إيهاب الملاح

أخبار ذات صلة تطوّر المجتمع العلمي عند العرب «أبوظبي للغة العربية» يعزّز استراتيجيته لدعم اللغة العربية وقطاع النشر في 2025

عن 85 عاماً رحل عن عالمنا المفكر والتربوي وأستاذ دراسات الحضارة الإسلامية وعالم الاجتماع البحريني الكبير محمد جابر الأنصاري (1939-2024) أحد أكبر العقول الخليجية والعربية في القرن العشرين.

مثَّل محمد جابر الأنصاري حالة ثقافية فريدة في تكوينها الثقافي والمعرفي، وفي خبراتها الأكاديمية والعملية والمؤسسية، فضلاً على الإسهام الوافر والنشط في إثراء السجال الفكري والمجتمعي الثقافي العربي، انطلاقاً من دائرة انتمائه الأولى (البحرين والخليج العربي)، مجاوزاً إياها إلى الإسهام في الدائرة العربية الأكبر والأوسع منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى احتجابه عن الأضواء في العقد الأخير.
يمكن القول إن فترة التأسيس والتكوين العلمي والمعرفي والثقافي، وصولاً إلى مرحلة التخصص العليا، قد شهدت تنوعاً وتداخلاً معرفياً قلما يتوافر لدارس أو باحث، فقد درس اللغة العربية وآدابها أولاً، ثم نال درجة الماجستير في الأدب الأندلسي، وأتصور أن هذه المرحلة هي التي جعلته يمتلك زمام اللغة قراءة وتعبيراً، ما مهد لإنتاجه الكتابي الغزير فيما بعد. ثم نال درجة الدكتوراه في الفكر العربي والإسلامي الحديث والمعاصر، وأظن أن هذه المرحلة هي التي أهلته وأعدته جيداً لقراءة النتاج العربي وفحصه وتحليله في مضمار الفكر والثقافة، وكانت الحصيلة وافرة من خلاله تأليفه سلسلة من الكتب التي أظن أنها من أهم المحاولات التي اجتهدت في تشخيص أزمة الواقع الثقافي العربي منذ النهضة وحتى زمن كتابة هذه المؤلفات..
وبموازاة هذا الجهد التحصيلي الكبير، درس أيضاً العلوم السياسية والقانون الدولي، وعلم الاجتماع، وبعض المكتسبات المنهجية الأخرى في العلوم الإنسانية، مما مثَّل حالة تكوينية ثقافية فريدة، في وقتها، وفي بيئته الفكرية والثقافية البحرينية والخليجية عموماً، ما منحه الحيوية والقدرة الكبيرة على ممارسة أدواره ومهامه التي أنيط به القيام بها في البحرين أو خارجها، وفي محيطه الخليجي، ومن ثم محيطه العربي الكبير.
****
يرى بعض المهتمين بمشروع الدكتور الأنصاري، أنه يمثل في ثقافته وسيرته العلمية والعملية جسراً واصلاً بين جيلين في البحرين، هما: جيل النهضة التعليمية، وجيل الاستقلال، ومع عمله «التربوي» و«الإداري»، فإن إسهامه الأساسي تمثل في كتاباته وأبحاثه التي بدأها منذ سبعينيات القرن الماضي، وقد طرح من خلالها مشروعاً فكرياً كبيراً وطموحاً، ينقسم إلى فرعين:
