الجزيرة:
2025-01-06@16:34:25 GMT

هل نشهد نهاية عنف وعدمية الغرب؟

تاريخ النشر: 4th, January 2025 GMT

هل نشهد نهاية عنف وعدمية الغرب؟

تفاعلات عصر التنظيمات

شهد عصر التنظيمات العثمانية "جدلًا" تاريخيًا وتفاعلًا شاملًا ومطردًا لعملية التحديث وامتداداتها وسيرورتها وتداعياتها عبر أكثر من قرنين شهدا أشكالًا من الصيرورة والتحولات التاريخية.

تزامنت حركة التحديث و"الأوربة" في الدولة العثمانية مع نظيرتها في مصر وإيران تقريبًا، وتشابهت بعض أوجهها وسياقاتها.

لكن أكثر التجارب التحديثية اكتمالًا وتطرفًا هي الحالة التركية. وحتى تجربة مصطفى كمال باشا في التحديث والعلمنة والأوربة لم تذهب بعيدًا، بل هي امتداد منطقي لمشروع التحديث العثماني، كما رآه وتعهده السلطان محمود الثاني، وابنه السلطان عبد المجيد، ورجال التنظيمات.

استطاع مصطفى كمال باشا والجيوش العثمانية بقيادته هزيمة الإنزال البحري البريطاني في جناق قلعة (غاليبولي)، وتكبدت بريطانيا هزيمة لا نظير لها في تاريخ الإمبراطورية البريطانية، وتم تحرير الأناضول من احتلال القوى الأوروبية، وإسقاط معاهدة سيفر التي قضت بتقسيم الأناضول بين الطليان والفرنسيين واليونان والأرمن، وتدويل الممرات المائية (مضيق البوسفور وبحر الدردنيل).

تلقت العسكرية التركية أكبر جزء من عملية التحديث العثمانية للدفاع عن وجود الإمبراطورية، ومن عملية التحديث ما بعد العثمانية لحاجات دخول تركيا الأحلاف الغربية. وكرّس ذلك دور المؤسسة العسكرية في مسيرة الجمهورية التركية حتى يومنا هذا. كذلك، استقرت مكانة الدولة وجيشها عميقًا في الوجدان التركي، ومن الدعاء المأثور لدى الأتراك: اللهم احفظ لنا الدين والدولة!

إعلان فواعل حركة التحديث

منذ بدء عصر التنظيمات، ومن خلال ملاحظة مساراته وتفاعلاته، تعددت الفواعل "البنيوية" في عملية التحديث والاستجابة للتحدي الغربي الحديث:

دائرة القيادة وصنع القرار الواقعة تحت ضغط تداعيات المسألة الشرقية، وتغول الإمبريالية الأوروبية و"راهنية" التفوق الغربي عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا وضرورة صياغة الاستجابة لهذه التحديات الحرجة. قوى وأوساط تقليدية تعرضت لصدمات عملية التحديث أو تضررت منها وعارضت مساعي التغيير؛ بسبب المصالح أو الجهالة أو تداعياتها الصعبة. دعاة أيديولوجية الأوربة والتماهي الكامل مع النموذج الأوروبي والثقافة الغربية، بمختلف مظاهرها العلمانية والليبرالية والقومية والدستورية. الشرائح والنخب المرتبطة مباشرة بالغرب: طابور خامس وأقليات حاقدة مرتبطة بالاستخبارات الأجنبية، أصحاب المصالح ووكلاء شركات أوروبية، وملتحقون بالسوق الرأسمالية. دعاة التحديث والأسلمة: مفكرون ومثقفون وعلماء دعوا لاستيعاب التحدي الغربي الحديث ونقد الفكر الغربي، وتقديم استجابة قائمة على التجديد الديني والفكري والثقافي.

تلقي هذه المعالجة "الفكرية" الضوء على نخب المفكرين من دعاة "الأوربة" والتماهي مع الغرب وكذلك دعاة التحديث والأسلمة.

