ورقة الأقليات في سوريا... ما لها وما عليها
تاريخ النشر: 5th, January 2025 GMT
في ما يخصّني، أنا لست ممّن يستسيغون الإفراط في استخدام كلمة «الأقليات»، ناهيك من استغلالها والذهاب بعيداً في جعلها إزميلاً لإعادة نحت الكيانات وتصويرها وفق رغبات الآخرين ومصالحهم.
إلا أن التاريخ السياسي، على امتداد العالم، علّمنا مخاطر الاستخفاف بمخاوف المكوّنات الصغيرة أو المغبونة (فئوياً وجندرياً) أو تجاهلها.
الكيانات الفضفاضة الضخمة نشأت -كما تعلّمنا- من تجمّع قبائل وكيانات صغيرة بقوة الغزو والإخضاع والهيمنة، ولم تظهر ما باتت تعرف بـ«الدول القومية» إلا إبّان القرن الميلادي التاسع عشر في أوروبا. بل، حتى في أوروبا ذاتها، أخفق اعتماد الحُكم الديمقراطي البرلماني في حل إشكالية «الحالة الانفصالية» التي عرّفها علماء السياسة والاجتماع بـ«الإيريدنتسية».
تجد ديمقراطيات أوروبية عريقة نفسها مهدّدة في صميم هويتها
وراهناً، مع صعود قوى اليمين المتطرّف وتحالفها في بعض الدول مثل إيطاليا مع حركات انفصالية أو انعزالية، تجد ديمقراطيات أوروبية عريقة نفسها مهدّدة في صميم هويتها، بعدما بدا كأن صفحة الهوية قد طويت إلى الأبد. وفي دول غربية كبرى، كانت في حقبة ما إمبراطوريات مترامية الأطراف كبريطانيا وألمانيا وإسبانيا، أسقط «التفاعل» بين عاملَي الانعزالية والهجرة التفاهمات العريضة حول الهوية الوطنية الجامعة.
في آسيا وأفريقيا لا تختلف الصورة كثيراً، وإن بدا العكس صحيحاً...
أمامنا حالات شعوب كبيرة وعريقة، مثل أمازيغ شمال أفريقيا، وبلوش شبه القارة الهندية وأفغانستان وإيران، وعرب تركيا وإيران، وعموم أكراد الشرق الأدنى، والفولاني في أصقاع الساحل وجنوب الصحراء الكبرى من السنغال إلى تشاد والكاميرون.
كل هؤلاء وغيرهم -مثل أهلنا الفلسطينيين العرب الذين اقتلعهم المشروع الإسرائيلي- شعوب وجماعات مزّق وحدتها الاستعمار وشتتها، فوزّعها على العديد من الكيانات المستحدثة أو جعلها جاليات مهاجرة في عموم العالم... مولداً بذا أزمات وحركات انفصالية أسهمت في إعادة تعريف القضايا السياسية الإقليمية والدولية.
موضوع «الأقليات» -ومعه موضوع حقوق المرأة- كان منذ إسقاط النظام الأسدي، جزءاً مهماً من تعامل المجتمع الدولي مع القيادة الجديدة في دمشق. وبطبيعة الحال، ما كان هذا النوع من التعامل مُرحّباً به في عدد من الأوساط السورية والعربية، التي وجدت فيه نوعاً من الإملاءات التي تنتقص من سيادة سوريا وتشكك بقدرة السوريين على التفاهم... ومن ثم التعايش وبناء دولة متقدمة يستحقها شعب من أعرق شعوب العالم وأغناها حضارة.
والحقيقة، أن كلاً من الجهات المتضايقة ممّا تعده «تعاملاً فوقياً غربياً»، والجهات الأخرى الراضية بإخضاع تجربة إعادة تأهيل «سوريا ما بعد الأسد»... محِقّة إزاء عدد من الاعتبارات.
بالنسبة للجهات المتضايقة، أقول إن أي شعب، مثل الشعب السوري، ناضل وبذل الغالي والرخيص للتحرّر من نير طغيان دموي طال لأكثر من نصف قرن، يحق له الاستمتاع بحريته وسيادته بعد الخلاص المكلف.
وهو، بلا شك، يستحقّ أن يقرّر مستقبله بنفسه بعد عقود صادر خلالها حرية خياراته «تقاطُع مصالح» فرضته عليه حسابات الجغرافيا، وتوازنات القوى والمصالح الاستراتيجية ... الإقليمية والدولية.
