مر العام وما زالت تصدعات كبرى تضرب بعنف جدران الوعي العربي، أزمات من كل لون، حالات من تراجع للقيم الكبرى في العالم، شر وعنف وتصعيد مركب للعصبيات المؤججة للصراعات الإثنية والطائفية، تزمين مطلق وبأشكالٍ متعددة لعنف اجتماعي يعود إلى ماض ظل يتغلغل بصورة متعاظمة ليعيد إنتاج العنف التاريخي الذي عاشته أمتنا العربية حيث تصارعت قواها الحية نزولاً عند منطق زمنها الاجتماعي، وليست تلامُ في ما انتهت إليه، فهذا حظها وكسبها، لكننا ما زلنا أسرى أوهام تركب فينا الأذى كله.

. أنظر فقط لما تعيشه هذه المجتمعات.. ففي بلادي حرب ستكلفنا انقسامات جديدة في جسد الجغرافيا.. أما محنتنا الكبرى في فلسطين فقد وصلت إلى الحد الذي يستوجب علينا أن نعيد النظر في فهمنا لطبيعة الصراع، فما عاد يكفي أن تظل فلسطين جملة في سطر الهتاف دون الانتباه لتبدلات في السياق تستوجب أن نعيد تكييف فهمنا للمشكلة، أن نخفف من التناول العاطفي المشبوب بأشكال من النظر الأحادي للمسألة دون فهم جديد يعترف بضرورة عقلنة الصراع والاستعداد لفهمه من زوايا أخرى.. وقبل كل شيء أن نحمي إنسان القضية ولا نستثمره في الموت.

أزمات إنسانية تعانيها مجتمعاتنا العربية.. مؤسسات للعنف يتطاول حضورها ضد الجميع.. تراجع واسع للتسامح وحلول العصبيات الضيقة.. والحقيقة أن وراء الأزمات التي تعيشها المجتمعات العربية تلك التي تعشعش فيها حالات من تناقض بين بناها الاجتماعية سبب ثاو يتعلق بغياب الصلة بين الوعي والذات، غياب مجتمع المعرفة، وحلول الانخراط الأعمى في الماضي حيث تُقتل الفاعلية ولا يجد العربي نفسه إلا أمام رُكام من محنٍ يتوجب عليه أن يظل منخرطًا في تأدية واجب الطاعة لها، يفعل ذلك بالرغم من أنها مشكلاتنا في الماضي وليس الآن، والحل يبدأ من تطويق الظاهرة بالدراسة؛ دراستها ثقافيًّا لرد الاعتبار للذات العربية المرهقة.. فكيف يمكن للثقافة أن تسهم في حل الأزمات التي تضربنا كأنها أمواج هاربة من الشط.. هذه مسألة لا يسعها مقال قصير.. ولكن.