ارتبط التوجه نحو أوروبا، إلى حد كبير، بالتقدم العلمي والصناعي، وما استُحدِث من دساتير ونظم سياسية وحياة برلمانية وفصل بين السلطات ومساحة حريات وازدهار الصحافة، لكن مظاهر وتضمينات الحداثة لا تقتصر على الصناعة والسياسة، بل تشمل الفلسفة والفكر والرؤية الكونية والثقافة والآداب والفنون والتعليم، والاجتماع (تحرير المرأة والنهوض بالطبقات الاجتماعية المهمشة)، وغير ذلك مما لفت أنظار المطلعين على الخبرة الأوروبية.

دعاة الأوربة والتماهي

بعيدًا عن استقصاء جميع المفكرين في هذا الاتجاه، نجد اللبناني شبلي شميِّل (1850-1917) من أوائل دعاة الأوربة والاستجابة الكاملة للثقافة الغربية. وكان شميّل قد سافر إلى فرنسا منتصف سبعينيات القرن 19، وترسخت لديه فكرة أو "نزوة" النشوء والارتقاء لداروين أو نظرية التطور، ونقل إلى العربية شرح الطبيب والفيلسوف الألماني لودفيغ بُخنر (1824-1899) لها.

إعلان

فكان شميّل أول من نقل هذه النظرية إلى اللغة العربية قبل ترجمة إسماعيل مظهر لكتاب تشارلز داروين "أصل الأنواع". كتب شميّل رسالة بعنوان "شكوى وأمل"، إلى السلطان عبدالحميد الثاني، وقال فيها إن الدولة العثمانية تفتقد العلم والعدل والحرية، وذهب إلى أن "الحكمَ الديني" و"الحكم الاستبدادي" كلاهما فاسدان؛ لأنهما غير طبيعيين وغير صحيحين؛ فالأول يلجأ إلى السلطة لمنع نمو العقل البشري نموًا سليمًا، والثاني لا يعترف بحقوق الأفراد، وكلاهما يؤديان لجمود العقل ويعوقان التقدم.

كان شميل من قيادات حزب "اللامركزية" العثماني الذي ضمّ أيضًا السيد محمد رشيد رضا، وعبدالحميد الزهراوي، ورفيق العظم، وحافظ السعيد، وعلي النشاشيبي، وغيرهم من قادة الحركة الإصلاحية العربية.

اعتبر شميّل العلوم الحديثة الأساس الذي قامت عليه الحضارة الغربية المتفوقة، ودعا لاقتباسها والأخذ عنها دون تردد. لكن ما دور نظرية التطور البيولوجي لداروين في تحقيق العلم والعدل والحرية والتقدم؟ إن لم تكن "صرعة" أو فتنة للانحطاط بالإنسان إلى درك الحيوانات بعد التكريم والاستخلاف الإلهي!

في مصر، استهل أحمد لطفي السيد (1872-1963) مشروعه التغريبي بالدعوة إلى قومية مصرية، ملتحقة بحضارات البحر الأبيض المتوسط، كأساس لانتماء المصريين، كما دعا لاستخدام العامية بدل الفصحى، وتأثر بالمدرسة الليبرالية الفرنسية "المنكسرة" أواخر القرن التاسع عشر، بعد انكسار فرنسا أمام ألمانيا في حرب 1870.

وربما هذا ما يفسر انهزامية لطفي السيد إزاء الاحتلال الإنجليزي لمصر ودعوته للانكفاء على الذات. ومع ذلك لُقّب لاحقًا بأستاذ الجيل (جيل المثقفين الليبراليين)، واعتُبِر أبًا لليبرالية المصرية.

أما سلامة موسى (1887-1958) فكان من رواد الاشتراكية بمصر، ونهل أيضًا من الثقافة الغربية، ودعا لاستخدام العامية بدل الفصحى، بل ذهب (وكذلك عبدالعزيز باشا فهمي) إلى الدعوة لكتابة العربية بالحروف اللاتينية؛ باعتبار ذلك وثبة للمستقبل، ورغم تبريره ذلك بأمّيّة أغلب المصريين، فإن تلك الدعوة مثلت آنذاك صدعًا في جدار الحضارة العربية الإسلامية ووعي الأمة، وبدا أكثر تأثرًا بالغرب وسخطًا على المجتمع.