الأول، رسم خريطة لتيارات الفكر العربي الحديث والمعاصر تتضمن قراءة وتحليلاً ونقداً لهذه التيارات، هذه المحاولة تجسدت في كتبه التالية: «تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي»، و«الفكر العربي وصراع الأضداد»، و«تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها»، ويمكن أن نضيف إليها كتابه «مساءلة الهزيمة». أما الثاني، فيتمثل في دراسة البيئة المجتمعية التحتية على مستوى الواقع، أي نقد الواقع السياسي والاجتماعي، وتجلى ذلك في أعماله «تكوين العرب السياسي»، «التأزم السياسي عند العرب»، و«العرب والسياسة: أين الخلل؟»..
ولحدود الحيز والمساحة سنقف سريعاً على نموذجٍ من هذه الكتابات، لأنها تمثل في نظر كاتب هذه السطور نموذجاً دالاً على طريقة الأنصاري في تناوله للقضايا الفكرية، وكيفية تحليلها ومعالجتها، كما تمثل أيضاً إضاءة على قراءاته الواسعة للنصوص، وطريقته في تحليلها وتفكيكها، وإعادة بنائها في سياق طرحه المنهجي أو رؤيته التحليلية الناقدة لهذه الفكرة أو تلك. 
****
يعد جابر الأنصاري من أهم المفكرين العرب الذين أولوا فترة «الإحياء والنهضة» جهداً كبيراً في القراءة والنظر، ثم أصبح في مرحلة تالية من مشروعه هذا أحد أبرز المتحمسين والداعين للتوفيقية التي كتب عنها وشرح مقصوده منها في كتابيه المهمين «تحولات الفكر والسياسة»، «الفكر العربي وصراع الأضداد»..
في هذين الكتابين، وغيرهما من الكتابات والمقالات، يحلل الأنصاري بدأب البدايات الأولى لتشكل ما يمكن أن نسميه خريطة تيارات الفكر العربي الحديث التي يرى أنها لم تغادر دائرتين أساسيتين، هما «دائرة السلفية» التي تجمع كل نشاطات وجهود جماعة الأصوليين والمحافظين، والذين يرون ضرورة الاتكاء على تراث السلف والماضي وحده في أي محاولة للعيش والتمايز والبحث عن المستقبل.
والدائرة الثانية هي «دائرة العلمانية» التي يرى أنها اعتمدت على الأفكار المستوردة وحدها، وعلى منجزات الثقافة الغربية وحدها (وعلاقتنا بالغرب علاقة ملتبسة وشائكة وسيعرض لها تفصيلاً في كتاباته)، وأنها - فيما يرى - أدارت ظهرها لتراث الأمة ولخصوصيتها الدينية والتراثية والفكرية، ومن ثم أصبحت هذه الدائرة توصم بالتغريب.
وبين الدائرتين، ومن خلال الاشتباك الفكري والصراع السجالي بينهما نشأت الدائرة الثالثة، وهي (دائرة التوفيقية) التي أفاض الأنصاري في رسم ملامحها والاستشهاد عليها والتنظير لها ومتابعتها في تطورها التاريخي منذ بدأ «الإحياء التوفيقي» على يد الشيخ محمد عبده، وصولًا إلى ما يسميه توفيقية العقد الرابع من القرن العشرين (الثلاثينيات)، ثم المرحلة التالية من التوفيقية المعاصرة التي كان يمثلها هو بذاته بجهوده الفكرية وقراءاته التحليلية ومحاولاته أيضاً - ضمن تيار فكري كامل يبحث عن إحياء الخلدونية، وتطويرها والإفادة منها - في تأسيس الخلدونية الجديدة.
