لا وألف لا لنظام المحاصصة في سوريا الجديدة
تاريخ النشر: 5th, January 2025 GMT
لا نكشف شيئاً جديداً أبداً عندما نقول إن نظام المحاصصة الطائفية يعتبر أسوأ نظام سياسي عرفه التاريخ الحديث في المنطقة لأن النماذج التي أفرزها باتت رمزاً للدول الفاشلة في العالم، وكلنا رأى أين وصل العراق ولبنان والسودان وحتى سوريا بعد اعتماد نظام المحاصصة بحجة إرضاء كل مكونات المجتمع، فقد تحول النظام اللبناني إلى نكتة سمجة، فلا يستطيع أن ينتخب رئيساً جديداً مثلاً إلا بعد سنوات على انتهاء فترة الرئيس الحالي، وكلنا رأى مسلسل انتخاب الرئيس في لبنان منذ عقود، بحيث تحول إلى مهزلة المهازل وبات مثاراً للسخرية والتهكم والكوميديا، لإن إرضاء زعماء الطوائف في لبنان أشبه بالمستحيل، ولا يمكن أن يتوافقوا على شيء إلا بشق الأنفس، لأن العملية السياسية في لبنان باتت أشبه ببازار سخيف يخضع لكل أنواع المساومات والصفقات والسخافات والحروب الباردة.
وليت الأمر اقتصر على انتخاب الرئيس، فنظام المحاصصة الطائفي نفسه يحول البلد ليس إلى شركة مساهمة، بل إلى شركة مساومة، وهل بربكم شاهدتم شركة ناجحة يستخدم المساهمون فيها لعبة المساومة ويضعون العصي في عجلاتها ويعرقلون انتاجيتها؟
بالطبع لا، لكن هذا ما يحدث بالضبط في لبنان، فهذا النظام لا ينتج سوى الفساد والإفساد والترهل والمناكفات والانقسامات والتعصب والتمييز بين المكونات الاجتماعية بدلاً من تعزيز الوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي والسياسي. وما زال المجتمع اللبناني يعاني حتى الآن من هذا النظام خاصة بعد الاعتراف به وشرعنته بالدستور والقوانين ومن ثم تقاسم المناصب الكبيرة ومراكز النفوذ ومقاعد البرلمان على أساسه. والملاحظ هنا كما يرى الدكتور رحيل الغرايبة، أن كل فئة تريد زيادة قوتها والحفاظ على مكاسبها وزيادة نفوذها مما أدى إلى تشكيل الميليشيات والأحزاب الطائفية والسلاح الطائفي، وجعل اللجوء الى العنف والدماء والفوضى والحروب الأهلية خياراً حتمياً لهذا المنهج الذي يعترف بالمرض ويتكيف معه ولا يعالجه.
أما النموذج العراقي فلا يقل سوءاً وقد صار مضرباً للمثل في الفشل والفساد والتفرقة والسمسرة والتعصب والانقسام وعدم الكفاءة في الإدارة، إذ يعوق توزيع المناصب على أساس المحاصصة الطائفية عملية اختيار الكفاءات المناسبة لشغل المناصب الحكومية بسبب تفضيل الولاء الطائفي على الكفاءة المهنية، مما يؤدي إلى تعيين أشخاص غير مؤهلين في مناصب حيوية، وبالتالي تتأثر كفاءة وفعالية الإدارة الحكومية. وحدث ولا حرج عن تعطيل العملية الديمقراطية كما يوضح نموذج انتخاب رئيس مجلس النواب العراقي مما أدى عدم توافق ممثلي المكون السني على مرشح واحد لرئاسة مجلس النواب ذات مرة إلى تأخير انتخاب رئيس المجلس وتعطيل العملية الديمقراطية.
ويؤكد الكاتب العراقي محمد عبد الجبار الشبوط بأن مثل هذه العقبات تعوق عملية صنع القرار وتؤخر تنفيذ السياسات الضرورية للتنمية والاستقرار. أضف إلى ذلك أن نظام المحاصصة يزيد من فرص الفساد والمحسوبية، حيث يتم توزيع المناصب والموارد بناءً على الولاءات الطائفية والشخصية بدلاً من الاحتياجات العامة أو الكفاءة. وهذا يعزز من شبكات الفساد ويعوق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، مما يؤدي بدوره إلى إضعاف المؤسسات العامة، فالمحاصصة تسهم في إضعاف المؤسسات، حيث يتعزز دور الزعماء الطائفيين والعرقيين على حساب الدولة التي تتحول إلى مجموعة من المناطق الطائفية التي يديرها زعماء طائفيون، مما يضعف من قدرتها على تقديم الخدمات العامة بشكل فعال ويفسد العملية السياسية بأكملها ويعقدها ويزيد في صعوبة تحقيق التوافق بين الأطراف المختلفة. وكثيراً ما تؤدي التنازعات والمنافسات الطائفية إلى جمود سياسي وتأخير في تنفيذ القوانين والإصلاحات الضرورية. وهذا بدوره يولد تراجع الثقة بين المواطنين والدولة إذا يشعر المواطنون بالتمييز وعدم العدالة نتيجة لنظام المحاصصة، مما يقود إلى تراجع الثقة في الدولة ومؤسساتها، كما يشعر الأفراد بالانتماء لطوائفهم بشكل أكبر من انتمائهم للدولة، مما يعوق بناء دولة قوية ومتماسكة.