إعلان

وكان سلامة موسى قد سافر إلى فرنسا ثلاث سنوات تعرف خلالها على أفكار فولتير (1694-1778)، وكارل ماركس (1818-1883)، ثم ارتحل بعد ذلك إلى إنجلترا، وظل بها أربع سنوات، انضم فيها لجمعية الاشتراكية الفابية، والتقى أحد أهم مفكريها جورج برنارد شو (1856-1950) الذي أشاد بمنهج وقدرة رسول الإسلام، ﷺ، على حل مشكلات البشرية.

تبنى سلامة موسى نظرية داروين في النشوء والارتقاء (!) وطرح أفكارًا متماهية تمامًا مع أوروبا ومتصادمة بشدة مع المجتمع، حتى قال: "فلنولِّ وجهنا شطر أوروبا… ونجعل فلسفتنا وفق فلسفتها"، وقلل من شأن الدين باعتباره خاضعًا للتطور، فهو عنده مصدر بشري وليس مصدرًا إلهيًا. وصاغ ذلك بقوله: "ليس للإنسان في هذا الكون ما يعتمد عليه سوى عقله، وأن يأخذ الإنسان مصيره بيده ويتسلط على القدر بدل أن يخضع له".

شارك طه حسين (1889-1973) في مرحلة انبهاره بالغرب، وقبل أوبته، في صياغة أطروحات التغريب، كما ذكر في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر": "إن الطريق واضحة بيِّنة مستقيمة لا عوج فيها ولا التواء، وهي واحدة فليس فيها تعدُّد، وهي أن نسير سيرة الأوروبيين، ونسلك طريقهم لنكون لهم أَندادًا، ولنكون شركاء لهم في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يُحب وما يُكره، وما يُحمد منها وما يُعاب".

بدأ هذا الانبهار والتماهي التام لدى دراسته في فرنسا (1914-1918)، وهناك فُتن بمنهج ديكارت في "الشك"، والتقى عالم الاجتماع الفرنسي دوركايم (1858-1917) الذي أشرف على أطروحته: "فلسفة ابن خلدون الاجتماعية".

دعاة التحديث والأسلمة

كان الصدر الأعظم والبيروقراطي العثماني المخضرم، خير الدين باشا التونسي (1820-1890)، من رواد الإصلاح والتحديث في القرن 19، واتسمت أعماله بالتركيز على إصلاح الدولة والإدارة والحكم. ولا يُذكر عصر التنظيمات دون الإشارة إلى أفكاره وأعماله وإصلاحاته، وقد سجّل كثيرًا من أفكاره الإصلاحية في كتابه "أقوم المسالك لمعرفة أحوال الممالك". تقوم حركة الإصلاح عند خير الدين باشا على مبدأين:

إعلان

الأول، ضرورة التجديد والاجتهاد في الشريعة الإسلامية، بما يتلاءم مع ظروف العصر وأحوال المسلمين، ويتفق مع ثوابت الشريعة، ودعا علماء الأمة إلى توسيع مفهوم السياسة الشرعية.

الثاني، ضرورة الأخذ بالمعارف وأسباب العمران الموجودة في أوروبا؛ لأنها طريق المجتمع إلى النهوض، وإذا كان هذا الطريق يتطلب تأسيس الدولة على الحرية والعدل، فإنهما أصيلان في الشريعة.

دعا خير الدين باشا للإصلاح الشامل على أساس العدل في حكم الرعية، ورفع مظاهر الظلم والعسف بحكم يقوم على الشورى، وتعدد مؤسسات الحكم، وعدم انفراد شخص مهما أوتي من قدرة وكفاءة وحسن سياسة بتصريف شؤون البلاد وإدارة أمور الرعية؛ لأن في الاستبداد والانفراد مدعاة للتفريط في الحقوق.

واشترط أن تعي الأمة مسؤولياتها، وتُحْسِن ممارسة حريتها، وتراقب سير أمور الحكم، وتطالب بحقوقها. من أبرز مآثره صياغة دستور 1861، ومن أهم بنوده:

الالتزام بمقتضيات وثيقة عهد الأمان الصادرة عام 1857. الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. إنشاء "المجلس الأكبر" المكون من 60 عضوًا معيّنين لمدة 5 سنوات. ومن صلاحياته وضع القوانين وتنقيحها وشرحها وتأويلها والموافقة على الأداءات ومراقبة الوزراء ودرس مشروع الميزانية. إنشاء شبكة من المحاكم تباشر القضاء.

