د. كلثوم لغدايش **

يُعَدّ ابن بطوطة، المعروف باسمه الكامل محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن يوسف اللواتي، والمتحدّر من قبيلة لواته البربرية، أحد أعظم الرحّالة العرب بل ومن أبرز الرحّالة في العالم. فقد كان مغربيًّا أمازيغيًّا مُسلمًا، ومؤرّخًا وقاضيًا وفقيهًا، واشتهر بكونه السبّاق إلى التّعريف ببلاد الصّين والهند في زمنٍ لم يكن يُعرف عنهما إلّا القليل.

بل إنَّ تجربته في بلاد الصين ساعدت في تشكيل صورة إيجابية عنها في ذهن القارئ العربي وغير العربي. ويشهد كتابه الشهير المعروف بـ"رحلة ابن بطوطة" على الرّوابط التّاريخية العريقة بين العرب والصّين في القرن الرابع عشر، مبرزًا عمق العلاقة التي كانت تربط هاتين الحضارتين آنذاك.

وقد عاش ابن بطوطة في القرون الوسطى وقام برحلات طويلة وسجل تجاربه في كتابه المسمى "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، الذي يُطلق عليه باختصار "رحلة ابن بطوطة"،  والذي لقي إقبالًا كبيرًا لدى الشرقيين والغربيين، بفضل غِنى المعلومات التي يُقدمها عن الحضارات والشعوب وطقوسها وعاداتها في تلك الحقبة الزمنية.

وقد طاف ابن بطوطة في بلاد المغرب العربي ومصر والحبشة والشام والحجاز وتهامة والعراق وبلاد فارس واليمن وعمان والبحرين وتركستان وما وراء النهر والهند والصين والجاوة وبلاد التتار وأواسط أفريقيا والأندلس، في رحلة دامت تسعًا وعشرين سنة ونصف السنة.

وتكمن أهمية ترجمة كتاب "رحلة ابن بطوطة" إلى الصينية في كونها مرجعًا تاريخيًا يُستشهد به في توثيق العلاقات العربية الصينية، مما يجعله دليلًا على التبادل الحضاري بين الثقافتين العربية والصينية عبر العصور، ومفتاحًا في الدبلوماسية الثقافية اليوم.

وعمومًا، تكتسب الترجمة بين اللغتين الصينية والعربية قيمة خاصة، نظرًا لدورها الكبير في ربط العلاقات وتقريب المسافات بين الصين والعالم العربي. ومنذ فجر التاريخ، احتلت العلاقات العربية-الصينية مكانة بارزة، وتعاظم دورها في القرن الحادي والعشرين، الأمر الذي يُبرز الحاجة الملحّة إلى تعزيز الحوار والتواصل البنّاء بين الجانبين.

ونجد تَأكيد الرئيس الصيني شي جين بينغ في مقترح الأعمال الثمانية المشتركة على أهمية التبادل الثقافي الصيني العربي، وعلى ضرورة العمل المشترك لتعزيز الحوار بين الحضارات، الذي أعلن عنه في  القمة الصينية العربية الأولى التي عقدت في الرياض، ثم أعاد التأكيد على ذلك مُجددًا في مبادرة الحضارة العالمية.

وبالتالي، فإنَّ ترجمة الأعمال الأدبية والفكرية والعلمية بين اللغتين الصينية والعربية هي بمثابة بوابة لفهم ثقافة وتاريخ الآخر، وهي وسيلة  لبناء جسور التواصل والتفاهم بين الشعوب.

كما تُسهم الترجمة في زيادة التفاهم بين الأفراد والمجتمعات، وخلق بيئة مناسبة للتعاون في مختلف المجالات. من هنا، فإنَّ الترجمة ليست مجرد عملية نقل للكلمات من لغة إلى أخرى، بل هي عملية ثقافية بامتياز.

