لا كرامة لوطن يهان فيه المواطن
تاريخ النشر: 4th, January 2025 GMT
بقلم : فالح حسون الدراجي ..
فكرة هذا المقال مركونة في ذهني منذ خمس سنوات تقريباً، لكنها برزت امامي اليوم بشكل لافت، فوجدت من المفيد عرضها في مقال افتتاحي
بمناسبة العام الجديد، عسى أن ينال الموضوع اهتمام من يعنيهم الأمر، رغم قناعتي أن القضية أكبر من الذين ( يعنيهم الأمر)، وأكبر من مناسبة العام الجديد .
والقضية أو الفكرة التي أتحدث عنها هنا وأدعو لها بقوة، تتمثل باحترام المواطن وصون حريته وكرامته بل وتقديسها إن بقيت ثمة قدسية للأشياء في زمننا هذا ..
نعم، أنا أتحدث عن كرامة المواطن التي تهدر في كل مكان.. وحريته التي تسلب في كل زمان، وليس شرطاً ان تهدر هذه الكرامة في أحد مراكز الشرطة، او إحدى الدوائر الأمنية، فهذه الدوائر استوفت شروط ومستلزمات الإهانة منذ زمن بعيد، بحيث بات المواطن معتاداً عليها، بل ومقتنعاً بما يحصل له من (احترام) وتقدير عالٍ في هذه المواقع ( الوطنية) !
لذلك، أنا لا أتحدث عما يتعرض له المواطن في الدوائر الأمنية فقط، إنما أتحدث عما يحصل له من إهانات وعدم احترام في مختلف دوائر الدولة العراقية أيضاً.. فابتزاز المواطن مثلاً وإجباره على دفع (رشوة) مقابل تمشية معاملته (السليمة) في دوائر البلدية أو العقاري او أحد المنافذ الحدودية، أو في دائرة عقارات الدولة، أو التنمية الصناعية، أو أيّ دائرة حكومية عراقية اخرى، هو امتهان لكرامة المواطن، واحتقار لذاته الإنسانية.. وهو لا يقل أذى وتأثيراً عن أذى وتأثير الكيبلات والصوندات التي يتلقاها (المواطن) في الدوائر الأمنية.. لأني أرى أن دفع المواطن نحو ارتكاب الرشوة، وإشراكه بالاكراه في جريمة او جناية لا يحب الوقوع فيها هو عارٌ ما بعده عارٌ .. فكرامة المواطن يجب أن تأتي قبل كرامة أي كائن آخر، بما في ذلك كرامة الوطن نفسه.. إذ ماذا تعني كرامة الوطن، إذا كان المواطن فيه محتقراً ومهاناً وذليلاً ومقموعاً ومبتزاً !..
وكم سيكون الأمر رائعاً لو جعلنا شعار العام الجديد: ( كرامة المواطن واحترام آدميته) عنواناً وطنياً لعام 2025 ، على أن يؤمن كلٌ من المواطن والدولة معاً بهذه الحقيقة .. فاحترام المواطن عندي فوق احترام الوطن. وطبعاً أنا لست ضد احترام الوطن وتقديسه، وإلا ما سفكنا الدماء أنهاراً على مر الزمن دفاعاً عنه، وعن سيادته وكرامته، ولا ارتقى خيرة شبابنا وأحبتنا أعواد المشانق من اجل حرية الوطن وسعادة شعبه..
كما أن حب الوطن لا ولن يقتصر على العراقيين أو على العرب وحدهم، ولا حتى على شعب، أو قومية أو جنس معين، بل وليس مقتصراً على مستوى، أو درجة من درجات الرقي البشري، أو الثقافي، أو التعليمي، إنما يشمل كل شعوب الارض بلا استثناء. فالأوربي يحب وطنه مثلنا ويدافع عنه حد الموت، والأمريكي يدفع حياته ثمناً لحرية وطنه، وكذلك الإنكليزي والألماني والفرنسي والروسي والياباني والأفريقي والآسيوي وغيرهم أيضاً يحبون أوطانهم ويضحون بكل شيء من أجلها ..
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن: (لعد المشكلة وين، إذا كان العراقي أو العربي، لا يختلف في حبه لوطنه عن الأمريكي أو الأوربي، أو الياباني، أو الأسترالي، ولا يختلف عنه في التضحية والفداء )؟!
