ترجمة: أحمد شافعي -
لا يمكن أن يوصف واقع الفلسطينيين الحالي بأقل من الكارثي.
لقد لقي أكثر من خمسة وأربعين ألفا منهم مصرعهم في غزة وفقا للهيئات الصحية هناك. وانخلع أكثر من 90% من أهل غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة من جذورهم ولم يبق من أغلب البنية الأساسية إلا الحطام. والهجوم الإسرائيلي المستمر عليهم يمثل بالفعل الحلقة الأكثر دموية في تاريخ التشريد القسري للفلسطينيين.
وقد لا يكون الوضع كارثيا بالقدر نفسه في الضفة الغربية لكنه كارثي أيضا، حيث لقي ما لا يقل عن 800 فلسطيني مصرعهم في غارات متكررة للجيش الإسرائيلي ومن جراء إرهاب المستوطنين الإسرائيليين المنفلت منذ قيام حماس بهجومها في السابع من أكتوبر سنة 2023. فما نشهده هو العنف الأكثر دموية في الأراضي الفلسطينية منذ أكثر من عقدين، أما القيادة الفلسطينية العاجزة المتصلبة المفتقرة إلى الرؤية فقد خذلت الفلسطينيين.
هذا هو الواقع المقبض الذي لا نعرف بعد كيف ستكون عواقبه على المدى البعيد. لكن ثمة قوى ذات شأن تعمل أيضا لصالح الفلسطينيين ولا يمكن غض الطرف عنها. فحركة التضامن الدولي سريعة التنامي، والاحتمال التاريخي لمحاسبة المجتمع الدولي لإسرائيل، والمخزون الفلسطيني الهائل من المواهب والصمود، كل هذه تكتنز وعدا بمستقبل أفضل في الانتظار على الرغم من عمق الأزمة الراهنة.
شأن لحظات كارثية أخرى في التاريخ الفلسطيني، سوف تترك كارثة غزة الراهنة أثرا لا يمحى على وعي الفلسطينيين الوطني. ولا يمكن لحرب قتلت أكثر من سبعة عشر ألف طفل وأطلقت العنان للمجاعة والمرض على نطاق واسع إلا أن تفعل ذلك. ولو تركت المعاناة الإنسانية والصدمة الجماعية للتقيح، هي وانهيار النظام الاجتماعي في غزة والإحساس المتنامي باليأس، فهذه جميعا هي الشروط الأكيدة لسوق أجيال إلى الاضطراب والعنف.
في المدى القريب، سوف يواجه الفلسطينيون أيضا تحديا جديدا يتمثل في إدارة ترامب القادمة. فسجل ترامب في ولايته الأولى ومنذ إعادة انتخابه تفصح عن كل شيء ولا تترك مجالا لخيال. وبرغم تقديمه نفسه بوصفه «مناهضا للحرب: فقد تردد أن الرئيس ترامب تعهد بتقليل القيود على تصدر الأسلحة إلى إسرائيل عما كانت عليه في ظل إدارة ترامب. والمرشحون لتولي المناصب في إدارة ترامب، ومنهم حاكم الولاية السابق مايك هكابي المرشح لمنصب السفير الأمريكي في إسرائيل وتعيين بيت هيجسيث نجم قناة فوكس نيوز وزيرا للدفاع، لا تبدو فقط إيمانا بـ«إسرائيل الكبرى» ومعارضة لحق الفلسطينيين في تقرير المصير ولكنها تبدو أيضا متبنية للحماسة المسيحية التي يتبناها أشد عناصر السياسات الإسرائيلية تطرفا، وتجسد رؤية للعالم تمحو الفلسطينيين فعليا. في الوقت نفسه، يتعهد كثيرون في دائرة ترامب بقمع النشاط المؤيد للفلسطينيين في جميع أنحاء الولايات المتحدة.
ولكن هناك فرصة لمستقبل مختلف. فمحاولات إسكات الأصوات الفلسطينية هي في ذاتها استجابة لأحد أقوى الأدوات الفلسطينية وهي الاعتراف العالمي بعدالة قضيتهم. خلافا للحال في عام 1948 حينما تأسست دولة إسرائيل وتم طرد مئات الآلاف من الفلسطينيين أو فرارهم، وخلافا للحال في عام 1967 حينما احتلت إسرائيل أراضي فلسطينية بعد الحرب العربية الإسرائيلية، ثمة اليوم حركة تضامن دولي ملتزمة بالتحرر الفلسطيني. وتمثل حشدا غير مسبوق.