 وبحسب إحصائيات المحقق عبد الهادي التازي، فقد تُرجم كتاب "رحلة ابن بطوطة" لأكثر من خمسين لغة منها، ما تُرجم مباشرة عن اللغة العربية، ومنها ما تُرجم عبر لغات وسيطة. ومن بين هذه اللغات الخمسين نجد اللغة الصينية، التي شهدت ثلاث ترجمات صينية مختلفة للكتاب. وهذا يشير إلى القيمة الكبيرة التي يعرفها الكتاب في أوساط المجتمع الأكاديمي الصيني، وخصوصًا في مجال التاريخ، والجغرافيا، الإثنولوجيا والديانات.

وأول الترجمات الصينية الثلاث نجد الترجمة الجزئية الصادرة سنة 1912 للمترجم والباحث الصيني البروفيسور تشانغ شينغلانغ، المتخصص في علم التاريخ، والذي قام بترجمة جزئية للكتاب إلى الصينية، ولا سيما الجزء المتعلق بالصين والهند. من ثم نجد ترجمة الأستاذ ما جين بنغ الصادرة سنة 1985، والأخرى هي ترجمة للأستاذة لي قوانغ بين الصادرة سنة 2004، صدرت ترجمتها عن أكاديمية المملكة المغربية عام 1997، وبتحقيق عبد الهادي التازي.

وقد أُهدي الملك الراحل الحسن الثاني نسخة من الترجمة الصينية لكتاب "رحلة ابن بطوطة" في الزيارة الرسمية التي قام بها الرئيس الصيني إلى المغرب سنة 1987، والذي وضع في متحف الهدايا في القصر الملكي، نظرًا للقيمة الكبيرة للكتاب.

ولترجمة كتاب "رحلة ابن بطوطة" إلى اللغة الصينية أهمية بالغة وقيمة كبيرة، لأنها عززت العلاقات الدبلوماسية بين الجانبين العربي والصيني، وذلك من خلال فتح قنوات الحوار بين الطرفين. فقد ذكر لنا ابن بطوطة أحوال الصين في القرن الرابع عشر، وتحدث عن ازدهار الصناعات في الصين، مثل صناعة الفخار التي لا مثيل لها، وتَصَدُّرُ الصينِ المرتبة الأولى في صناعة السُّفن، وذكر الأمن والأمان الذي لم يرَ مثله في أي مكان، وكذا حُسْن الضيافة وحُسْن التعامل مع الغرباء مثله، وتحدث عن ازدهار التجارة في الصين، وغير ذلك من الشواهد في الكتاب التي أُعجب بها الصينيون، وأصبحت لهم دليلًا يشهد على تاريخ العلاقات العربية الصينية القديمة، ويؤكد على قوتها وخلوها من أية شوائب. وهذا الفهم للتاريخ المشترك بين الصين والعرب، يُشَجّع الحوار، والحديث عن الاختلافات والأهداف المشتركة وتعزيز العلاقة بين الطرفين في الحاضر. كما أن صدور الترجمة الصينية للكتاب فتح لمعاهد الدراسات الشرقية في الصين بابا للدراسات الاستشراقية لكون الرحلة ذكرت الكثير من التفاصيل عن العالم الإسلامي، والذي لم يكن معروفًا عنه الكثير في الصين، وبالتالي ملأت هذه الترجمة الفراغ الذي كان يعرفه هذا النطاق، وفتح صفحة جديدة في الصداقة العربية الصينية وأوجد جسرًا في الدبلوماسية الثقافية، بفضل التبادل والتواصل الثقافيين وبالتالي ساهم في تعزيز الحوار الحضاري والعلاقات بين الدول العربية والصين

** باحثة ومترجمة مغربية مختصة بالدراسات الصينية

يُنشر بالتعاون مع مركز الدراسات الآسيوية والصينية

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

«القومي للترجمة» يحتفي بالمترجمة المصرية في اليوم العالمي للمرأة

ينظِّم المركز القومي للترجمة، برئاسة الدكتورة كرمة سامي، الأحد المقبل، احتفالية بعنوان: "هِي تُتَرجِم" لتكريم المترجمات اللاتي أضفن إلى قائمة إصدارات المركز عشرات الترجمات، ونقلن عبرها الفكر والمعارف والثقافة عن عدة لغات مختلفة، في إطار احتفالات وزارة الثقافة المصرية باليوم العالمي للمرأة.