والجواب: إن المشكلة لا تكمن في العلاقة بالوطن والتضحية لأجله، إنما في العلاقة بالمواطن نفسه ! بمعنى أن المشكلة تتلخص في اختلال التوازن بين الغرب والشرق، ذلك الاختلال المتمثل باختلاف المعايير والمقاسات، والرؤية إلى آدمية المواطن .
فالقياس المستخدم في العلاقة مع المواطن يختلف حتماً بين فرنسا والعراق، وبين امريكا والسودان، وبلجيكا واليمن، وهولندا وايران، وبين هذا البلد الشرقي وذاك البلد الأوربي .. وفضلاً عن نوعية القياس المستخدم، فإن نظرة النظام في العراق إلى مواطنيه تختلف عن نظرة النظام ( السويدي ) إلى مواطنيه والمقيمين أيضاً.
وذات المقارنة يمكن عقدها بين أي مواطن عربي مستلب، ومواطن غربي حر ومتحرر ..!
والسؤال يتكرر مرة أخرى، هنا، باحثاً عن جوهر المشكلة؟.. وجوهر المشكلة برأيي يكمن في ان السلطة في الغرب وجدت، والقوانين سُنّت من أجل حماية الوطن وصيانة حريته، لكنها في الوقت نفسه سنت من أجل صيانة كرامة المواطن وتقديس حريته أيضاً، بينما نجد العكس في بلداننا، حيث القوانين عرجاء، تمشي بساق واحدة.. فالكرامة والاحترام والتبجيل يحظي بها الوطن فحسب، بينما يعاني المواطن من الإهمال وعدم الإهتمام بل وعدم الاحترام أيضاً…. فحكومة العراق مثلاً، أو حكومة السودان، أو حكومة ليبيا، او سوريا، أو أي حكومة عربية أخرى، تحترم وطنها جداً، وتقدسه جداً، لكنها لا تحترم مواطنها (جداً )، بل ولا تشتري كرامته وحريته بفلسين او بفلس واحد على الأقل !
وهنا يكمن جذر الإختلال، فالوطن والمواطن في دول الغرب بكفة واحدة وليس بكفتين متباعدتين، كما هو الحال في العراق او البلدان العربية، كما أن الوطن والمواطن في أوربا وأمريكا والدول المتقدمة محترمان معاً، ومؤمّنان بالدرجة نفسها دون فرق أو تمييز بينهما، بل أن حرية المواطن وكرامته في بعض دول الغرب مصانة ومحفوظة أكثر من الوطن نفسه حتى…!
ثمة حقيقة يجب أن تدركها حكوماتنا، ولأجلها يجب أن تُسنَّ القوانين والقرارات، مفادها أن الوطن – أيّ وطن كان – ليس أكثر من تراب وماء وملح و ( كوم احجار ) ، وهو لايساوي شيئاً بدون وجود المواطن الإنسان.. فالمواطن هو الذي يبني الوطن ويزرعه ويجمله ويكمله وينبض في صدره ويدافع عنه حدّ الموت.. ولهذا يرى الغرب صورة المواطن في قلب صورة الوطن، فتتداخل لديه الصورتان حتى تصبحان صورة واحدة.. إذ لا يمكن أن يكون الوطن جميلاً بدون مواطن جميل، ولن يكون الوطن قوياً ومعافى وفيه المواطن ضعيف و خائف ومرعوب . فالمواطن عندهم يمثل الحياة والرقي والبهجة والجمال، والقوة والابداع والمتعة والتقدم والحرية، لذلك قال (كارل ماركس): “الإنسان أثمن رأس مال”
أما في أوطاننا، فالمواطن للأسف لاقيمة له ولا معنى فهو مجرد رقم لا يؤثر ولا يغير ، إن مات أو عاش ! ..
لذا أقولها بضرس قاطع، إني لا أؤمن بوطن (محترم)، وفيه المواطن (مهان)، ولا أقدس وطناً لا يُقدس إنسانيتي، ولا أدافع عن ( حرية وطن ) بينما تسلب فيه حريتي وكرامتي
وقطعاً لا يوجد في طول الأرض وعرضها، وطن محترم، واللصوصية فيه والرشوة والفساد باتت مهنة يمارسها آلاف السياسيين والنواب، والمسؤولين، والموظفين ورجال الأعمال وغيرهم !