ورغم أن نظام المحاصصة الطائفية في العراق جاء بهدف تحقيق التوازن وتمثيل جميع المكونات، إلا أنه زاد الفساد والمحسوبية وأضعف المؤسسات العامة، وأدى إلى تزايد الانقسامات الداخلية بين الشيعة والسنة والعرب والأكراد وأنتج فرزاً مذهبياً شديد الحساسية في الانتخابات التشريعية وكذلك فرزاً عرقياً شوفينياً شديداً مازال يهدد بتقسيم العراق وإضعاف الدولة ومستقبلها السياسي، ويضعف أثرها في الإقليم، فضلاً عن تعثر عملية الإصلاح الاقتصادي والاقتتال الداخلي الذي يتغذى على التعصب والثارات الدموية التي لا تنتهي.
والمثال العربي الثالث لنظام المحاصصة الكارثي هو السودان، فقد أدى ذلك النظام إلى تقسيم الدولة الواحدة إلى دولتين وشعبين، وهذا التقسيم كان يحمل في طياته دائماً بذور المواجهة والحروب التي أنهكتهم جميعاً وأدت في النهاية إلى خراب السودان الحاصل حالياً.
ولا يمكن طبعاً تجاهل نظام المحاصصة المقنع الذي استخدمه حافظ الأسد ومن بعده ابنه في سوريا بالرغم من أنه كانا أكثر تحكماً به، مع ذلك فقد كان نموذجاً للفشل والنصب والاحتيال والتلاعب بالنسيج الطائفي، إذا كان حافظ وبشار يعمدان إلى تعويم الحثالات من كل الطوائف بدل اختيار الأفضل لإدارة الوزارات والمؤسسات على أساس الكفاءة. ولو نظرتم مثلاً إلى الذين كان يختارهم النظام الساقط من الدروز مثلاً لوجدنا أنه كان يختار الأفسد بحيث يخدم العصابة الحاكمة أكثر مما يحكم حتى طائفته، وآخر تلك النماذج منصور عزام وزير شؤون رئاسة الجمهورية الذي لم تستفد منه طائفته بشيء، لأنه كان شريكاً لبشار في تجارة المخدرات وغسيل وتهريب الأموال.
وفي مقابل تلك النماذج العربية الفاشلة، «فإن مجتمع الولايات المتحدة أكثر تنوعاً وتعددية من حيث الأديان والمذاهب، ومن حيث الأصول والأعراق. وقد أدرك النظام الأمريكي مبكراً خطورة الانزلاق نحو منهج المحاصصة، وتوجه نحو خلق المجتمع الأمريكي الواحد والأمة الأمريكية الواحدة، وتمت معالجة مظاهر التعصب بشكل متدرج، واستطاع أن يصنع قوة مجتمعية موحدة وصلت الى مرتبة القوة الأولى على مستوى العالم سياسياً واقتصادياً، وعسكرياً، وعلمياً».
وأخيراً أهلنا في سوريا، لا بد أن تعلموا أن أكبر المستفيدين من نظام المحاصصة هم زعماء العصابات المذهبية والطائفية والعرقية والمناطقية، وكلهم كانوا أكبر الأعوان للنظام الساقط على مدى أكثر من نصف قرن، وبالتالي فإن العودة إلى ذلك النظام هو بمثابة إحيائه من جديد، ولو تمكن هؤلاء من تعزيز أوضاعهم هذه المرة لكانت النتيجة الحتمية تقسيم سوريا في وقت يتجه فيه العالم أجمع إلى التكتلات الكبرى والعملاقة. هل تريدون بعد كل ذلك إذاً تكرار النماذج اللبنانية والعراقية والسودانية والأسدية، أم النموذج الحضاري القائم على مبدأ المواطنة الحقيقية؟
(القدس العربي)
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه المحاصصة الطائفية سوريا سوريا محاصصة طائفية مقالات مقالات مقالات صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد اقتصاد صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة نظام المحاصصة فی لبنان
إقرأ أيضاً:
على أعتاب نظام عالمي جديد !
ألقى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بظلال كثيفة من الشك حول مستقبل النظام الدولي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. في خطابات وعمليات تصويت حديثة في الأمم المتحدة، انحازت إدارته إلى جانب روسيا، المعتدية التي شنت حرب غزو ضد جارتها المسالمة، أوكرانيا. وأثارت تهديداته بشأن الرسوم الجمركية تساؤلات حول تحالفات قائمة منذ أمد بعيد ومستقبل النظام التجاري العالمي، وتسبب انسحابه من اتفاقية باريس للمناخ ومنظمة الصحة العالمية في تقويض التعاون في مواجهة التهديدات العابرة للحدود.