وفي ثنايا بحثه عن «الإحياء النهضوي العربي»، في مطلع العصر الحديث لاحظ الأنصاري أنه كان بالدرجة الأولى «إحياء شعرياً» أدبياً لتجاوز انحطاط الشعر العربي بالدرجة الأولى، والعودة به إلى صفائه الكلاسيكي في العصر العباسي، ولذلك، فإنه (أي الإحياء) لم يتأسس على النثر العقلي العربي كما في «المقدمة» لابن خلدون، وسواها من نصوص فكرية لمفكري الإسلام من الكندي والفارابي وابن سينا والغزالي وابن رشد وابن طفيل وابن حزم.. إلخ.
كانت هذه التفاتة مبكرة جداً وفارقة لغياب نصوص النثر العربي عن مشهد «الإحياء»، وأظن أن جل الدارسين والمفكرين ممن ركزوا جهدهم على هذه المنطقة قد تأثروا بدرجة أو أخرى بهذا الالتفات الدقيق للمرحوم جابر الأنصاري، ومن ملاحظته النافذة بأن لغتنا العربية، ظلت تعاني الغياب أو أنها ظلت تكرس بالأحرى تلك التراتبية التفاضلية في ميزان الفنون، حيث تسودها ثقافة الشعر باعتباره «ديوان العرب» - بكل الرومانسيات المثالية - بينما «النثر» هو لغة العصر، ولا بد من إعادة تأسيسها عليه أو أقلها الموازنة بين عاطفة الشعر وعقلانية النثر، إذا أريد لها أن تساير العصر وتتجاوز التحديات والمحاذير التي أصبحت تحيط بوجودها وبقائها، في الصميم.
وفي كتابه المهم (والذي لم ينل ما يستحق من قراءة وتأمل ومناقشة) «تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها» يرى الدكتور الأنصاري أنه لا بديل عن استئناف مسيرة «النهضة الفكرية»، وذلك بإعطاء تلك (المحاولة/ المحاولات) النهضوية الرائدة حقها، والانطلاق منها دون إفراط أو تفريط. فلا شيء يبدأ من فراغ، ولا بد من تراكمٍ متصل لتحقيق الانعطاف النوعي، والثورة الأصيلة هي التي تعرف كيف تبني فوق ما سبق من بناء، أما الهدم فلن ينتج غير ما نحن فيه.
ولا يمكن أن تحقق الأمم أي نوع من الصحوة في واقعها، إلا إذا بدأت بصحوة معرفية عقلية تحليلية ونقدية، لذاتها أولاً ولماضيها وحاضرها ولحقائق عالمها وعصرها ثانياً. فلا صحوة بلا عقل، ولا صحوة بلا معرفة حقيقية للذات. ومنذ أن تيقظ العقل الإنساني ومقولة (اعرف نفسك) تتصدر اهتماماته وهي مقولة تنطبق على الأفراد انطباقها على الأمم، خاصة تلك التي تجد صعوبة في مواجهة حقائق ذاتها بموضوعية وشجاعة. ومع مطالع الألفية الثالثة، قدم الأنصاري واحدة من أهم القراءات المسحية لما جرى في قرن كامل يطلق عليه (القرن.. الماكر)، راصداً بعين عالم الاجتماع وذهنية ناقد الفكر ودقة دارس القانون المحطات الفكرية الكبرى والتحولات العالمية في مضمار السياسة والاجتماع والثقافة والفكر.