وفي المقابل، بما يخصّ الجهات التي تتقبّل اشتراطات «إعادة التأهيل»، فإنها -عند عدد من المفاصل- محقة فيما تذهب إليه.
إنها محقة، ولكن من دون أن تعطي تفويضاً مطلقاً لـ«النيات الدولية الطيبة» التي طالما طالب بها السوريون طوال نضالهم البطولي ولم يحصلوا عليها، عندما كانوا يتعرّضون للقمع والتعذيب والتهجير والقتل بالغازات السامة والبراميل المتفجرة. أما السبب، فهو أن إدارة الحكم الجديدة ما زالت في بداياتها، وثمة فارق كبير بين مهمات النضال المسلح من جهة وأصول بناء مؤسسات السلطة وإعداد الأرضية الصالحة لبناء «دولة المواطَنة» من جهة ثانية.
«البيئة» الثورية التحريرية في إدلب كانت لها مقوّماتها ومستلزماتها، والحمد لله، نجحت في أداء الواجب التحريري عبر طليعتها المسلحة. إلا أننا الآن أمام مشهد أرحب ذي تحدّيات صعبة ومتشابكة. والمطلوب الآن الترجمة على الأرض للشعار الجامع الذي صدحت به حناجر السوريين في كل الساحات، من القامشلي إلى درعا ومن اللاذقية إلى دير الزور ... «الشعب السوري واحد... واحد... واحد... واحد!».
المسألة هنا ليست في «أن للانتصار مائة أب»، بل في أن تكون «سوريا المستقبل» وطناً لشعب لا مزرعة لطغمة.
أن تكون وطناً للجميع، لا فضل فيه لسوري على الآخر إلا بالمواطَنة والاحترام المتبادل... فوق فوارق الدين والمذهب والعرق و«الجندر» والجهة.
أيضاً، مرحلة طي الصفحة السوداء للطغيان لا بد أن تقوم على المحاسبة. ولا بد من أن تتولّى المحاسبة جهات ذات أهلية قانونية ودستورية، لا محاكم ميدانية تقف خلفها -كما شاهدنا في العراق الشقيق بعد الغزو الأميركي- غايات «اجتثاثية» انتقامية... قضت باسم العدالة المزعومة على الصالح والطالح معاً.
وأخيراً، سوريا الجديدة الحرة تنتقل اليوم من وضع «الإقطاع الأمني البوليسي» إلى «الدولة المؤسساتية» التي هي جزء من المجتمع الدولي. وهذا يفترض بقيادتها الجديدة «تعريف» مصلحتها السياسية في التعامل مع لاعبين إقليميين وكبار يستحيل إغفال تأثيرهم وأدوارهم السياسية والاقتصادية والأمنية.
... فحذار حذار نسيان أن السياسة هي «فن الممكن»!
الشرق الأوسط
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الأقليات سوريا سوريا الغرب الأقليات الادارة الجديدة سقوط الاسد مقالات مقالات مقالات صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد اقتصاد صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
ما أولويات سوريا بمرحلتها الانتقالية؟ وماذا يعني الانفتاح العربي عليها؟
تواجه الإدارة السورية الجديدة تحديات وعقبات وملفات حساسة تنتظر معالجتها خلال المرحلة الانتقالية لتوطيد أركان البلاد، وسط مؤشرات على حلحلة بعض القضايا مع تدفق مسؤولين عرب وأجانب على دمشق وتأكيدهم على أمن واستقرار البلاد.
ووفق الباحث الأول في مركز الجزيرة للدراسات الدكتور لقاء مكي، فإن المرحلة الحالية هي تأسيسية وليست انتقالية، إذ يراد بناء دولة جديدة في سوريا بعد الخراب الكبير الذي حلّ بها.
وأعرب مكي عن قناعته بأن الأولوية المطلقة هي الأمن والاقتصاد ومتابعة ملفات عودة النازحين واللاجئين والمفقودين، مشيرا إلى أن الإشكالية تكمن في فرض الأولويات من الخارج.
وشدد على أن التحدي الأمني يبقى الأخطر بسبب وجود فصائل عسكرية كثيرة، إضافة إلى ما تعرف بقوات سوريا الديمقراطية (قسد) في شمال شرق سوريا.
وأكد الباحث الأول في مركز الجزيرة على ضرورة حصر السلاح بيد الدولة، وتوحيد الفصائل تحت إطار وزارة الدفاع، مما يحد من الاحتراب الداخلي.