إن الثقافة العربية المعاصرة مستسلمة تماما لمقولات تقع خارج حدودها، لقد فقدت خصوصيتها وانتقلت لتتبنى بالكامل مقولات فضاء لا يتمثل فيها، فمقولات مثل: «نهاية التاريخ، وحتمية الصراع، ومجتمعات الخوف...إلخ» لا تخصنا، وهي المسؤولة عن التصدعات الكبرى، فإنها نتاج طبيعي لما جرى في العقل الغربي من تحولات؛ هي تحولات منذ هيجل وحتى فوكو، والحقيقة التي يجب الإشارة إليها أنه لا وجود لماهيات مستقلة لما نسميه الثقافة العربية، فالمحددات الرئيسية التي تصنع أي ثقافة، وجود مجازات عليا تصنع منظومتها، فالذي جرى أننا وقفنا عند شواطئ المعرفة وهي تُغرِق نفسها وتعيد تثمين حضورها بصورة مستمرة، تفعل ذلك وما زالت لأنها معرفة مُنسّبْة إلى ظاهرتها الاجتماعية الخاصة، فمنذ فيزياء نيوتن وبايولوجيا تريفينوس ولامارك في القرن الثامن عشر، وحتى راولز في نظرية العدالة بثمانينيات القرن الماضي، فإن الكلمة العليا في الغرب كانت العمل على التخلص من كل قيد والسماح للإنسانية أن تجري في مجرى التاريخ بدلاً عن العقائد المغلقة، وكل ما تم هناك يشكل ملحمة غربية بامتياز، ملحمة توصل بها هذا الآخر في خاتمة المطاف ولا يزال إلى نظرية في المعرفة، ولم يزل يعمل على دحض فكرة قيومية الأيديولوجيا على الإنسان، كل هذا وأكثر يجري في سياقات مختلفة عنا، وينتج تجليات أوسع في السياسة والاقتصاد والدين، هذا ما يملكه ويصنعه الآخر، أما نحن فما نسميه الثقافة العربية فهي ليست إلا تمظهر هذا الغربي في الوعي العربي ما أحدث اضطرابا في هذا العقل وأعجزه عن مواجهة مساءلة الخاصة، وإذا كان الإصلاح الاجتماعي مطلب عزيز على العقل العربي المعاصر، فلابد من الاعتراف بضرورة فهم النظام الاجتماعي قبل كل شيء، كيف تتشكل بُناه الرئيسة؟ وعلى ماذا يعتمد في فهمه للعالم والذات؟ ولفعل ذلك فالمدخل المنتج هو تحليل دور الثقافة في خلق هذا النظام، وإذ نريد فينبغي علينا تنشيط ذراع البحث الأنثروبولوجي في الوطن العربي، إذ بغيابه تراجعت قدراتنا التحليلية عن الإمساك بتلابيب الظاهرة، ومن متاعب ذلك، التخليط الذي نقع فيه ونحن نسعى لفهم التحولات الاجتماعية في واقعنا، وهو تخليط مرده غياب تركيب المناهج على تحليل الثقافي فينا يؤمثل ما يصنعنا ويُعَبر عنه، وهو تحليل سيفتح أمامنا آفاقا أوسع لفهم البنية الاجتماعية ومقاربة مشكلاتها، إمساكٌ بالداخلي فيها سيجعل من الممكن بناء معاييرنا على أسس من فهم موضوعي للواقع وللفرد للاجتماعي العربي.

وانطلاقًا من موضوعة الفرد الاجتماعي محل الإصلاح فإن مدرسة التحليل الثقافي للمجتمعات، تضع بين أيدينا سياقات ثلاثة لفهم طبائع الارتباط بين الفردي والجمعي في المجتمعات لدراسة المبادئ الثقافية المُشكِلة له ولعناصر التضامن بين البشر في فضائهم الجمعي، وهذه المبادئ (الفردية - الهرمية - المساواة) وهي مبادئ تسعفنا لفهم ما يحرك الفردي ويصنع له موقفه تجاه الآخرين، وتفسح الطريق لمعرفة أشكال الارتباطات داخل سياقات المؤسسات الاجتماعية حتى نتمكن من فهم مصادر تشكل الحياة الفردية في المجتمع كوننا نجمع بين الثقافي (=الفردي) والاجتماعي (=العام). وليس من مهام أمام الفاعلين العرب إلا الدفع بقوة لصالح ترجيح كفة المعرفة بالذات والآخر، وهي معرفة لا تنبني على أساس من انغلاق بقدر ما هي شكل من عمليات تطهيرية تشتبك مع المؤذي في الوعي وتجفف قنوات انتقاله إلى الثقافي فينا، ولو عملنا على حصر أهم المشكلات التي تواجه عملية الإصلاح الاجتماعي عندنا فإن أولها: التفكير العرقي في الذات والآخر، وهو تمثيل لبنية العصبية القبلية التي ترسخت بسبب من سوء الصلة بالتراث، وهي البنية المسؤولة عن إنتاج جملة مظاهر الإعياء في المجتمع، ثم: العنصرية المستندة على وهم الامتياز، والتي منها تتسلسل أعمال الكراهية وتتشبث بجدار الوعي العربي، فالمجتمعات العربية تعاني من فصام بين الواقع والذاكرة، وما يضربها من أزمات يعود بالدرجة الأساس إلى سُكنى أشباح التعصب بأشكاله المتعددة، التعصب «للطائفة.. للقبيلة..للإثنية.. للموقع الاجتماعي...إلخ» ولو أراد الفاعلون الاجتماعيون المنادون بتحسين وعي مجتمعاتهم وإدماجها في اللحظة العالمية الراهنة النجاح، فإن أول أدوارهم بناء أواصر التضامن بين المجتمع الواحد وليفعلوا ذلك فإنهم مطالبون بإنجاز الدراسات الثقافية التي تكشف عن بلاغة هذه المجتمعات، ومن ثم العمل على تطويرها لصالح البقاء مستقلة وواعية بلحظتها.

