أحمد الزعتر .. والذهاب المستمر إلى البلاد
تاريخ النشر: 4th, January 2025 GMT
«ليدين من حَجَر وزعترْ
هذا النشيدُ.. لأحمدَ المنسيّ بين فراشتين،
مَضَتِ الغيومُ وشرّدتني
ورمتْ معاطفها الجبالُ وخبّأتني».
البطل الشعري لا يأتي صريحًا ومباشرًا كحال البطل الروائي، فصورة البطل في القصيدة تظل أكثر كثافةً رمزيةً من صورته في الرواية. حتى وإن عمد الشاعر إلى كتابة نص يذوِّب فيه الشعر سردًا والسردَ شعرًا إلى حدِّ ما يسميه النقَّاد بـ«تداخل الأجناس» في القصيدة الحديثة، يبقى البطل الشعري مع ذلك بابًا مواربًا، فالشخصية التي يحفل بها الشاعر في قصيدته ويرسمها بملامح متناثرة ومتقاطعة، تأتي في الغالب رمزًا أو قناعًا لمعنى ما، لا تكشف عن هويتها ولا تقول بقدر ما تومئ.
شخصية «أحمد الزعتر» أو «أحمد العربي» التي صنعها محمود درويش في قصيدته الملحمية المشهورة عام 1976 مثالٌ بارز على البطل الشعري الذي نتحدث عنه، والذي لا نعثر على سردية واضحة أو نهائية لهويته، فوجهه «الغامض مثل الظهيرة» يظل مفتوحًا للتأويلِ واجترارِ القراءاتِ المتعددةِ المستوحاةِ من الصفات والمجازات اللغوية التي تلونه وتدور حوله.. فمن هذا الأحمدُ المولود من حجر وزعترْ، السريُّ والكحليُّ والكونيُّ والمحروق بالأزرق، كما تصفه الملحمة؟
أول ما يلفتنا هو التصاق اسم أحمد بالزعتر، في انتساب مباشر إلى الطبيعة والأرض. في الوقت ذاته، ندرك على الفور أن النسبة تشير إلى ما كان يومًا ما مخيمَ لجوء فلسطيني يقع في الجزء الشرقي من بيروت؛ إنه مخيم تل الزعتر الذي مُحي عن خارطة الشتات الفلسطيني خلال سنوات الحرب الأهلية في لبنان (1975 - 1990) بعد أن ارتبط اسمه في الذاكرة السياسية الفلسطينية بأبشع صور العداء وأقصى حدود الفتك والدموية التي يمكن للنظام العربي، ممثلًا بالنظام السوري، أن يذهب إليها - بلا هوادة- في سبيل قمع الحركة الوطنية الفلسطينية ولجم استقلاليتها.
من العنوان الذي نشم فيه رائحة الزعتر تبدأ القصيدة الملحمية بالتكشُّف؛ إذ يوفر لنا الشاعر في عنوانه العتبةَ الأساس للدخول الاكتشافي في عتمات القصيدة الطويلة وإشاراتها المتفرقة للمكان وما يحيق به من الظروف السياسية والتاريخية: «مُخيَّما ينمو، ويُنجب زعترا ومقاتلين»، هناك حيث يولد أحمد وتتخلق هويته العربية المضطربة على سؤال مشوش: من هو العدو؟ ومن هو الشقيق؟
ومن الحجر والزعتر يشتق الفتى صفاته وينحت يديه.. هكذا يعلن الشاعر صمود بطلِه الشعري مع مطلع القصيدة، فالانتساب إلى الزعتر لا يتوقف عند الانتساب إلى المكان (المخيم) فحسب، بل يمتد إلى معجم من الصفات التي يتمتع بها ابن المخيم خلال سنوات الغليان الثوري: الصمود والمقاومة والعناد.. إلخ، كما هو حال نبتة الزعتر الجبلي التي تُشتهر بنموها في الأنواء الجافة والظروف الصعبة.