إذاً، لنوقف اسطوانة (الوطن المقدس)، حتى يحترم الإنسان في بلادي، ويتوقف الأطفال في مدينة الثورة وحي طارق، وبوب الشام، والرشاد، والحسينية، والحيانية، وعشرات المدن الفقيرة عن تناول فطورهم من حاويات القمامة !
فالح حسون الدراجيالمصدر: شبكة انباء العراق
كلمات دلالية: احتجاجات الانتخابات البرلمانية الجيش الروسي الصدر الكرملين اوكرانيا ايران تشرين تشكيل الحكومة تظاهرات ايران رئيس الوزراء المكلف روسيا غضب الشارع مصطفى الكاظمي مظاهرات وقفات کرامة المواطن المواطن فی
إقرأ أيضاً:
هل نشهد نهاية عنف وعدمية الغرب؟
تفاعلات عصر التنظيمات
شهد عصر التنظيمات العثمانية "جدلًا" تاريخيًا وتفاعلًا شاملًا ومطردًا لعملية التحديث وامتداداتها وسيرورتها وتداعياتها عبر أكثر من قرنين شهدا أشكالًا من الصيرورة والتحولات التاريخية.
تزامنت حركة التحديث و"الأوربة" في الدولة العثمانية مع نظيرتها في مصر وإيران تقريبًا، وتشابهت بعض أوجهها وسياقاتها. لكن أكثر التجارب التحديثية اكتمالًا وتطرفًا هي الحالة التركية. وحتى تجربة مصطفى كمال باشا في التحديث والعلمنة والأوربة لم تذهب بعيدًا، بل هي امتداد منطقي لمشروع التحديث العثماني، كما رآه وتعهده السلطان محمود الثاني، وابنه السلطان عبد المجيد، ورجال التنظيمات.
استطاع مصطفى كمال باشا والجيوش العثمانية بقيادته هزيمة الإنزال البحري البريطاني في جناق قلعة (غاليبولي)، وتكبدت بريطانيا هزيمة لا نظير لها في تاريخ الإمبراطورية البريطانية، وتم تحرير الأناضول من احتلال القوى الأوروبية، وإسقاط معاهدة سيفر التي قضت بتقسيم الأناضول بين الطليان والفرنسيين واليونان والأرمن، وتدويل الممرات المائية (مضيق البوسفور وبحر الدردنيل).
تلقت العسكرية التركية أكبر جزء من عملية التحديث العثمانية للدفاع عن وجود الإمبراطورية، ومن عملية التحديث ما بعد العثمانية لحاجات دخول تركيا الأحلاف الغربية. وكرّس ذلك دور المؤسسة العسكرية في مسيرة الجمهورية التركية حتى يومنا هذا. كذلك، استقرت مكانة الدولة وجيشها عميقًا في الوجدان التركي، ومن الدعاء المأثور لدى الأتراك: اللهم احفظ لنا الدين والدولة!
إعلان فواعل حركة التحديثمنذ بدء عصر التنظيمات، ومن خلال ملاحظة مساراته وتفاعلاته، تعددت الفواعل "البنيوية" في عملية التحديث والاستجابة للتحدي الغربي الحديث:
دائرة القيادة وصنع القرار الواقعة تحت ضغط تداعيات المسألة الشرقية، وتغول الإمبريالية الأوروبية و"راهنية" التفوق الغربي عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا وضرورة صياغة الاستجابة لهذه التحديات الحرجة. قوى وأوساط تقليدية تعرضت لصدمات عملية التحديث أو تضررت منها وعارضت مساعي التغيير؛ بسبب المصالح أو الجهالة أو تداعياتها الصعبة. دعاة أيديولوجية الأوربة والتماهي الكامل مع النموذج الأوروبي والثقافة الغربية، بمختلف مظاهرها العلمانية والليبرالية والقومية والدستورية. الشرائح والنخب المرتبطة مباشرة بالغرب: طابور خامس وأقليات حاقدة مرتبطة بالاستخبارات الأجنبية، أصحاب المصالح ووكلاء شركات أوروبية، وملتحقون بالسوق الرأسمالية. دعاة التحديث والأسلمة: مفكرون ومثقفون وعلماء دعوا لاستيعاب التحدي الغربي الحديث ونقد الفكر الغربي، وتقديم استجابة قائمة على التجديد الديني والفكري والثقافي.تلقي هذه المعالجة "الفكرية" الضوء على نخب المفكرين من دعاة "الأوربة" والتماهي مع الغرب وكذلك دعاة التحديث والأسلمة.