وما استمرار التظاهرات في جامعات أمريكا الشمالية وأوروبا بصفة خاصة، على الرغم مما يمارس عليها من قمع وتشويه في كثير من الأحيان، إلا إبراز للتغير الجيلي العميق في كيفية رؤية كثيرين في الغرب للقضية، فبدلا من السردية الموالية لإسرائيل ثمة الآن تركيز على الحقوق الفلسطينية وعلى الإنسانية. وفي حين أن مظاهرات الجامعات قد تعد قليلة الشأن سياسيا، فإنها تشير إلى تحول أعمق في الرأي العام لعله يفرز في النهاية تغيرا في السياسة.
وهناك طرق أخرى مهمة قد يحدث من خلالها التغيير. فالأحكام الأخيرة الصادرة عن محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية تؤكد على الأقل إمكانية المساءلة عن الموت والدمار الواسع النطاق في غزة.
برغم تاريخ إسرائيل في انتهاك الفلسطينيين وهو تاريخ جيد التوثيق، فإنها لم تتعرض رسميا قط للمحاسبة، سواء في سياق عملية السلام ذات القيادة الأمريكية أو في سياق أي عملية دولية. والآن، في ضوء توافر أدلة على انتشار وشناعة انتهاكات القانون الدولي في الحرب الراهنة، فقد باتت للمساءلة أهمية قصوى. في يناير الماضي، بعد أن رفعت جنوب أفريقيا قضية في محكمة العدل الدولية تتهم فيها إسرائيل بالإبادة الجماعية في غزة، خلصت المحكمة إلى أن بعض مخاوف جنوب إفريقيا على الأقل «معقولة» وأمرت إسرائيل بمنع قواتها من ارتكاب أعمال إبادة جماعية. وبرغم أن إسرائيل والولايات المتحدة رفضتا اتهامات الإبادة الجماعية، فإن الأمر يمثل نقطة تحول رئيسية في الصراع المستمر منذ قرن من الزمان بين إسرائيل وفلسطين.
فضلا عن أن قرار المحكمة الجنائية الدولية في نوفمبر بإصدار مذكرات اعتقال لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف جالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزة يمثل المرة الأولى التي تتحرك فيها المحكمة ضد حليف رئيسي للولايات المتحدة. وبرغم أن البتَّ في قضية محكمة العدل الدولية سوف يستغرق سنوات وبرغم أنه لا يرجح أن يواجه زعماء إسرائيل المحاكمة في لاهاي في أي وقت قريب، فإن قضايا المحكمة وجهت ضربة لا رجعة فيها لحصانة إسرائيل التاريخية من العقاب ولسمعتها في العالم. وبغض النظر عما لو أن هذه القضايا سوف تحال إلى المحاكمة أم لا، فسوف يكون من المستحيل أن يتجاهل التاريخ الأحداث التي أدت إليها.
لا شك أن فراغ القيادة المستمر بين الفلسطينيين قد أدى إلى تفاقم معاناتهم. فلم تتمكن السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس في الضفة الغربية ولا قيادة حماس المتدهورة من تقديم حلول للتحديات الوجودية التي يواجهها شعبهم الآن. ومع ذلك، فإن أعظم أمل للفلسطينيين يأتي من الداخل: ففي ظل أحد أعلى معدلات إجادة القراءة والكتابة في العالم (98٪) وفي ظل ثقافة مشهورة بتركيزها على التعليم والابتكار، فإن الشعب الفلسطيني هو أفضل أصول الشعب الفلسطيني. ولا عجب أن يكون جيل جديد من القادة الفلسطينيين قد ظهر في غزة والضفة الغربية والشتات ممن يتحدون إخفاقات أسلافهم، سواء على المستوى الداخلي أو على الساحة الدولية. من هؤلاء أشخاص من قبيل بيسان عودة، الصحفية والناشطة والسينمائية التي ألهمت قصصها العميقة الملايين في العالم بما حكته عن البقاء والحزن والأمل في غزة. فقد نال مقطع الفيديو القصير الذي أنتجته بعنوان «هذه بيسان من غزة وما زلت على قيد الحياة» جائزة إيمي وجوائز أخرى، برغم حملة اتهمتها بالارتباط بالإرهاب، وهو ادعاء شائع موجه ضد العديد من الفلسطينيين البارزين، لكنها نفته. وثمة مثال آخر هو عيسى عمرو، المدافع الشجاع عن حقوق الإنسان والناشط السلمي المقيم في الخليل بالضفة الغربية، فقد عانى من الضرب والسجن والمضايقات على أيدي جنود إسرائيليين وقوات أمن فلسطينية ومستوطنين يهود متطرفين على حد سواء. وباستعماله ما لا يزيد عن صوته والكاميرا، عمل عمرو بلا كلل من أجل حماية المنازل والممتلكات الفلسطينية فلا يستولي عليها المستوطنون والجنود الإسرائيليون بالعنف وألقى الضوء على واقع الأبارتيد القائم في الخليل.