القراءة السياسية المباشرة للقصيدة مهمة بمكان، ولا يجوز برأيي القفز عليها بأي حال من الأحوال لصالح الاستقبال الفني الصرف. تقول القراءة السياسية الأولية إن نص الشاعر الفلسطيني لا يبدو هذه المرة معنيًا بالعدو الكبير، أي بالاحتلال الإسرائيلي، العدو الأوحد للفلسطينيين وسائر العرب من المحيط إلى الخليج، كما تنص شعارات العروبة. نص الشاعر الفلسطيني مشغول هذه المرة بالفضيحة العربية التي كشفها حصار مخيم تل الزعتر من قبل الجيش السوري والميليشيات المارونية الحليفة، ذلك الحصار الذي انتهى بسقوط المخيم في 14 أغسطس من عام 1976 إثر المجزرة المروعة التي ارتُكبت فيها واحدة من أفظع الجرائم (العربية) بحق الشعب الفلسطيني، في ذلك المخيم الفقير البائس العنيد، ومن لاذوا به من اللبنانيين.
«وأعُدُّ أضلاعي فيهرب من يدي بردى
وتتركني ضفاف النيل مبتعدا
وأبحثُ عن حدود أصابعي
فأرى العواصمَ كلّها زَبَدَا...»
كان لا بد لأحمد أن يعيد تعريف معنى كونه عربيًا بعد تلك الخناجر التي شاهدتها تمتد إلى خاصرته. إن أحمد العربي هنا، أحمد المولود مصابًا بالبلاد في ذلك المخيم، هو الفلسطيني المنفي والمطرود والمطارد من كل العواصم العربية. أحمد الفلسطيني هذا، هو الفدائي المقاوم المخذول من الأشقاء، وهو الرهينة المخطوفة باسم العروبة التي تُصر على احتكاره:
«أحمدُ الآن الرهينةْ
تركتْ شوارعَها المدينةْ
وأتتْ إليه
لتقتلهْ
ومن الخليج إلى المحيط، من المحيط إلى الخليج..
كانوا يُعدوُّن الجنازةَ
وانتخاب المقصلةْ».
أحمد الزعتر لن يستعيد نفسه ولن يعود إليها إلا بتحرره من عواصم الزبد، يتحرر أحمد العربي وهو في عمق حصاره من أطرافه الزائدة وينتظر الحصار متحصنًا في جسده المعبد:
«جسدي هو الأسوار ... فليأت الحصار... فليأتِ الحصار...»!
مع أن الشاعر لا يصرح بأن «فلسطين» هي سيدة أحمد السرية التي يواريها في ثنايا النص، فنحن نعرف مدى تبرم محمود درويش المتكرر خلال مراحله الشعرية اللاحقة من التأويل السياسي الذي يبطش بالمرأة في قصيدته، حيث المرأة لا تُفهم إلا بوصفها استعارة للوطن، لكنه يقول: «أنساكِ أحيانا لينساني رجالُ الأمنِ».. كيف نستقبل هذا السطر من قصيدته خارج إلحاح التأويل السياسي الذي يحيلنا إلى التفكير بفلسطين بوصفها تهمة تقود من يحلم بها إلى فروع «الزنازين الشقيقة»؟!
سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
إسحق أحمد فضل الله يكتب: الشبكة التي نتخبط فيها
وكانت تلك أيام مارلين مونرو الأمريكية. وبريجيت باردو الفرنسية وكلوديا كاردينالى الإيطالية و..
كل بلد كان لديه سيقانه التي والتي
وكان الناس يكرعون السيقان هذه على الشاشة…
وصاحب يوسف إدريس حين يرى مارلين مونرو يقول لصاحبه في حسرة
: والنبي. إحنا متجوزين غفر….
