تعني كلمة "الهرمنيوطيقا" أو "التأويل" فن تفسير النص، وهي في الأصل اليوناني تعني التفسير أو التعبير أو الترجمة، وقد ربط الفيلسوف الألماني هيدجر بين "الهرمنيوطيقا" كمنهج لفهم النصوص وبين الفينومونولوجيا كمنهج لمعرفة العالم ،وبالرغم من أرتباط "الهرمنيوطيقا" الادب بالعلوم الإنسانية، والمنهج الهرمنيوطيقي بمناهج النقد الأدبي عند بول ريكور، فإنه يميز بين نوعين من التعامل مع الرموز أو الإشارات وهما التعامل التقليدي مع الإشارة كوسيط خالص، والتعامل الهرمنيوطيقي الذي يقوم علي إقصاء المعنى السطحي الزائف والكشف عن الخفي.
عزيزي القارئ إذا تتبعنا البحث التأصيلي لهذا المصطلح نجده كما ذكرنا ببداية مقالنا أنه يوناني الأصل ويُسمى بـ Ermhneuc اشتق من اللفظ "Hermes" اسم الإله "هرمس" عند اليونانيين القدامى. حيث إن هرمس كان إلهًا للعلوم الخفية، وكان مرادفًا للإله المصري توت، وُيسمى عطارد "Mercuy" عند الرومان. ولفظ "Hermetic" يشير إلى العلم المستور، ويشير أيضًا إلى المغلق المحكم. كما كانت صناعة الكيمياء تسمى فك الانغلاق إلا الإله هرمس عندهم، فهو الذي يفتح باب العلوم الخفية ويجليها للبشر. كما أن تسميته باللاتينية الزئبق، عند الرومان، بين تفلته وصعوبة الإمساك به، وبالتالي تفلت العلوم التي هو إلها لها.
كما نجد للهرمنيوطيقا عدة دلالات نذكر منها، نظرية تأويل وتفسير النصوص، أو عمل فني، أو عمل موسيقي، إدراك علاقات المعنى في تمظهراته الحيوية مع أشكاله المختلفة، وذلك التأويل، هدفه تأويل النصوص الفلسفية والدينية. ويُقصد بـ "التأويل" ذلك التأويل الذي يتم داخل العمل الأدبي، من حيث إدراك مغزاه وفكرته وطرحه العام. ويتحقق التأويل بإعادة صياغة المضمون الفني، أي عن طريق نقله إلى لغة إما منطقية مفهومية، وأعني بذلك (علم الأدب)، أو إعلامية إنشائية (المقالة)، وإما فنية مثل (الرسم، المسرح، السينما، والفنون الأخرى).
صديقي القارئ تكشف هذه الدلالات لمصطلح الهرمنيوطيقا، عن التحولات التي طرأت عليه، حيث تأسس في الفلسفة اليونانية، معبرًا عن الفهم الأسطوري، ومن ثم انتقل إلى الديانتين المسيحية واليهودية، فنشأ علم اللاهوت المسيحي لتأويل الإنجيل، ووظفته الفرقة اليهودية القبالية في تأويل التوراة تأويلًا باطنيًا، وهنا أصبحت الهرمنيوطيقا تمثل التأويل الديني. ثم انتقل إلى الفلسفة لتأويل النصوص اللغوية، أيًا كانت هذه النصوص، وتشكلت الهرمنيوطيقا الفلسفية، ومع انفصال العلوم عن بعضها انتقل هذا المصطلح إلى الدراسات الأدبية، ووجد فيه النقد منهجًا لتأويل النصوص الأدبية، وأصبح يعبر عن الهرمنيوطيقا النقدية، والتي يفضل البعض وصفها بالتأويل النقدي، لتعلق مصطلح الهرمنيوطيقا بالفلسفة.
والشيء بالشيء يُذكر نجد خير مثال نسوقه لكم ويُجسد التطبيق العملي لمصطلح "الهرمنيوطيقا"، هو ذلك المشروع العملاق الذي قدمه لنا الدكتور شرف عبدالحميد، تحت عنوان "سلسلة الفلاسفة اليونان الأوائل: إعادة بناء وتأويل جديد". حيث كاد الدكتور شرف بهذا المشروع المتفرد من نوعه، بالغ التأثير في الحقل الفلسفي، أن يخطو أول خطوة نحو التطبيق الفعلي للمنهج الهرمنيوطيقي الصحيح، لينفض الغبار عن تلك النصوص لإعادة ترجمتها بحرفية ودقة، فجاءت تلك السطور، مكتوبة بعبارات ماسية براقة تظهر زهوًا ولمعًا. ولأهمية ذلك المشروع سنفرد له المساحة التي يستحقها، على وعد أن نقدم قراءة مفصلة لذلك المشروع الفلسفي، لِمَا يحمله من دلالة تطبيقية لهذا المنهج المعرفي – الهرمنيوطيقا – ليس في الحقل الفلسفي فحسب، بل في الحقل الثقافي عامةً.