وهناك أحمد أبو أرتيمه، وهو صحفي مستقل وناشط ومنظم لمسيرة العودة الكبرى، وهي حركة احتجاجية غير عنيفة لفتت مظاهراتها الأسبوعية الانتباه إلى محنة اللاجئين الفلسطينيين والحصار الخانق المفروض على غزة. وهناك ندى طربوش، وهي دبلوماسية مقيمة في جنيف تلقت تعليمها في أكسفورد، وقد أصدرت نداءات عاطفية في أروقة الأمم المتحدة من أجل حقوق شعبها وحريته وكرامته. وكل هذه النداءات تبعث الأمل بكونها نقيضا للعبارات الجوفاء التي نسمعها عادة من أروقة السلطة في رام الله، حيث مقر السلطة الفلسطينية.
هؤلاء، بطبيعة الحال، ليسوا سوى عدد قليل من القادة الفلسطينيين الناشئين. وسواء تحدد المستقبل الذي سيولد من رماد غزة بهؤلاء القادة وأقرانهم أم بالفوضى والعنف المستمرين فإن هذا يتوقف أيضا إلى حد كبير على كيفية استجابة بقية العالم ـ وعلى ما إذا كانت الولايات المتحدة والحكومات الغربية الأخرى ستستطيع أخيرا أن تنصت إلى الأصوات الفلسطينية الأصيلة وتتبنى تمثيلهم للقضية.
خالد الجندي مدير برنامج فلسطين والشؤون الفلسطينية الإسرائيلية في معهد الشرق الأوسط ومؤلف كتاب «النقطة العمياء: أميركا والفلسطينيون، من بلفور إلى ترامب».
خدمة نيويورك تايمز
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
أونروا تحذر: حظر إسرائيل مساعدتنا لملايين الفلسطينيين يقترب
حذرت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) -اليوم السبت- من أن الوقت يمر لدخول الحظر الإسرائيلي على الوكالة حيز التنفيذ مما سيمنعها من تقديم خدماتها لملايين اللاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية المحتلة، بما في ذلك القدس.
ويأتي التحذير الأممي قبل أقل من شهر على دخول قرار إسرائيلي حيز التنفيذ بحظر عمل الوكالة نهاية يناير/كانون الثاني الجاري في مناطق سيطرتها، وذلك بعد تصويت الكنيست على القرار في 28 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وقالت مديرة التواصل والإعلام في الأونروا جولييت توما -في مقابلة مع راديو وتلفزيون أيرلندا- إن "الوقت يمر لفرض حظر محتمل على الوكالة مما يمنعها من تقديم خدماتها الأساسية لملايين اللاجئين الفلسطينيين في غزة والضفة، بما في ذلك القدس الشرقية".
وشددت توما أن "الأمم المتحدة لا تخطط لاستبدال الوكالة بالأراضي الفلسطينية، ويجب أن يتراجع الكنيست الإسرائيلي عن قرار حظرها".
وأقر الكنيست الإسرائيلي بشكل نهائي حظر نشاط الأونروا بعد أن ادعت الحكومة الإسرائيلية أن موظفين عاملين في الوكالة، كانوا جزءا من هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ويعني قرار الحظر الإسرائيلي، أن الوكالة لن تكون قادرة على ممارسة عملها في المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، بما يشمل غلق مكاتبها وأي حسابات مصرفية لها داخل إسرائيل.
إعلانوتأسست الأونروا بعد النكبة الفلسطينية عام 1948 بفترة وجيزة، بهدف مساعدة اللاجئين الفلسطينيين الذين نزحوا إثر إعلان قيام دولة إسرائيل. وتنشط الوكالة حاليا في 5 مناطق رئيسية، وهي قطاع غزة والضفة الغربية والأردن وسوريا ولبنان، وتقدم خدماتها لقرابة 5.9 ملايين فلسطيني، بحسب بياناتها الرسمية.