إنه ودون القضاء على مصادر الكراهية في المجتمع العربي لن نستطيع بناء مسارات آمنة للخروج من العنف الاجتماعي، فالكراهية هي الداء العضال الذي تعانيه مجتمعاتنا، أما تلك التي استطاعت أن تحقق إنجازها في التنمية والاستقرار فإنها لم تفعل ذلك إلا بعد أن رسخت في مجتمعها قيم التسامح؛ فالتسامح هو السبيل الوحيد إلى التنمية الاجتماعية والتقدم الاقتصادي.

غسان علي عثمان كاتب سوداني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی المجتمع

إقرأ أيضاً:

الهيئات المالية العربية تناقش بالكويت سبل تحقيق أهداف التنمية المستدامة

ينظم الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي وصندوق النقد العربي الاجتماعات السنوية المشتركة للهيئات المالية العربية والدورة الاعتيادية السادسة عشر لمجلس وزراء المالية العرب، غداً الأربعاء الموافق 9 أبريل، بفندق سانت ريجيس، بمدينة الكويت. 

المشاط في قمة صوت مصر: هدف الحكومة الاستثمار في بناء الإنسانارتفاع جماعي بمؤشرات البورصة في ختام تعاملات اليوم

يرأس الجلسة الافتتاحية سلطان بن سالم الحبسي، وزير المالية في سلطنة عمان، ويشارك في الاجتماعات السنوية وفود الدول العربية التي تضم مجموعة من الوزراء وكبار المسؤولين من الدول المشاركة ونخبه من الاقتصاديين المعنيين بإدارة الدين العام والعاملين بجهاز الدين  ورؤساء الصناديق العربية ووزراء المالية ورؤساء ومحافظي كل من صندوق النقد العربي، الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، المؤسسة العربية لضمان الاستثمار وائتمان الصادرات، المصرف العربي للتنمية الاقتصادية في افريقيا، ، والهيئة العربية للاستثمار والإنماء الزراعي.  

وفي هذا الصدد، صرح  بدر السعد المدير العام ورئيس مجلس إدارة الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي بأن الاجتماعات السنوية تمثل منصة مهمة لتبادل الخبرات ومناقشة التحديات التي يواجها صناع السياسات المالية وتقييم الدور الريادي الذي تقوم به المؤسسات المالية العربية من أجل دعم النمو الشامل وتحقيق أهداف التنمية المستدامة في الوطن العربي.

وأشار إلى أن استراتيجية الجديدة للصندوق العربي تركز على تمويل المجالات التنموية ذات الأولوية للدول العربية مثل تطوير رأس المال البشري وتحقيق الأمن المائي والغذائي ودعم المشاريع الخضراء ومقاومة آثار التغير المناخي إضافة إلى تطوير البنية التحتية وتمويل القطاعات الاقتصادية ذات القيمة المضافة باستعمال منتجات وخدمات مالية مبتكرة.