إن احتمال تحول الولايات المتحدة إلى دولة منعزلة كليا ومنشغلة بذاتها له تداعيات مقلقة على النظام العالمي. من السهل أن نتخيل استغلال روسيا هذا الوضع لمحاولة الهيمنة على أوروبا من خلال ممارسة القوة أو التهديد بممارستها. سوف يكون لزاما على أوروبا أن تُـظـهِـر قدرا أكبر من الوحدة وأن تنهض بأعباء الدفاع عن نفسها، حتى وإن كان الدعم الأمريكي سيظل مهما. على نحو مماثل، من السهل أن نتخيل الصين وقد فرضت نفسها بدرجة أكبر على آسيا، حيث تسعى علنا إلى الهيمنة على جيرانها. ومن المؤكد أن هؤلاء الجيران أحاطوا علما بذلك. في الواقع، سوف تتأثر جميع الدول، لأن العلاقات مترابطة بين الدول وغيرها من القوى الفاعلة الرئيسية العابرة للحدود الوطنية. يقوم النظام الدولي على توزيع مستقر للقوة بين الدول؛ وعلى معايير تؤثر على السلوك وتضفي الشرعية عليه؛ وعلى المؤسسات المشتركة.
قد يتطور نظام دولي بعينه بشكل تدريجي دون أن يؤدي إلى تحول نمطي واضح. ولكن إذا تغيرت السياسة الداخلية لقوة مهيمنة بدرجة شديدة التطرف، فلا أحد يستطيع أن يتكهن بالنتائج. وبما أن العلاقات بين الدول تختلف بشكل طبيعي بمرور الوقت، فإن النظام مسألة مقدار. فقبل نظام الدولة الحديثة، كان النظام يُفرض غالبا بالقوة والإخضاع، فيتخذ هيئة إمبراطوريات إقليمية مثل الصين وروما (بين إمبراطوريات عديدة أخرى). وكانت التباينات في الحرب والسلام بين الإمبراطوريات القوية مسألة جغرافية أكثر من كونها مسألة أعراف ومؤسسات. فبسبب تجاور روما وبارثيا (المنطقة المحيطة بإيران الحالية) كانت الحروب تنشب بينهما أحيانا، بينما لم تنشب حروب بين الإمبراطوريات الرومانية والصينية وإمبراطوريات أمريكا الوسطى.
ثم جاءت الحرب العالمية الأولى، التي أعقبتها معاهدة فرساي وعصبة الأمم، التي مهد فشلها الطريق للحرب العالمية الثانية. وقد شكل إنشاء الأمم المتحدة ومؤسسات بريتون وودز (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وسلف منظمة التجارة العالمية) في وقت لاحق أكثر الحلقات أهمية في بناء المؤسسات في القرن العشرين. وبما أن الولايات المتحدة كانت اللاعب المهيمن، أصبحت حقبة ما بعد عام 1945 تُعرف بمسمى «القرن الأمريكي». ثم أنتجت نهاية الحرب الباردة في عام 1991 توزيعا أحادي القطب للقوة، الأمر الذي سمح بإنشاء أو تعزيز مؤسسات مثل منظمة التجارة العالمية، والمحكمة الجنائية الدولية، واتفاقية باريس للمناخ.
وحتى قبل ترامب، كان بعض المحللين يعتقدون أن هذا النظام الأمريكي كان على وشك الانتهاء. فقد جلب القرن الحادي والعشرون تحولا آخر في توزيع القوة، والذي يوصف عادة بأنه صعود (أو بعبارة أكثر دقة، تعافي) آسيا. ففي حين كانت آسيا تستحوذ على الحصة الأكبر من الاقتصاد العالمي في عام 1800، فإنها تراجعت بعد الثورة الصناعية في الغرب. وكغيرها من المناطق الأخرى، عانت آسيا من الإمبريالية الجديدة التي عملت على تمكينها التكنولوجيات العسكرية وتكنولوجيات الاتصالات الغربية. الآن، تعود آسيا إلى مكانتها كمصدر رئيسي للناتج الاقتصادي العالمي. لكن مكاسبها الأخيرة جاءت على حساب أوروبا أكثر من الولايات المتحدة. فبدلا من أن تتراجع، لا تزال الولايات المتحدة تمثل ربع الناتج المحلي الإجمالي العالمي، كما كانت في سبعينيات القرن العشرين. وفي حين عمل صعود الصين على تقليص الصدارة الأمريكية إلى حد كبير، فإنها لم تتفوق على الولايات المتحدة اقتصاديا، أو عسكريا، أو فيما يتصل بتحالفاتها. إذا كان النظام الدولي آخذا في التآكل، فإن السياسة الداخلية الأمريكية هي السبب وراء ذلك بقدر صعود الصين. السؤال هو ما إذا كنا ندخل فترة جديدة تماما من التراجع الأمريكي، أو ما إذا كانت هجمات إدارة ترامب الثانية على مؤسسات القرن الأمريكي وتحالفاته ستثبت كونها انحدارا دوريا آخر. قد لا نعرف قبل عام 2029.
جوزيف س. ني أستاذ فخري في جامعة هارفارد، ومساعد وزير الدفاع الأمريكي السابق
المصدر : خدمة «بروجيكت سندكيت»