كما أنشأ المدرسة الصادقية عام 1875 لتباشر تجديد النهج التقليدي الذي تمثّله جامعة الزيتونة، فدُرّست اللغات والعلوم الرياضية والطبيعية بالمدرسة الصادقية.

بدوره، يمثّل الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873) نموذجًا بارزًا للمفكرين المسلمين في زمن التحديث المبكر، خاصة بعد انتهاء مرحلة انبهاره مبكرًا بالحضارة الفرنسية، وقام بدور بنّاء في نهضة التعليم بمصر الحديثة.

وكان شيخ الجامع الأزهر الشيخ حسن العطار (1766-1853) قد رأى أن يرسله مع بعثة فرنسا إمامًا وواعظًا لطلاب البعثة في 1826. وقد سجل انطباعاته المبكرة حول الحضارة الغربية في كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز". قضى الطهطاوي هناك خمس سنوات، ثم عاد لمصر وافتتح مدرسة للترجمة صارت لاحقًا "مدرسة الألسن".

إعلان

وأنشأ أقسامًا للعلوم الرياضية والطبيعية والإنسانية، وأصدر قرارًا بتدريس المعارف والعلوم بالعربية، فاستطاع الجمع بين الأصالة والتحديث، كما أصدر الجريدة الرسمية "الوقائع المصرية" بالعربية بدل التركية.

ازدهرت الحركة العلمية على يد الطهطاوي، خاصة الترجمة من اللغات الأخرى، وقام بتعريب القانون المدني الفرنسي كاملًا، لكن جهوده النهضوية لم تمنع الحكام من اضطهاده مرتين، ونُفي في إحداهما إلى طوكر بالسودان، وظل رغم ذلك دؤوبًا في أعمال الترجمة والإنتاج الفكري.

وقد قام بنفس المسعى الشيخ حسين الجسر، أستاذ السيد محمد رشيد رضا، عندما مزج دراسة العلوم الشرعية بالعلوم الرياضية والمعارف الطبيعية في المدرسة الوطنية الإسلامية بطرابلس لبنان، مما يسترعي التساؤل عن أسباب إجهاض هذه الجهود وعدم تعميمها!

هل كان المطلوب الاقتباس من الحضارة الغربية ومحاكاتها فحسب دون الاتصال بالبعد الثقافي للأمة؟!

أراد الطهطاوي أن يقدم صيغة سابقة لخلفه، ممن ينسب إليهم الدعوة إلى تحرير المرأة المصرية، فصاغ عقد زواجه ملتزمًا فيه أن تكون زوجه طالقًا منه إذا تزوج عليها، ووعدها أنها إذا دامت معه على المحبة المعهودة لا يتزوج بغيرها أصلًا ولا يتمتع بالجواري أبدًا.

في مصر امتدت آثار الطهطاوي لكثير من المفكرين اللاحقين كالأفغاني والكواكبي اللذين ناديا بإصلاحات دستورية وسياسية، وكذلك الإمام محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا، ومنه إلى تلميذه حسن البنا. وكان محمد عبده قد وضع برنامجًا للحزب الوطني القديم خلال فترة الحركة العرابية:

"هذا الحزب يخضع للجناب الخديوي العالي، وهو مصمم على تأييد سلطته ما دامت أحكامه جارية على قانون العدل والشريعة حسب ما وعد به المصريين في سبتمبر /أيلول 1881، وقد قرن هذا الخضوع بالعزم الأكيد على عدم عودة الاستبداد والأحكام الظالمة التي أورثت مصر الذل، والإلحاح على الحضرة الخديوية، إذ يطلبون منها الاستقامة وحسن السلوك في جميع الأمور، وهم يساعدونه قلبًا وقالبًا، كما أنهم يحذرونه من الإصغاء إلى الذين يحسّنون إليه الاستبداد والإجحاف بحقوق الأمة ونكث المواعيد التي وعد بإنجازها".