ارتبط التوجه نحو أوروبا، إلى حد كبير، بالتقدم العلمي والصناعي، وما استُحدِث من دساتير ونظم سياسية وحياة برلمانية وفصل بين السلطات ومساحة حريات وازدهار الصحافة، لكن مظاهر وتضمينات الحداثة لا تقتصر على الصناعة والسياسة، بل تشمل الفلسفة والفكر والرؤية الكونية والثقافة والآداب والفنون والتعليم، والاجتماع (تحرير المرأة والنهوض بالطبقات الاجتماعية المهمشة)، وغير ذلك مما لفت أنظار المطلعين على الخبرة الأوروبية.
دعاة الأوربة والتماهيبعيدًا عن استقصاء جميع المفكرين في هذا الاتجاه، نجد اللبناني شبلي شميِّل (1850-1917) من أوائل دعاة الأوربة والاستجابة الكاملة للثقافة الغربية. وكان شميّل قد سافر إلى فرنسا منتصف سبعينيات القرن 19، وترسخت لديه فكرة أو "نزوة" النشوء والارتقاء لداروين أو نظرية التطور، ونقل إلى العربية شرح الطبيب والفيلسوف الألماني لودفيغ بُخنر (1824-1899) لها.
إعلانفكان شميّل أول من نقل هذه النظرية إلى اللغة العربية قبل ترجمة إسماعيل مظهر لكتاب تشارلز داروين "أصل الأنواع". كتب شميّل رسالة بعنوان "شكوى وأمل"، إلى السلطان عبدالحميد الثاني، وقال فيها إن الدولة العثمانية تفتقد العلم والعدل والحرية، وذهب إلى أن "الحكمَ الديني" و"الحكم الاستبدادي" كلاهما فاسدان؛ لأنهما غير طبيعيين وغير صحيحين؛ فالأول يلجأ إلى السلطة لمنع نمو العقل البشري نموًا سليمًا، والثاني لا يعترف بحقوق الأفراد، وكلاهما يؤديان لجمود العقل ويعوقان التقدم.
كان شميل من قيادات حزب "اللامركزية" العثماني الذي ضمّ أيضًا السيد محمد رشيد رضا، وعبدالحميد الزهراوي، ورفيق العظم، وحافظ السعيد، وعلي النشاشيبي، وغيرهم من قادة الحركة الإصلاحية العربية.
اعتبر شميّل العلوم الحديثة الأساس الذي قامت عليه الحضارة الغربية المتفوقة، ودعا لاقتباسها والأخذ عنها دون تردد. لكن ما دور نظرية التطور البيولوجي لداروين في تحقيق العلم والعدل والحرية والتقدم؟ إن لم تكن "صرعة" أو فتنة للانحطاط بالإنسان إلى درك الحيوانات بعد التكريم والاستخلاف الإلهي!
في مصر، استهل أحمد لطفي السيد (1872-1963) مشروعه التغريبي بالدعوة إلى قومية مصرية، ملتحقة بحضارات البحر الأبيض المتوسط، كأساس لانتماء المصريين، كما دعا لاستخدام العامية بدل الفصحى، وتأثر بالمدرسة الليبرالية الفرنسية "المنكسرة" أواخر القرن التاسع عشر، بعد انكسار فرنسا أمام ألمانيا في حرب 1870.
وربما هذا ما يفسر انهزامية لطفي السيد إزاء الاحتلال الإنجليزي لمصر ودعوته للانكفاء على الذات. ومع ذلك لُقّب لاحقًا بأستاذ الجيل (جيل المثقفين الليبراليين)، واعتُبِر أبًا لليبرالية المصرية.
أما سلامة موسى (1887-1958) فكان من رواد الاشتراكية بمصر، ونهل أيضًا من الثقافة الغربية، ودعا لاستخدام العامية بدل الفصحى، بل ذهب (وكذلك عبدالعزيز باشا فهمي) إلى الدعوة لكتابة العربية بالحروف اللاتينية؛ باعتبار ذلك وثبة للمستقبل، ورغم تبريره ذلك بأمّيّة أغلب المصريين، فإن تلك الدعوة مثلت آنذاك صدعًا في جدار الحضارة العربية الإسلامية ووعي الأمة، وبدا أكثر تأثرًا بالغرب وسخطًا على المجتمع.