وكانت الستينات هى إيام جيفارا وبوليفيا
وجيفارا الذي لا قيمة له في الحقيقة يجعله إعلام الغرب بطلاً أسطوريًا له حكايات…
أسطورة لأن العظمة هي أن تنتصر على العظيم
ولما قتلوه في بوليفيا الكاميرا تجوس جسده وتزعم إن أمرأة تنظر إليه بأنفاس مقطوعة ثم تهمس
: ألا تظن إنه المسيح؟
وكان الشيوعيون في السودان يغنون له…
……
وكانت تلك أيام بيريا وخروتشوف
ودمامل الحقد التي صنعها ستالين .. تنبجس
وفي أول اجتماع للمركزية بعد وفاة استالين كان المشهد هو
خروتشوف يدير عيونه في التسعة عشر الجلوس ثم يقول بهمس مثل صوت المبرد الخشن
: أنا أتهم الرفيق بيريا بأنه عدو للشعب…
وبيريا هو أخطر مدير مخابرات فى الأرض
والاتهام هذا لقيادي في المركزية شىء قانونه هو
إن استطاع مقدم الاتهام إثبات التهمة…أعدم المتهم على مقعده
وإن عجز مقدم الاتهام عن الاثبات أعدم على مقعده
والرؤوس التسعة عشر التي سمعت الاتهام تتحجر وعيونها تغرس فى المائدة الأبنوسية
وصمت….
وقائد الحرس يقود بيريا إلى الخارج
وبيريا يصرخ بعنف
والاعناق التى تحمل الرؤوس لا تتحرك
والأذان تنصت لشىء
ومن خارج الغرفة يأتي صوت رصاصة
والجميع يتنهد
و….
البند الثاني في اجتماعنا هذا .. هو….
……..
وكانت تلك أيام نهاية الكاوبوي …. والمسدس بست طلقات
وظهور ديجانجو .. الذي يستبدل المسدس بالمدفع الرشاش … فالمسدس الذي يقتل الإنسان مرة واحدة يصبح غير مثير. والمسدس يستبدل بالرشاش الذي يقتل الإنسان عشر مرات
كان كل شىء يطحن أسنانه والعالم ينتقل والحال الجديد يصنع السخريات
وحرب كل أحد ضد كل أحد تجلب أدباً جديداً
والكتابات الغليظة لا نريدها لكن نكتة تكفي
وفيها
الرجل المتعب يقف أمام بائع الحجز في المطار
وهذا يسأله عن الجهة التي يقصدها
والرجل يعجز عن تحديد بلد
وموظف الحجز يضع أمامه كرة أرضية ليحدد البلد الذي يريده
والرجل يفحص الكرة الأرضية كلها ثم يقول للموظف
: أليس لديكم كرة أرضية
أخرى … لنذهب إليها
……..
وحتى السخريات من خراب العالم فى المرحلة الجديدة كان بعضها طريفاً
وكتابات عن كل شىء
وعن حروب الانتخابات قال كاتب
: لماذا العراك فى الانتخابات؟ يكفي أن نصدر اعلانًا نقول فيه
مطلوب رئيس بالمواصفات التالية
أن يجيد الرقص التوقيعي … وأن يجيد اخفاء تاريخه و…و… وأن يكون مستعدًا للموت… دون ألم
)
والآن شديد الطرافة
………
وكانت تلك أيام أيام بروفيمو .. وزير الدفاع البريطانى الذى تبشتنه جاسوسة روسية
وكانت تلك أيام اختراع الكلاشنكوف .. حتى يناسب حجم المرأة الفيتنامية الضئيل وهم يقاتلون الأمريكان
…. و….
وما يجمع هذا الركام … ركام الستينات … هو حقيقة مدهشة
ما يجمع هذا كله هو أن الركام هذا كله ليس أكثر من عمل مخابرات
فالستينات وحرب المخابرات كانت هي البذور .. بذور الحنظل
الحنظل الذي نأكله الآن
ومالم نعرف ما يجري في العالم فإن طعامنا سوف يظل هو الحنظل
إسحق أحمد فضل الله
الوان