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات عملیة التحدیث فی مصر

إقرأ أيضاً:

المجتمع الدولي لا يكترث بسوريا الجديدة

لا يكترث المجتمع الدولي بسوريا الجديدة ولم يهتم بسوريا القديمة، فالمجتمع الدولي هو تسمية مضللة لنظام عالمي مهيمن بالقوة تقوده الولايات المتحدة يعمل لتحقيق مصالحه القومية، ويستخدم القيم الأخلاقية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحماية الأقليات أداة للسيطرة والهيمنة. فانهيار وزوال نظام آل الأسد الوحشي الطائفي في سوريا على بعد عملية "ردع العدوان"، على يد فصائل المعارضة المسلحة بقيادة "هيئة تحرير الشام" في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، لم يشكل خبرا سارا للمجتمع الدولي، بل خلق مفاجأة مقلقة، فلم تكن القوى الدولية والإقليمية الفاعلة المناصرة أو المناهضة لنظام دمشق ترغب بسقوطه.

فالمقاربة الإمبريالية الأمريكية في الشرق الأوسط تتحدد بتحقيق أمن ونفوذ المستعمرة الإسرائيلية، وقد سمحت وتواطأت مع إيران وروسيا في سوريا، وتغاضت عن وحشية النظام وطائفيته، وحافظت على وجوده وديمومة حكمه. فقد اعتبرت واشنطن أن انتصار الثورة السورية يؤسس لبروز حكومة إسلامية سنيّة ويشجع على ظهور جماعات إرهابية، وهو ما يهدد الأمن الإسرائيلي، ويخل بأركان النظام الشرق الأوسطي الذي يجب أن تقوده إسرائيل.

رغم عدم اكتراث المجتمع الدولي بسوريا الجديدة، فإن مصلحته تتحقق بنشوء نظام سياسي ضعيف تابع يعيش حالة من الاستقرار الهش على شاكلة الأنظمة العربية بصرف النظر عن أيديولوجية من يحكم، لكن الغرب تاريخيا يتوافر على مخيال خصب معاد لتشكل هياكل حكم إسلامية، فالإسلامية تعني تشكل كينونة مناهضة للغربانية الإمبريالية والصهيونية الاستعمارية
رغم عدم اكتراث المجتمع الدولي بسوريا الجديدة، فإن مصلحته تتحقق بنشوء نظام سياسي ضعيف تابع يعيش حالة من الاستقرار الهش على شاكلة الأنظمة العربية بصرف النظر عن أيديولوجية من يحكم، لكن الغرب تاريخيا يتوافر على مخيال خصب معاد لتشكل هياكل حكم إسلامية، فالإسلامية تعني تشكل كينونة مناهضة للغربانية الإمبريالية والصهيونية الاستعمارية. فالمطالب الغربية من سادة سوريا من الإسلاميين الجدد، تسعى إلى تطويع الحكم الجديد للسير على خطى الأنظمة العربية التي ترتكز في سياساتها على ضرورة مكافحة الإرهاب الإسلامي وضمان أمن الاستعمار الإسرائيلي الصهيوني، فالزيارات المتتابعة للمسؤولين الغربيين لا تخرج عن سياق فحص توجهات النظام الجديد ومحاولة تطويعه.

فالمجتمع الدولي لا يستطيع أن يتحمل رؤية سوريا تتفكك دون وجود آليات تتحكم بمسار التفتيت، فالحديث عن مسار سياسي انتقالي سلمي وشامل وضمان حقوق الأقليات والنساء هو أحد أدوات التحكم المنتجة للتفكيك المحسوب، فلا يتحدث الغرب عن تقديم مساعدات اقتصادية أو إعادة إعمار، بل عن المساعدة في تشكل النظام السياسي والقانوني للدولة الجديدة، وهو ما فعلته الأنظمة العربية التي تتبع الغرب.