وقال مكي لبرنامج "مسار الأحداث" إن ملف قسد يشغل حيز التفاوض بين تركيا والولايات المتحدة.
وفي هذا الإطار، لفت مكي إلى تصريحات قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع الرافضة لاعتماد المحاصصة في الحكم، في إشارة منه -حسب مكي- إلى رفضه تقسيم سوريا وإنشاء كيان انفصالي سوري مثل كردستان العراق.
إعلانوالاثنين، أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن بلاده لن تسمح بتقسيم سوريا، وستتخذ الإجراءات اللازمة إذا شعرت بأن هناك خطرا ينذر بتفككها، في حين حذر وزير خارجيته هاكان فيدان من أن المخابرات الغربية تتغلغل داخل المنظمات الإرهابية بهدف تقويض أمن بلدان المنطقة.
بدوره، قال الكاتب والباحث السياسي السوري عبد المنعم زين الدين إن مشروع قسد ليس وطنيا، إذ ينادي بإقليم انفصالي كردي، واصفا هذا الملف بالشائك في ظل اهتمام دول إقليمية ودولية به.
ووفق زين الدين، فإن قسد تستثمر بملف سجناء تنظيم الدولة الإسلامية وتخلي سبيل بعضهم لخلق فوضى، أملا بالحفاظ على الدعم الغربي لها في ملف محاربة التنظيم.
تأييد خليجي وإقليميوبشأن العلاقات مع المحيط العربي، اعتبر مكي تأييد الخليج ودولتي الجوار (الأردن والعراق) لسوريا الجديدة "محطة جوهرية في قدرة النظام الجديد على الاستقرار والمناورة، والحفاظ على السيادة، وأولويات بناء الدولة ومقاومة الضغوط الغربية".
وحسب مكي، فإن من الإشكاليات التي تواجه الإدارة الجديدة ضرورة إيجاد إطار قانوني وتشريعي، خاصة أن إعداد الدستور يحتاج وقتا.
وتوقع أن رفع العقوبات الأميركية والدولية سيكون تدريجيا، مما سيؤثر إيجابا على الاقتصاد السوري، مرجحا أن يستمر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب في انتهاج هذه السياسة وإزالة هيئة تحرير الشام من لائحة الإرهاب.
وفي هذا السياق، أصدرت الولايات المتحدة رخصة عامة مرتبطة بسوريا تسمح بإجراء معاملات مع المؤسسات الحكومية السورية وبعض معاملات الطاقة، وإجازة تحويل الأموال الشخصية إلى سوريا، بما في ذلك عبر البنك المركزي.
وشدد مكي على ضرورة عدم إحداث فوضى في سوريا ومعاكسة الإرادة الشعبية، وذلك في معرض حديثه عن "حرب إعلامية تقودها بعض الدول ضد سوريا الجديدة، وإثارة ملف الأقليات بشكل دائم".
إعلان
بدوره، أكد زين الدين أن التحديات كبيرة أمام الإدارة الجديدة داخليا وخارجيا بعدما ترك النظام المخلوع مؤسسات بعقلية المافيا والفساد.
وهناك تحديات على مستوى تصفير المشاكل مع دول الجوار والعالم حسب زين الدين، إضافة إلى إعادة بناء مؤسسات الدولة، خاصة وزارة الدفاع، مؤكدا أنه من مصلحة دول الإقليم إنجاح مؤسسة الدفاع لضبط الحدود المشتركة ومكافحة الإرهاب ووقف تهريب الكبتاغون.
وأعرب زين الدين عن قناعته بأن مؤتمر الحوار الوطني المرتقب قد يكون نافذة لإيجاد حل لمعضلة الجانبين القانوني والتشريعي، مع تأكيده على أن الإدارة الجديدة تستند إلى القوة الشعبية لإنجاح العملية الانتقالية.
وشدد على ضرورة انخراط العرب على كل المستويات لإنجاح سوريا الجديدة وعدم انتظار الموقف الغربي، منبها إلى أهمية تفكيك معامل حبوب الكبتاغون التي أغرقت دول الجوار، ووقف تصدير مليشيات عابرة للحدود بعد سقوط نظام الأسد.
يذكر أنه في إطار المشاورات بشأن سوريا يعتزم وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إجراء لقاء في روما الخميس المقبل مع وزراء أوروبيين "لدعم انتقال سياسي سلمي وشامل بقيادة سورية".