وفي الختام، الهرمنيوطيقا في اللغة لها معانٍ لعل منها وبوجه مشهور بين اللغويين هو إرجاع الشيء إلى أصله، أما عند علماء وفلاسفة اللاهوت هو التفسير الرمزي للكتب المقدسة. وفي عبارة واحدة نقول، فن أو علم الهرمنيوطيقا هي تلك المدرسة الفلسفية التي تشير إلى دراسة وفهم النصوص، وفي الدراسات الدينية (الهرمنيوطيقا المقدسة) يستخدم للدلالة على دراسة وتفسير النصوص الدينية.
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: تفسير النص
إقرأ أيضاً:
ما هي العقبات التي تمنع تنظيم الإسلام في فرنسا مُنذ ربع قرن؟
تُحاول الدولة الفرنسية منذ ربع قرن دون جدوى إعادة تشكيل تمثيل الإسلام بشكل صحيح في البلاد، لكنّ النكسات وخيبات الأمل كانت دائماً من نصيبها، فما إن تعتقد السلطات أنّها حققت هدفها حتى تبدأ جهودها بالتراجع.
في بداية عام 2000، أطلق جان بيير شيفينمان، وزير الداخلية آنذاك، أولى الحوارات الرسمية التي أدّت في عام 2003 إلى ولادة المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، تحت رعاية الرئيس السابق نيكولا ساركوزي.
Influences étrangères, attentats, argent du halal... Les six failles qui empêchent l’organisation de l’islam en France
L’État français tente en vain, depuis un quart de siècle, de façonner sa représentation dans le pays.https://t.co/d9WAQ66YHE
ومع تزايد سيطرة تنظيم الإخوان الإرهابي على المجلس المذكور على مدى 20 عاماً، رفض الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون الاعتراف به، فاستبدله في فبراير (شباط) عام 2022 بمنتدى الإسلام في فرنسا (Forif) تحت إشراف وزير الداخلية الأسبق جيرالد دارمانين، الذي كان مسؤولاً عن تنظيم عمل الأديان في فرنسا.
وعلى الرغم من أنّ من يُدير المُنتدى ممثلون دينيون أقل انخراطاً في السياسة وأكثر تكنوقراطية من المجلس الإخواني المُنحل، إلا أنّه لم ينتج بعد أيّ شيء ملموس عن الهيكل الديني الحديث خلال 3 سنوات من وجوده. ويرى عالم الاجتماع فرانك فريغوسي، الباحث في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، أنّ "الرجال والنساء الذين هم في صدد اختراع إسلام الغد، هم أكثر براغماتية بكثير مما يريد أتباع التطرّف الديني أو السلفيين أو الإخوان".
ويعتبر الكاتب والمحلل السياسي الفرنسي جان ماري غينوا، أنّه، ورغم الفشل المتكرر، هناك حلول موجودة، حتى لو لم يكن أيّ منها حلاً سحرياً. لكنّ هناك العديد من العقبات التي تحول دون تشكيل مُستقر لـِ "إسلام فرنسا"، سواء على الجانب الإسلامي الداخلي أو على الجانب الجمهوري العلماني، كما أنّ بعضها يتعلّق بالسياق الدولي.
La loi confortant le respect des principes de la République que le Gouvernement a fait voter est un texte important qui donne les moyens à l’Etat de se défendre face au séparatisme islamiste et à ceux qui veulent renverser les valeurs de la République. #ZoneInterdite pic.twitter.com/TWpEDlvy25
— Gérald DARMANIN (@GDarmanin) January 23, 2022 تنافس لا ينتهيمن الخارج، لا يبدو الانقسام واضحاً، لكنّه حقيقي جداً. إذ هناك 3 مُجتمعات مُتنافسة تُهيمن على المشهد الإسلامي الفرنسي "الجزائريون، والمغاربة، والأتراك". وبحسب مسؤول كبير في الجالية المسلمة، يعتقد الجزائريون أنّهم الممثلون التاريخيون للإسلام في فرنسا. والمُفارقة أنّ إنشاء مُنتدى "فوريف"، الذي كان له هدف مُعلن هو الحدّ من التأثيرات الأجنبية، لم يتمكن من منع السياسيين من استغلال هذه التنافسات التاريخية.
ومنذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عملت وزارة الداخلية، المسؤولة عن الأديان، على دفع الجاليات الإسلامية المختلفة الموجودة في فرنسا إلى تنظيم أنفسها، لكنّ التنافس الداخلي والخارجي أدّى إلى متاهة أضعفت الهياكل الإسلامية كافة.
وحاول المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، الذي تتجاهله الدولة الآن بسبب تبعيته للإخوان، ويُمثّل نحو نصف مساجد فرنسا، إصلاح نفسه، لكنّ السلطات الرسمية ترفض الحوار معه.