إعلانوكان سلامة موسى قد سافر إلى فرنسا ثلاث سنوات تعرف خلالها على أفكار فولتير (1694-1778)، وكارل ماركس (1818-1883)، ثم ارتحل بعد ذلك إلى إنجلترا، وظل بها أربع سنوات، انضم فيها لجمعية الاشتراكية الفابية، والتقى أحد أهم مفكريها جورج برنارد شو (1856-1950) الذي أشاد بمنهج وقدرة رسول الإسلام، ﷺ، على حل مشكلات البشرية.
تبنى سلامة موسى نظرية داروين في النشوء والارتقاء (!) وطرح أفكارًا متماهية تمامًا مع أوروبا ومتصادمة بشدة مع المجتمع، حتى قال: "فلنولِّ وجهنا شطر أوروبا… ونجعل فلسفتنا وفق فلسفتها"، وقلل من شأن الدين باعتباره خاضعًا للتطور، فهو عنده مصدر بشري وليس مصدرًا إلهيًا. وصاغ ذلك بقوله: "ليس للإنسان في هذا الكون ما يعتمد عليه سوى عقله، وأن يأخذ الإنسان مصيره بيده ويتسلط على القدر بدل أن يخضع له".
شارك طه حسين (1889-1973) في مرحلة انبهاره بالغرب، وقبل أوبته، في صياغة أطروحات التغريب، كما ذكر في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر": "إن الطريق واضحة بيِّنة مستقيمة لا عوج فيها ولا التواء، وهي واحدة فليس فيها تعدُّد، وهي أن نسير سيرة الأوروبيين، ونسلك طريقهم لنكون لهم أَندادًا، ولنكون شركاء لهم في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يُحب وما يُكره، وما يُحمد منها وما يُعاب".
بدأ هذا الانبهار والتماهي التام لدى دراسته في فرنسا (1914-1918)، وهناك فُتن بمنهج ديكارت في "الشك"، والتقى عالم الاجتماع الفرنسي دوركايم (1858-1917) الذي أشرف على أطروحته: "فلسفة ابن خلدون الاجتماعية".
دعاة التحديث والأسلمةكان الصدر الأعظم والبيروقراطي العثماني المخضرم، خير الدين باشا التونسي (1820-1890)، من رواد الإصلاح والتحديث في القرن 19، واتسمت أعماله بالتركيز على إصلاح الدولة والإدارة والحكم. ولا يُذكر عصر التنظيمات دون الإشارة إلى أفكاره وأعماله وإصلاحاته، وقد سجّل كثيرًا من أفكاره الإصلاحية في كتابه "أقوم المسالك لمعرفة أحوال الممالك". تقوم حركة الإصلاح عند خير الدين باشا على مبدأين:
إعلانالأول، ضرورة التجديد والاجتهاد في الشريعة الإسلامية، بما يتلاءم مع ظروف العصر وأحوال المسلمين، ويتفق مع ثوابت الشريعة، ودعا علماء الأمة إلى توسيع مفهوم السياسة الشرعية.
الثاني، ضرورة الأخذ بالمعارف وأسباب العمران الموجودة في أوروبا؛ لأنها طريق المجتمع إلى النهوض، وإذا كان هذا الطريق يتطلب تأسيس الدولة على الحرية والعدل، فإنهما أصيلان في الشريعة.
دعا خير الدين باشا للإصلاح الشامل على أساس العدل في حكم الرعية، ورفع مظاهر الظلم والعسف بحكم يقوم على الشورى، وتعدد مؤسسات الحكم، وعدم انفراد شخص مهما أوتي من قدرة وكفاءة وحسن سياسة بتصريف شؤون البلاد وإدارة أمور الرعية؛ لأن في الاستبداد والانفراد مدعاة للتفريط في الحقوق.