كان الغرب بقيادة واشنطن ومعه الأنظمة العربية شريكا لحكومة الأسد في سحق الحركة الاحتجاجية الشعبية في سوريا منذ انطلاقها عام 2011، وشكلت سوريا مختبرا للعنف والوحشية لوأد ثورات الربيع العربي من خلال حروب العبرة، وعندما أوشكت فصائل الثورة السورية المسلحة على الإطاحة بحكومة الأسد سمح الغرب بتدخلات إيران وروسيا العسكرية المتوحشة في سوريا، وبقيت تركيا تحاول حماية أمنها القومي بالاحتفاظ بجيوب تسيطر عليها المعارضة في شمال سوريا، بينما قامت الولايات المتحدة بالسيطرة على شمال شرق سوريا من خلال تأسيس قوات سوريا الديمقراطية التي يهيمن عليها الأكراد، وبهذا سيطرت الولايات المتحدة على الموارد الزراعية والثروة الحيوانية ومواد الطاقة والغاز، ورغم نهاية نظام الأسد تحتفظ واشنطن بهذه المناطق الحيوية، ولا تتحدث عن آليات إنهاء احتلالها وتسليمها لسوريا الجديدة.

لم تكن عملية تحرير سوريا سوى نتاج لاختلالات جيوسياسية نشأت عقب عملية "طوفان الأقصى" في غزة، فالولايات المتحدة انشغلت بدعم وإسناد المستعمرة الصهيونية، وتورطت إيران وروسيا في صراعات أخرى. وقد اغتنمت هيئة تحرير الشام المتمركزة في محافظة إدلب وفصائل معارضة أخرى في شمال غرب سوريا الفرصة بشن هجوم في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر على مدينة حلب، وتمكنت من اختراق دفاعات الجيش السوري واستولت على المدينة، وهو ما أدى إلى سلسلة من الفشل المتتالي وقاد إلى انهيار الجيش السوري على مستوى البلاد في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر، ومع اقتراب فصائل المعارضة من دمشق من الشمال والجنوب، فر الأسد إلى روسيا وانهارت حكومته خلال أحد عشر يوما فقط.

إن الحديث عن تلقي المعارضة المسلحة الدعم من الغرب وتركيا لإسقاط النظام، هو دعاية خرافية لا تصمد أمام الحقائق، فقد فوجئ الغرب بسيطرة بانهيار حكومة الأسد وسيطرة هيئة تحرير الشام، وقد استسلمت الدول الغربية والعربية لحقيقة أن هيئة تحرير الشام ستحكم سوريا، وهي مصنفة عند الجميع منظمة إرهابية، باعتبارها النسخة الأحدث لجبهة النصرة، التي كانت في الأصل الطليعة السورية لتنظيم الدولة في العراق ثم فرع القاعدة في سوريا، رغم أنها قطعت علاقاتها علنا مع القاعدة والجهادية العالمية العابرة للحدود الوطنية في عام 2016، ومنذ فك ارتباطها بالقاعدة عملت هيئة تحرير الشام دون جدوى على إعادة تأهيل صورتها وتأمين إزالتها من قوائم الإرهاب الدولية.

تعامل المجتمع الدولي مع سوريا الجديدة ينطوي على نزعة براغماتية واقعية فجة، فسجل هيئة تحرير الشام إبان حكم إدلب بالنسبة للغرب لا يتمتع بالقبول ولا يبشر بالخير لبناء حكومة وطنية تستوعب التنوع الديني والعرقي والسياسي في سوريا، وسوف تبقى تحت العقوبات والمساومة والضغوطات. فالولايات المتحدة ومعها الغرب لن تتخلى عن حلفائها الأكراد، فالسيناريو المفضل للمجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة هو وجود كيان متفتت ومنقسم، ينطوي على كيانات هشة ضعيفة تقوم على أسس عرقية ومذهبية، وهي الطريقة الوحيدة التي تجعل من إسرائيل دولة طبيعية آمنة في المنطقة، فمن خلال الدعوة إلى ضمان حقوق الأقليات تؤسس لقيام عدة جيوب؛ الأكراد في الشمال الشرقي، والدروز في الجنوب، والعلويون في الغرب والشمال الغربي.