"Les frères musulmans ont de grosses difficultés à s'implanter dans le monde musulman car souvent listés comme terroristes. En occident ils se développent sans entrave car considérés comme modérés, de gauche, surtout en Belgique et en France." [Florence Bergeaud-Blackler] pic.twitter.com/PKkfy7ujLK
— ⛓️???? #LiberezBoualemSansal ✍️ (@IslamismeFrance) February 3, 2025 جروح الهجمات القاتلةخلال 25 عاماً، تعرّض السياق المُجتمعي لتنظيم الإسلام في فرنسا لاضطرابات عميقة بسبب سلسلة من الهجمات، التي غالباً ما ارتُكبت باسم الإسلام، مما أدّى إلى تصلّب الرأي العام الفرنسي تجاه الدين. وقد وثّقت أجهزة الأمن الفرنسي وقوع حوالي 50 هجوماً إسلامياً قاتلاً، مما ولّد مآسٍ تركت بصمتها على البلاد.
ورغم أنّ كل هذه الأعمال الإرهابية كانت دائماً موضع إدانة واضحة من قبل الهياكل الممثلة للإسلام في فرنسا، إلا أنّها مع ذلك غيرت مناخ التسامح والتعايش تماماً.
كما شهدت الجمهورية الفرنسية تحوّلاً سياسياً وإدارياً بإقرارها في أغسطس (آب) 2021 قانون "تعزيز مبادئ الجمهورية"، المعروف بقانون مكافحة "الانفصالية" الإسلاموية، بهدف تعزيز العلمانية والحياد، وخاصة في الخدمات العامة.
ومن أهم ما تمّ إقراره هو مراقبة الجمعيات الدينية من خلال فرض توقيع "عقد التزام جمهوري"، وهو ما فرض قيوداً إدارية ودقيقة عليها، منها عدم قُدرتها على فتح حسابات مصرفية لمُحاربة التمويل الخارجي، مما أعاق عملها بشكل كبير.
Les enjeux du marché halal sont bien plus préoccupants que les seuls problèmes de compétition économique, le halal est l’instrument d’un djihâd économique.
À lire dans @LeFigaroTV ????https://t.co/VDI7dRtQYZ
استهدف كتاب عالمة الاجتماع الفرنسية البلجيكية فلورنس بيرغود بلاكلر، "الإخوان وشبكاتهم" في عام 2023 فكر التنظيم الإرهابي بشكل مُعمّق.
وهو عمل قدّمه عالم السياسة والمتخصص في الإسلام الراديكالي جيل كيبيل. وقد تجرّأت الباحثة في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي على كسر أحد المحرمات بشأن حقيقة نفوذ جماعة الإخوان المسلمين في فرنسا من خلال اتحاد المنظمات الإسلامية، الذي أعيدت تسميته إلى "مسلمي فرنسا"، حيث كان مُستهدفاً بشكل خاص في هذا السياق، وهو ما عرّض الباحثة لموجة من التهديدات بالقتل.
ولم يتنازل اتحاد المنظمات الإسلامية الفرنسية السابق عن إمكانية ممارسة دوره بشكل كامل في المجتمعات الغربية، مع دعوته لتطبيق مبادئ الشريعة والقانون الإسلامي في الحياة اليومية العادية، وفقاً لعقيدة صارمة. لتظلّ بذلك المشكلة قائمة في تمثيل الإسلام بشكل صحيح، حيث من غير الممكن تطبيق تعاليم الدين بشكل خاطئ لا يقبل المساومة عبر فرض ممارسات دقيقة للإسلام في السياق الغربي دون أن يُؤدّي ذلك إلى الانفصالية عن المُجتمع الفرنسي.
Influences étrangères, attentats, argent du halal... Les six failles qui empêchent l’organisation de l’islam en France
L’État français tente en vain, depuis un quart de siècle, de façonner sa représentation dans le pays.https://t.co/d9WAQ66YHE
اقترح حكيم القروي، أحد أبرز الشخصيات الإسلامية المُعتدلة والإيجابية في فرنسا، مراراً وتكراراً أن تذهب عوائد الطعام الحلال بشكل مباشر لدعم جهود تنظيم الدين الإسلامي في فرنسا.
وذكر أنّ "الأموال المُتداولة لا تذهب إلى حيث ينبغي أن تذهب، أي في مشاريع تدريب الأئمة، وفي دفع رواتب ممثلي الدين، وفي بناء أماكن العبادة (بهدف منع التمويل الخارجي)".
ولكن في الواقع فإنّ الغالبية العظمى من تلك الأموال تذهب إلى مُستثمرين يتحكمون بها وفقاً لأجندات مشبوهة. وأظهر عُمق هذا الخلاف الإضافي مدى الانقسام العميق الذي يسود المُجتمع الإسلامي نفسه في فرنسا بسبب المال الحلال.