واشترط أن تعي الأمة مسؤولياتها، وتُحْسِن ممارسة حريتها، وتراقب سير أمور الحكم، وتطالب بحقوقها. من أبرز مآثره صياغة دستور 1861، ومن أهم بنوده:
الالتزام بمقتضيات وثيقة عهد الأمان الصادرة عام 1857. الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. إنشاء "المجلس الأكبر" المكون من 60 عضوًا معيّنين لمدة 5 سنوات. ومن صلاحياته وضع القوانين وتنقيحها وشرحها وتأويلها والموافقة على الأداءات ومراقبة الوزراء ودرس مشروع الميزانية. إنشاء شبكة من المحاكم تباشر القضاء.كما أنشأ المدرسة الصادقية عام 1875 لتباشر تجديد النهج التقليدي الذي تمثّله جامعة الزيتونة، فدُرّست اللغات والعلوم الرياضية والطبيعية بالمدرسة الصادقية.
بدوره، يمثّل الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873) نموذجًا بارزًا للمفكرين المسلمين في زمن التحديث المبكر، خاصة بعد انتهاء مرحلة انبهاره مبكرًا بالحضارة الفرنسية، وقام بدور بنّاء في نهضة التعليم بمصر الحديثة.
وكان شيخ الجامع الأزهر الشيخ حسن العطار (1766-1853) قد رأى أن يرسله مع بعثة فرنسا إمامًا وواعظًا لطلاب البعثة في 1826. وقد سجل انطباعاته المبكرة حول الحضارة الغربية في كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز". قضى الطهطاوي هناك خمس سنوات، ثم عاد لمصر وافتتح مدرسة للترجمة صارت لاحقًا "مدرسة الألسن".
إعلانوأنشأ أقسامًا للعلوم الرياضية والطبيعية والإنسانية، وأصدر قرارًا بتدريس المعارف والعلوم بالعربية، فاستطاع الجمع بين الأصالة والتحديث، كما أصدر الجريدة الرسمية "الوقائع المصرية" بالعربية بدل التركية.
ازدهرت الحركة العلمية على يد الطهطاوي، خاصة الترجمة من اللغات الأخرى، وقام بتعريب القانون المدني الفرنسي كاملًا، لكن جهوده النهضوية لم تمنع الحكام من اضطهاده مرتين، ونُفي في إحداهما إلى طوكر بالسودان، وظل رغم ذلك دؤوبًا في أعمال الترجمة والإنتاج الفكري.
وقد قام بنفس المسعى الشيخ حسين الجسر، أستاذ السيد محمد رشيد رضا، عندما مزج دراسة العلوم الشرعية بالعلوم الرياضية والمعارف الطبيعية في المدرسة الوطنية الإسلامية بطرابلس لبنان، مما يسترعي التساؤل عن أسباب إجهاض هذه الجهود وعدم تعميمها!
هل كان المطلوب الاقتباس من الحضارة الغربية ومحاكاتها فحسب دون الاتصال بالبعد الثقافي للأمة؟!
أراد الطهطاوي أن يقدم صيغة سابقة لخلفه، ممن ينسب إليهم الدعوة إلى تحرير المرأة المصرية، فصاغ عقد زواجه ملتزمًا فيه أن تكون زوجه طالقًا منه إذا تزوج عليها، ووعدها أنها إذا دامت معه على المحبة المعهودة لا يتزوج بغيرها أصلًا ولا يتمتع بالجواري أبدًا.
في مصر امتدت آثار الطهطاوي لكثير من المفكرين اللاحقين كالأفغاني والكواكبي اللذين ناديا بإصلاحات دستورية وسياسية، وكذلك الإمام محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا، ومنه إلى تلميذه حسن البنا. وكان محمد عبده قد وضع برنامجًا للحزب الوطني القديم خلال فترة الحركة العرابية:
"هذا الحزب يخضع للجناب الخديوي العالي، وهو مصمم على تأييد سلطته ما دامت أحكامه جارية على قانون العدل والشريعة حسب ما وعد به المصريين في سبتمبر /أيلول 1881، وقد قرن هذا الخضوع بالعزم الأكيد على عدم عودة الاستبداد والأحكام الظالمة التي أورثت مصر الذل، والإلحاح على الحضرة الخديوية، إذ يطلبون منها الاستقامة وحسن السلوك في جميع الأمور، وهم يساعدونه قلبًا وقالبًا، كما أنهم يحذرونه من الإصغاء إلى الذين يحسّنون إليه الاستبداد والإجحاف بحقوق الأمة ونكث المواعيد التي وعد بإنجازها".
إعلانالآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية