المثقف السوداني بين دوائر الصراع وجذور الخلاص- رؤية ماركسية
تاريخ النشر: 5th, January 2025 GMT
إشراق الصراع
الصراع بين المثقفين السودانيين ليس مجرد خلاف آراء أو سجال أفكار، بل هو تجلٍ لصراع أعمق بين قوى اجتماعية واقتصادية متباينة. إنه الجدل الهيغلي الذي يلتقي بالمادية الماركسية ليخلق جدليةً لا متناهية، يتجسد فيها المثقف كحامل لقضية مجتمعه وكضحية لذات القضية. بين هذا وذاك، يتأرجح المثقف السوداني في محاولاته لفهم ذاته وإعادة تعريف موقعه في قلب التغيير.
فصل شعري أول: دائرة الفقد
يا حبَّة الرملِ في مهبِّ الكثيب
،تُسافرُ نحو ذاتِها،وتنثني حيث لا قاعَ للنهرِ.
غربةُ الفكرةِ صليبُ الجسدِ،
والعينُ تسهوفي غفوةِ الجبال.
بين الواقع والوعي الطبقي
الواقع السوداني، من منظور المثقف الماركسي، يتشابك مع طبقية متجذرة بُنيت عبر تاريخ طويل من الاستعمار والهيمنة الاقتصادية. المثقف هنا ليس مجرد مرآة تعكس المجتمع، بل هو عامل تغيير حيوي. دوره لا يتوقف عند الترف الفكري أو الكتابة التنظيرية، بل يمتد ليشمل قراءة البنية التحتية وتحليل علاقتها بالبناء الفوقي.
ولكن، ماذا يحدث حين يصبح المثقف نفسه جزءًا من هذه البنية التي يسعى لتغييرها؟ هنا يكمن المأزق. المثقفون السودانيون يعانون من تناقضات داخلية بين نزعة نخبوية وسعي صادق نحو التغيير الجماهيري، مما يؤدي إلى انقسامات تعرقل جهودهم وتحد من تأثيرهم.
فصل شعري ثانٍ
مرايا الأوهام
في وجوهِ النُّخَبِ المشرّخة
تعوي الريحُ أغاني الغيم
،ولا مجيبَ إلا الجدرانُ
تُعيد صدى الحكايات القديمة.
الخيال الصوفي ومآلات الثورة
الخيال الصوفي، بالنسبة للمثقف السوداني، ليس هروبًا من الواقع بقدر ما هو محاولة لإعادة صياغته. هنا، تلتقي الفلسفة بالروحانية، حيث يُستعاد الأمل من خلال إعادة تفسير الواقع عبر عدسة الغيب والرمز. الصوفية تمنح المثقف لغة بديلة للخلاص، تتجاوز الثورة المادية إلى تحول روحي عميق.
لكن، هل تكفي الصوفية كبديل؟ ماركس يرى الدين أفيون الشعوب، لكن هل يمكن للصوفية أن تكون استثناءً، وسيلة لتجاوز الألم وإعادة تشكيل الوعي؟
فصل شعري ثالث
انكسار الرؤية
على عتباتِ الصحراءِ،انفجرتِ المرآةُ إلى سبعةِ شظايا.
كلّ شظيّةٍ تأخذُ معها حلمًا.
لكن الأفقَ يظلُّ أزرقَ،كما لو لم يُهزم.
البحث عن وحدة المعنى
المثقف السوداني هو انعكاس لجدلية أكبر بين الواقع والحلم، بين المادة والروح. إن رؤيتنا الماركسية تهدف إلى جمع الشتات وتحويل الصراع إلى طاقة للبناء. تبدأ وحدة المعنى من الاعتراف بالتناقضات الداخلية، وإيجاد لغة مشتركة للخلاص الجماعي.
ليس من رغبةٍ أشدّ من اللغة،تلك العضلة المتشنجة في قلب الغيب،تلك التي تحملُ إرثَ الأمسِوحلمَ الغدِ معًا.
الثورة السودانية لحظة فلسفية متفردة
الثورة السودانية ليست مجرد حدث سياسي؛ إنها لحظة فلسفية تعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والوطن، بين التاريخ والمستقبل. هي محاولة لتجاوز الجهل الممنهج والخضوع الموروث، واستعادة الذات الجماعية من براثن الظلامية الفكرية.
في عمق هذا الصراع، تبرز الماركسية كأداة لفهم تناقضات المجتمع السوداني، الذي يعاني من هيمنة نخبة لا تعبر عن واقع الطبقات الكادحة. الثورة المضادة ليست سوى تعبير عن رغبة هذه النخب في الحفاظ على امتيازاتها باستخدام أدوات الدين والتقاليد كوسائل قمع.
إذا كان التحدي هو كسر قيود التخلف وتفكيك البنى التي تحافظ على الاستبداد، فإن الحل يكمن في إرساء قيم العدالة الاجتماعية، والتحرر الفكري، والتضامن الإنساني. الثورة السودانية تعبير عن طموح شعبٍ نحو الانعتاق من قيود الماضي، وتأسيس هوية جديدة قوامها المساواة والكرامة الإنسانية.
zuhair.osman@aol.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
العلمانية في السودان- بين الواقع والطموح السياسي
تاريخٌ من التوظيف السياسي للدين
لطالما كان الدين حاضرًا في الوعي الجمعي السوداني، ليس فقط كمعتقد روحي، بل أيضًا كأداة سياسية تُستخدم لتبرير السلطة، وكسب الولاءات، وإقصاء الخصوم.
منذ عهد الدولة المهدية، مرورًا بالحكومات المتعاقبة، وصولًا إلى حكم الحركة الإسلامية بقيادة عمر البشير، ظل الدين جزءًا لا يتجزأ من المعادلة السياسية.
لكن هل يمكن اليوم، بعد ثورة ديسمبر 2019، بناء دولة قائمة على مبدأ الحياد الديني؟
الخلفية التاريخية- محاولات الجمع بين الدين والدولة
شهد السودان عدة تجارب سياسية سعت لتحقيق توازن بين الدين والدولة، ولكنها غالبًا ما انتهت بإقصاء أحد الطرفين:
الدولة المهدية (1885-1898): قامت على أساس ديني واضح، حيث تم توظيف الإسلام كمصدر للشرعية، ولكن سرعان ما انهارت بسبب الاستبداد وانغلاقها على ذاتها.
الإدارة الاستعمارية (1898-1956): فرضت حكمًا علمانيًا إداريًا، مع الإبقاء على دور محدود للزعامات الدينية.
الفترة الديمقراطية الأولى (1956-1958): شهدت جدلًا حول طبيعة الدولة، بين دعاة الدولة المدنية والتيارات الإسلامية الصاعدة.
نظام النميري (1969-1985): بدأ بميول اشتراكية، لكنه انقلب إلى الإسلام السياسي بإعلانه قوانين الشريعة الإسلامية في 1983.
حقبة الإنقاذ (1989-2019): رسّخت سيطرة الإسلاميين على الحكم، وجعلت الدين أداة لشرعنة القمع والاستبداد.
* ثورة ديسمبر 2019 والتوجه نحو العلمانية
جاءت ثورة ديسمبر 2019 كرفض واضح لاستغلال الدين في السياسة، حيث رفع الشباب شعارات تطالب بالحرية والعدالة، بعيدًا عن الخطاب الديني المؤدلج.
كان هذا تحولًا جذريًا في الفكر السياسي السوداني، حيث بدأ الحديث بجدية عن ضرورة بناء دولة مدنية تتعامل مع المواطنين على أساس المواطنة، لا الانتماء الديني.
العلمانية في المشهد السوداني
أ. ميثاق التأسيس والإشارة للعلمانية
أحد أبرز مظاهر التغيير كان الإشارة الواضحة للعلمانية في ميثاق التأسيس للحكومة الانتقالية، والذي أكد على حياد الدولة تجاه الأديان. العلمانية هنا لم تكن رفضًا للدين، بل محاولة لفصله عن الدولة لضمان عدم استغلاله سياسيًا.
ب. ردود الفعل المتباينة
الشارع السوداني: قطاع واسع من الشباب والمثقفين رحبوا بهذه الخطوة باعتبارها ضمانة للحرية والعدالة الاجتماعية.
التيارات الإسلامية: رفضت هذا التوجه بشدة، معتبرةً أنه تهديد للهوية الإسلامية للسودان.
المتاجرون بالدين: بعض رجال الدين والساسة استغلوا الجدل حول العلمانية لإثارة الفتنة وربطها بالإلحاد، مما زاد من تعقيد النقاش حولها.