ومن بين أبرز الأعمال الصادرة عن المركز القومي للترجمة في عام 2024، والتي تضاف إلى إنجازات المُترجمة المصرية والعربية: "رحلة الخير: العائلة المقدسة في مصر" ترجمة رضوى محمد قطيط، "الغرب اللاتيني كما رآه العرب - المسلمون" ترجمة آمال علي مظهر، "الأسطورة البدوية" ترجمة منى زهير الشايب، "التاريخ الكامل لطريق الحرير" ترجمة ريهام سمير سعد، حواديت الأطفال جـ 3" ترجمة منى الخميسي، "دريدا الشاب والفلسفة الفرنسية" ترجمة سحر توفيق، "سيكولوجيا الإرهاب" ترجمة الشيماء علي الدين، "موجز تاريخ الأدب البولندي" ترجمة هالة كمال وأجنيشكا بيوتروفسكا، "اللعب والمهارات الاجتماعية" ترجمة هبة محمود أبو النيل وسحر حسن إبراهيم، "دماء في سردينيا.. وقصص أخرى" ترجمة دينا عمار وعائشة عماد ومراجعة سهيمة سليم، "المنزل القابع فوق التل" ترجمة ياسمين أحمد علي وندى عبد الناصر ومراجعة شيرين طه النوساني، "الحداثة والشمولية في الفاشية الإيطالية" ترجمة نجلاء والي وحسين محمود، "الحب والحرب في عيوم طفل" ترجمته إلى الإنجليزية ندى حجازي، وترجمته إلى الفرنسية بشاير علام، "بزوغ المساء" ترجمة سحر سمير يوسف.

ومن بين أبرز الأعمال أيضًا "المغول والعالم الإسلامي" ترجمة منى زهير الشايب، "السينما والنظرية والفلسفة.. أهم المفكرين" ترجمة نيفين حلمي عبد الروؤف، "مصر في العقد الأخير المديد عن القرن التاسع عشر" ترجمة سارة عناني، "إسلام الشارع" ترجمة هاجر بن إدريس، "المحيط الهندي: آفاق مغايرة" ترجمة أماني فايز، "الذاكرة الاجتماعية.. رؤية جديدة للماضي" ترجمة هدى زكريا، "شرق المتوسط وتكوين التيار الراديكالي العالمي" ترجمة دعاء نبيل إمبابي، "ثلاثون مليون كلمة.. بناء مخ الطفل" ترجمة أسماء راغب نوار، "المسلمون في أمريكا.. لمحة تاريخية" ترجمة رانيا علي ماهر، "موسوعة كمبريدج جـ 6" ترجمة سمر طلبة، "الإبداع في تدريس العلوم الأساسية" ترجمة هبة ربيع.

مقالات مشابهة

  • كيف تناور إندونيسيا بين الصين وأميركا؟
  • السفارة الصينية تسهّل إجراءات الحصول على التأشيرة
  • بكين تؤكد مسارات الدبلوماسية الصينية وترفع شعار "مجتمع المستقبل المشترك للبشرية"
  • البرلمان العربي ينوه بالإسهامات التي حققتها المرأة العربية على كافة الأصعدة
  • وزير الخارجية يطلع نظيره التركي على الخطة العربية لإعادة إعمار قطاع غزة
  • كيف تعمل شبكة الإنترنت؟ رحلة إلى قلب الشبكة التي تربط العالم
  • وزير خارجية الصين: ندعم خطة مصر لإعادة إعمار غزة والمبادرة العربية لحل الدولتين
  • وزارة الخارجية : المملكة تدين الجرائم التي تقوم بها مجموعات خارجة عن القانون في الجمهورية العربية السورية واستهدافها القوات الأمنية
  • وزير الخارجية الصيني: غزة ملك للفلسطينيين وندعم خطة التعافي التي أطلقتها مصر والدول العربية
  • «القومي للترجمة» يحتفي بالمترجمة المصرية في اليوم العالمي للمرأة