المصدر: صحيفة الاتحاد

كلمات دلالية: محمد جابر الفكر العربي الثقافة العربية الحضارة الإسلامية اللغة العربية جابر الأنصاری الفکر العربی

إقرأ أيضاً:

د. عبدالله الغذامي يكتب: الفكر تحت سلطة الحرف

ذكر عباس محمود العقاد قصةً عن لجنة حكومية انتظمت في مصر لاختيار نشيدٍ وطني، وعرضوا عليهم بضعة نصوص غفلاً من الأسماء ليختاروا واحداً منها يرونه الأقوى في تمثيل مجد مصر، وظهر على رئيس الجلسة أنه يجر الحديث باتجاه نصٍ محدد، ولكن العقاد كان مع نص آخر أقوى في شعريته وفي تمثله للقيم الوطنية المصرية، وراح العقاد يبين عوار ذلك النص المفضل لرئيس اللجنة، وكان الأعضاء يميلون لموقف العقاد، وحين اشتد النقاش وتوتر، صرخ رئيس اللجنة وقال: هذا النص لأحمد شوقي، مما جعل الأعضاء كلهم يغيرون رأيهم لمصلحة نص شوقي، وتم لهم ذلك رغم غضب العقاد واعتراضه. 
وهذه القصة تبين مدى تأثير الذاكرة البشرية على قرارات الناس، وكل شخصيةٍ تحتل الذاكرة فإنها تتحول لقيمةٍ مركزية تتغلب على كل القيم الأخرى، حتى قيم الحق وقيم العلمية وقيم الواقعية، وللاسم قوته في فرض قيمته على الاستقبال وعلى القرارات إذا ما كان اسماً مترسخاً في الذاكرة العامة.
وحول ذلك كنت في نقاش مع ناشر مصري في مطلع حياتي الثقافية، وسألته عن فن اختيار أغلفة الكتب فقال لي هناك ثلاثة خيارات:
‏إن كان المؤلف اسماً مهماً جعلنا اسمه بحرف كبير ويتصدر وجه الغلاف، وإن لم يكن اسماً ضارباً نظرنا في الموضوع، فإن كان لافتاً ومغرياً ركزنا عليه وكبرنا حجمه، فإن لا هذا ولاذاك.. فزي بعضه. 
وفي زمن التدوين المبكر في الثقافة العربية كان سوق المربد في البصرة، وكانت تتصدره الأسماء الكبرى في ذاكرة الثقافة من الجاهليين الذين أصبحوا فحول الثقافة، لدرجة أن الانتحال لا ينجح إلا إذا استخدم اسم شاعرٍ فحل أو شعرٍ عن قبيلة لها ذاكرةٌ مترسخة مثل قبيلة بني عذرة، حيث يروج أي شعر في الحب إذا ما انتسب لعذري، بل أصبحت عبارة الشعر العذري مصطلحاً شعرياً ونقدياً.
وفي زمننا هذا احتلت العلامات التجارية صدارة الانتشار في غلاء الثمن وهيمنة السوق. 
وفكرياً كان الجاحظ يضع أسماء مشاهير على كتبه المبكرة كي تحظى بالقبول بما أن اسمه في البدء لم يكن ذا بال. وهذه صورة لقوة الحرف في توجيه المسارات، والاسم ليس سوى حرف (حروف) منطوق أو مكتوب، ولكنه يتحول لسلطةٍ معنوية وقيمية.
كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة  الملك سعود - الرياض

أخبار ذات صلة د. عبدالله الغذامي يكتب: لسان الثقافة د. عبدالله الغذامي يكتب: الوعي والتجييش

مقالات مشابهة

  • وزارة الإعلام: ننوه إلى وسائل الإعلام العربية والغربية التعامل بدقة ومصداقية مع الأحداث الجارية وعدم الوقوع في فخاخ الشائعات التي يتم ضخها على مواقع التواصل الاجتماعي بشكل متصاعد وممنهج
  • رئيس حزب العربي الناصري يصل إلى مقر حفل الإفطار السنوي لأبناء قنا والأقصر والقبائل العربية
  • البرلمان العربي ينوه بالإسهامات التي حققتها المرأة العربية على كافة الأصعدة
  • العراق يستردُّ متهمين بـسرقة القرن من الكويت
  • نقيب الصحفيين العراقيين رئيس اتحاد الصحفيين العرب الاستاذ مؤيد اللامي : غيًرنا صورة العراق في الإعلام العربي من ” بلد القتل والطائفية” إلى “بلد السلام والأمان”
  • د. عبدالله الغذامي يكتب: الفكر تحت سلطة الحرف
  • وصية معمّر من أهل صحار في القرن الثالث الهجري
  • القمة العربية واليوم التالي في غزة وفلسطين
  • وزارة الخارجية : المملكة تدين الجرائم التي تقوم بها مجموعات خارجة عن القانون في الجمهورية العربية السورية واستهدافها القوات الأمنية
  • وزير الخارجية الصيني: غزة ملك للفلسطينيين وندعم خطة التعافي التي أطلقتها مصر والدول العربية