من جانبه، أوضح  الدكتور فهد بن محمد التركي، المدير العام ورئيس مجلس إدارة صندوق النقد العربي، أن الاجتماعات السنوية تُعد فرصة مهمة لتعزيز التعاون بين المؤسسات المالية العربية، مشيراً إلى الدور المهم الذي يقدمه صندوق النقد العربي ضمن استراتيجيته الجديدة كرائد في الاستقرار الأقتصادي والنمو المستدام، ما يُمكنه من الاستمرار في المساهمة في دفع عجلة النمو الاقتصادي في المنطقة.

كما أكد  دور الصندوق في شبكة الأمان المالية والعمل على تحقيق الأستقرار الأقتصادي وتقديم المشورة وبناء القدرات وتقديم خدمات ذات قيمة مضافة وتعزيز التنمية المستدامة في الدول العربية.

يحضر اجتماع مجلس وزراء المالية العرب بصفة مراقب كلاً من جامعة الدول العربية، والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، والمدراء التنفيذيين العرب في كلاً من صندوق النقد الدولي ومجموعة البنك الدولي. ويتولى صندوق النقد العربي مهام أمانة المجلس منذ إنشائه.

كما يتم على هامش الاجتماعات الإعلان عن المشروع الفائز بجائزة عبد اللطيف يوسف الحمد التنموية في الوطن العربي، المقدمة من الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي.

وينظم الصندوق العربي يوم 10 أبريل ورشة عمل مشتركة مع كل من صندوق النقد العربي، والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي بعنوان "تحقيق الأهداف التنموية في ظل عدم اليقين المالي وهشاشة المديونية: الاتجاهات المستقبلية" لمناقشة الآثار المترتبة على الديون والسياسات المالية المطلوبة للاستجابة للأزمات العالمية وتحقيق الاستقرار المالي.

يشارك في الورشة كل من:

- الدكتور فهد بن محمد التركي، المدير العام ورئيس مجلس إدارة صندوق النقد العربي

- بدر السعد، المدير العام ورئيس مجلس إدارة الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي

- جهاد أزعور، مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بصندوق النقد الدولي

- الدكتور محمود محيي الدين، المدير التنفيذي وعضو مجلس الإدارة في صندوق النقد الدولي والمبعوث الخاص للأمم المتحدة لتمويل التنمية المستدامة 2030

- عثمان ديون، نائب رئيس البنك الدولي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

- الدكتورة جاياتي غوش، أستاذ الاقتصاد بجامعة ماساتشوستس أمهيريست وعضو المجلس الإستشاري للأمين العام للأمم المتحدة.

- الدكتور ميرزا حسن، المستشار الأول للمدير العام لصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي

مقالات مشابهة

  • محافظ الوادي الجديد: تدشين عيادتين للتأمين لخدمة مركزي بلاط وباريس
  • وزير الثقافة المصري يستقبل الأمين العام للهيئة العربية للمسرح
  • للاستيلاء على 700 ألف دينار.. حبس 3 مسؤولين بمجلس إدارة مركز الدراسات الاجتماعية
  • متحدث الوزراء: الانتهاء من المرحلة الأولى بـ"حياة كريمة" مع العام المالى الجديد
  • مسقط تستضيف "مهرجان آفاق العربي للمسرح الجامعي".. 12 أبريل
  • الهيئات المالية العربية تناقش بالكويت سبل تحقيق أهداف التنمية المستدامة
  • الطيران العماني يُعلن عن تسيير رحلاته إلى موسكو على مدار العام مع إطلاق جدول الصيف الجديد
  • أسامة سعد استقبل المدير الجديد لأمن الدولة في الجنوب
  • شباب ليبيا يبحثون مع البعثة الأممية كيفية «الحد من العنف داخل المجتمعات»
  • إبراهيم شقلاوي يكتب: تكنيك منى أبو زيد وخطاب الكراهية