الخطر الأكثر إلحاحا على سوريا بالنسبة للمجتمع الدولي هو تجنب الفوضى وبروز جماعات الجهادية العالمية المناهضة للغرب والأنظمة العربية والمستعمرة الصهيونية، وهي الأسباب التي تراهن عليها قيادة هيئة تحرير الشام لضمان تلقي الدعم من المجتمع الدولي، حيث يتعين على جميع الأطراف أن تضمن عدم تحقق أشد التوقعات قتامة عقب سقوط الأسد. ولذلك فالمجتمع الدولي سوف يقبل على مضض حكم هيئة تحرير الشام، ولكنه سوف يعمل دون كلل على إخضاعها، واقتناص الفرص لإسقاطها مع توفر بدائل سلطوية خانعة على شاكلة الأنظمة العربية
إن ما يجعل المجتمع الدولي يتخلى عن سيناريو التقسيم المفضل لديه، هو الخشية من وقوع سوريا في سيناريو الفوضى، وهو ما يسمح بالتعامل مع هيئة تحرير الشام لخلق حالة من النظام والاستقرار النسبي، فما حققته الهيئة في إدلب قد لا تتمكن من تحقيقه في جميع أنحاء سوريا، وحتى سيطرة الهيئة على مكان محدود لم تكن عملية ممهدة وسهلة، فقد انطوت على استخدام العنف لإخضاع فصائل المعارضة المنافسة والتخلص من المنشقين عنها، وهي لا تملك القوة الكافية، إذ لا يتجاوز عدد مقاتليها وكوادرها عن 30 ألف شخص، ولذلك فإن تأسيس جيش وطني من كافة الفصائل هي مهمة شاقة وتتطلب تعاون كافة الفصائل، وهو مطلب صعب التحقق بوجود فصائل مسلحة معارضة للهيئة، وتتوافر على أيديولوجيات مختلفة وولاءات متعددة. فقوات سوريا الديمقراطية تشكل وحدها جيشا قوامه أكثر من 60 ألف مقاتل، وقوات الجبهة الجنوبية لها توجهات مغايرة، فضلا عن الفصائل التي تقوم على أسس إثنية، أو بقايا جيش ومليشيات النظام السابق، وسوف يبقى مقاتلي تنظيم الدولة في حالة استنفار لاقتناص الفرص، وسوف يسعى تنظيم القاعدة إلى إعادة بناء صفوفه. فهيئة تحرير الشام لا تشكل مجموع المعارضة المسلحة في سوريا، وحتى في مناطق سيطرتها المحدودة في إدلب كانت ثمة فصائل معارضة مسلحة.

خلاصة القول أن المجتمع الدولي لا يكترث بسوريا الجديدة، وسوف تبقى سوريا رهينة للتصورات الأمريكية التي تحددها المستعمرة الصهيونية، وأن هيئة تحرير الشام ستبقى تحت وطأة التصنيفات الأدائية السياسية للإرهاب، فمعيار المجتمع الدولي بقيادة واشنطن هو خضوع سوريا للمصالح الغربية وتأمين وجود ومصالح الاستعمار الصهيوني في المنطقة، وسوف تتعاظم أسباب الشك في صدق التحول المعتدل لهيئة تحرير الشام. لكن الخطر الأكثر إلحاحا على سوريا بالنسبة للمجتمع الدولي هو تجنب الفوضى وبروز جماعات الجهادية العالمية المناهضة للغرب والأنظمة العربية والمستعمرة الصهيونية، وهي الأسباب التي تراهن عليها قيادة هيئة تحرير الشام لضمان تلقي الدعم من المجتمع الدولي، حيث يتعين على جميع الأطراف أن تضمن عدم تحقق أشد التوقعات قتامة عقب سقوط الأسد. ولذلك فالمجتمع الدولي سوف يقبل على مضض حكم هيئة تحرير الشام، ولكنه سوف يعمل دون كلل على إخضاعها، واقتناص الفرص لإسقاطها مع توفر بدائل سلطوية خانعة على شاكلة الأنظمة العربية.

x.com/hasanabuhanya

مقالات مشابهة

  • دولة الطوائف في سوريا.. ماذا يريد الغرب؟!
  • نشأت الديهي: نشهد حالة من فرط الشعارات
  • سوريا الجديدة.. لا خوف منها ولا خوف عليها
  • المجتمع الدولي لا يكترث بسوريا الجديدة
  • دمشق..مصافحات ومصارحات
  • اندلاع حريق بمحل سجاد ومفروشات بالإسكندرية
  • لا كرامة لوطن يهان فيه المواطن
  • مصطفى شعبان.. «حكيم باشا»
  • د. حسن البراري .. الوزيرة الألمانية مستفزة!!