تأثير العلمانية على المجتمع السوداني
أ. تحرير العقل الجمعي
العلمانية يمكن أن تشكل فرصة لتحرير المجتمع السوداني من سطوة رجال الدين الذين استغلوا الدين لتبرير الفساد والاستبداد، مما يتيح حرية أكبر في التفكير واتخاذ القرار السياسي.
ب. حماية الدين من الاستغلال
كما هو الحال في العديد من الدول العلمانية، يزدهر الدين عندما يكون بعيدًا عن السياسة. التجربة التركية والتونسية نموذج لهذا التوازن، حيث بقيت المجتمعات محافظة دينيًا رغم فصل الدين عن الدولة.
ج. مواجهة التطرف
بفصل الدين عن الدولة، يتم تقليص نفوذ الجماعات المتطرفة التي تستغل المشاعر الدينية لتحقيق مكاسب سياسية أو تبرير العنف.
التحديات التي تواجه التوجه العلماني
أ. المقاومة من التيارات الإسلامية
التيارات التي فقدت نفوذها بعد سقوط نظام البشير ستسعى لإفشال أي محاولة لبناء دولة علمانية، عبر وسائل سياسية وإعلامية ودينية.
ب. الفهم المغلوط للعلمانية
يتم الترويج للعلمانية على أنها معادية للدين، ما يجعل تقبلها صعبًا لدى شرائح واسعة من المجتمع.
ج. الانقسام المجتمعي
العلمانية قد تؤدي إلى استقطاب سياسي واجتماعي، وهو ما قد يؤثر على استقرار البلاد، في ظل هشاشة الوضع السياسي.
مواقف القوى السياسية السودانية
حزب الأمة القومي يتبنى دبلوماسية فكرة الدعم السياسي الوسط لصالح فكرة الدولة المدنية لكنه يرفض المصطلح الصريح للعلمانية.
الحزب الاتحادي الديمقراطي وهؤلاء الذين يظنون أنهم أصحاب ميل لنموذج إسلامي معتدل.
المؤتمر السوداني هنا تكمن ضبابية المواقف لصالح قضايا الجماهير
التجمع الاتحادي لا تصريح لهم في هذه القضية ولكنهم مع الاتحاداليمقراطي لديهم محاولات اللعب علي رؤوس الافاعي لتحقيق حضور سياسي
الحزب الشيوعي السوداني يدعم العلمانية بشكل كامل التساؤل المهم هنا أيضا أين طرحه لبرنامج حكم علماني في السودان
قوى الحرية والتغيير - تشهد تباينًا في مواقفها بين داعم صريح للعلمانية وبين مؤيد للدولة المدنية دون تسميتها.
أغلب الكيانات الصغيرة تعتبر قضية العلمانية يجب تأجيل مناقشتها الان لحين نهاية الحرب
منظمات المجتمع السودانية لا تعرف الكثير عن العلمانية وهي المناط بها شرح الامر لكل جماهير شعبنا تحتاج لشرح الفكر العلمانية وتطوير قدراتها اتصبح في خدمة الناس
مستقبل العلمانية في السودان الفرص والتحديات
أ. فرص النجاح
دعم الشباب والمثقفين- الثورة أظهرت رغبة قوية لدى الشباب في بناء دولة مدنية حديثة.
التجارب الدولية - دول مثل تونس أثبتت إمكانية تحقيق توازن بين الدين والسياسة في بيئة عربية إسلامية.
ب. مخاطر الفشل
ضعف المؤسسات السياسية - لا تزال البنية السياسية السودانية هشة، مما قد يعيق تنفيذ إصلاحات جوهرية.
التدخلات الخارجية- بعض القوى الإقليمية قد تعمل على إفشال التوجه العلماني لضمان استمرار نفوذ التيارات الإسلامية.
العلمانية ليست حربًا على الدين، بل وسيلة لحماية المجتمع من استغلاله سياسيًا. في السودان، يمثل هذا التوجه تحديًا وفرصة في آنٍ واحد. نجاحه يعتمد على قدرة القوى السياسية والمجتمع المدني على تحقيق توافق وطني
ومواجهة التحديات الفكرية والسياسية التي تعترض طريقه. هل يستطيع السودان تجاوز إرث الاستغلال الديني والسياسي ليؤسس لدولة مدنية حقيقية؟ الإجابة تكمن في إرادة شعبه.
zuhair.osman@aol.com