرح توحش وقتل بلا هوادة، تشريد قسري، قهر واذلال وحط من الكرامة، تخريب ودمار مع سبق الاصرار والترصد، تجويع ومجاعة لنصف السكان، معاناة قاسية وضغوط تقض المضاجع، كراهية مقيتة وعنصرية بغيضة وتمثيل بالجثث وجراح لن تندمل، فساد يزكم الانوف وأمراء حرب مهمتهم التحشيد والتحريض والتسليح والتضليل والنهب والسلب والإغتصاب، إفتراءات وتلفيقات وفتن ما ظهر منها وما بطن، فبركة إشاعات وتسريبات وفشل سياسي وخيبات نخب وإنتاج وهم، وأجندات تتلاعب بمصير أمة، مشهد هزيل في مقام الجد.
وحتى تكتمل الصورة السريالية شاهد ما خلف الستار والكواليس ترى سيناريوهات تفكيك الدولة، كل طرف يسعى الي شرعية الغلبة والتغابن وفرض سلطة امر واقع بقوة السلاح، وما عكس البندقية والانحياز المعلن والمستتر الا دليل دامغ على الانتهازية وغياب المسوغ الاخلاقي، وليس مستغرب أن يصبح الرجل في معسكر ويمسي في المعسكر الاخر دون ان يرف له جفن، وهذه ظاهرة للأسف لا تنفصل عن السياق التاريخي الذي يكافئ الانتهازي، وسترى أيضاً مظاهر الرضا ومشاعر الفرح والسعادة بالموت والرقص طرباً على جماجم القتلى والتكبير والتهليل، فقد تحول السودان الي سرادق عزاء كبير يكاد لا يخلو منه بيت، وعلى منصات التواصل الاجتماعي دعاية حربية وإحتفال هنا وهناك بنصر في الأسافير وهزيمة في الميدان، وصراخ وتشنج وشطط وسجال محتدم وشيطنة للأخر وحملات شواء وتعصب أعمى وتصفية الحسابات، تنامي وصعود المليشيات مقابل إنهيار المؤسسات النظامية وتعزيز الولاءات الأولية وتراجع الولاء الوطني، فقد أخرجت الحرب كل قبح وجادت قريحتها بكل وحشية، مشهد لو رأه الحليم في المنام لفزع، والغافل من ظن الأشياء هي الأشياء.
بالمقابل فقد أرهقت الأسئلة الصعبة كاهل السودانيين، وباتوا ينتظرون من ينهي الحرب؟ ومتى وكيف تتوقف الحرب؟ والإجابات القاصرة والمتحيزة هي الأخرى كانت سبباً لاستمرار الحرب وإطالة أمدها، رغم ان الجميع يؤكدون صباح مساء بعدم جدوى استمرارها، وبميزان الربح والخسارة ليس ثمة نصر عسكري منظور، وتتزاحم الاسئلة أكثر عندما يقفز الحديث عن اليوم التالي للحرب، ومصير المتحاربين والضحايا ومن أشعلوا الحرب، ومتى نعود الي منازلنا؟ وخطط إعادة إعمار ما دمرته الحرب، وفرص بناء السلام وغيرها من الاسئلة الصعبة والملحة التي لا تقبل الإ اجابات حقيقية وجادة.
أكبر خطر على مستقبل البلاد ومصيرها إذا ما عدنا إلي صيغة تقاسم السلطة والثروة بين المتحاربين وحلفائهما، خاصة في ظل الرغبة المشتركة للمتحاربين والسعي لتشكيل حكومة هنا وهناك وتقسيم البلاد وفقاً للنموذج الليبي.
إن الظرف المعقد الذي تمر به البلاد لا يستوعب الحلول الثنائية والمعلبة والكسل الفكري والسطحية والتي بلا شك ستكون قنبلة موقوتة تنذر بعودة الحرب من جديد، فلا خيار الإ بعودة العقل ومجابهة أزمات البلاد التي خلفها المستعمر وعمقتها النظم الشمولية لاسيما الوحدة الوطنية، المصالحة الانتقالية، العدالة الاجتماعية، المشروع التنموي الاقتصادي، بناء جيش مهني قومي واحد لا علاقة له بالسياسة، نظام الحكم، قضايا الهوية والدين والدولة، إدارة التنوع وبناء عقد اجتماعي جديد يوحد الوجدان السوداني، لقد ظلت هذه القضايا التأسيسية حاضرة منذ صبيحة يوم الإستقلال ومازالت الي يومنا هذا، وتعد وراء إندلاع الحروب في السودان وعدم الاستقرار السياسي، فقد آن الأوان لعودة العقل والتوافق على مشروع خلاص وطني يوفر حلول للمتحاربين أولاً من مأزق الحرب ويعيد أمل السودانيون في ميلاد سودان السلام والحرية والعدالة، وهذا لا يتأتي الإ عبر مائدة مستديرة يصممها ويشارك فيها الجميع الإ دعاة الحرب.
عودة الوعي والرشد السياسي واردة وممكنة، فحجم القتل والدمار والواسع الذي خلفته الحرب كفيل بيقظة الضمير والعقل، وتجارب التاريخ البعيدة والقريبة علمتنا أن السودانيين متى توحدت إرادتهم نالوا ما يريدون، وخلال الشهور الماضية إلتقى القيادات السياسية السودانية – رغم الخلافات – في مناسبات عدة وورش عمل واجتماعات تشاورية أكدت على أن القواسم المشتركة بينهم كبيرة وأن إدارة حوار حول المختلف حوله ليس مستحيلة، وقد حملت المبادرات المختلفة نفس الأهداف والمنطلقات، كما ان القناعة بعدم جدوى الحرب وانعدام الحل العسكري للأزمة الراهنة من أكبر الدوافع للبحث عن بدائل سياسية أقل تكلفة، عطفاً على التحولات الإقليمية والدولية التي تدفع الأطراف الخارجية في اتجاه دعم عملية إنهاء الحرب ووضع حداً لمعاناة وعذابات السودانيين، ويبقى الأمل في تنامي الوعي باللحظة التاريخية والتحدي في تحجيم الوعي الزائف وجنون إستمرار الحرب.
*****
الوسومالاستقلال الحرب دروس محمد الأمين عبدالنبي