لم تعد إسرائيل تكترث بالمجتمع الدولي، وأضافت في الأسابيع الأخيرة الكثير من الفصول إلى قاموس التوحش، يأتي آخرها بتقاطر أجساد الأطفال المتجمدة من البرد في قطاع غزة، بما يظهر العالم عاجزا بصورة مفجعة، وبعد نفاد جميع الأرصدة في بنك أهدافها، تستفرد بالمستشفيات والكوادر الطبية، الأمر الذي يبرر الحديث عن تهالك المنظومة الدولية القائمة، وانهيار أساسها الأخلاقي، وانتهاء صلاحية جميع الأكاذيب التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية.



تقدم إسرائيل الخدمة الكبرى لدونالد ترامب لتسلمه جثمان الشرعية الدولية، قبل أن يبدأ الوقوف أمام خريطة العالم، ويطلق مشاريعه ذات الصبغة الاستعمارية ـ التجارية الجديدة في إعادة تعريف للاستغلال على مستوى العالم، فهو يتحدث عن استعادة قناة بنما، والاستحواذ على جزيرة غرينلاد التابعة لسيادة الدنمارك، ويطلق مزحة سخيفة حول انضواء كندا في الاتحاد الأمريكي، ويفتح الطريق أمام مطالب القوة والصراع على أساسها في العالم.

العديد من الدول يمكن أن تستعيد من جديد مطالب سابقة في صراعات حدودية، أو حتى مشروعات توسعية قديمة. عادةً ما يأتي الانهيار الأخلاقي سابقا على التحولات السياسية الكبرى، فالاهتراء القيمي الذي حملته شهوانية تسويات الحرب العالمية الأولى، هو الذي أدى إلى تراكم الغضب داخل ألمانيا، ليجعلها تتبنى خطابا غير أخلاقي في مواجهة الإذلال المتعمد للأمة الألمانية.

وفي غزة تتهاوى الأخلاقيات العالمية، والمزاعم التي عملت المنظمات الدولية على صيانتها، وتنقلب بعض الدول على فكرة أن تجلس في ملتقيات دولية، لتسمح لدولة افريقية صغيرة بأن تستعرض آراءها، أو تتخذ مواقف سياسية عقابية ضد عالم الكبار، فهذه الإجراءات كان يجب أن تجري تحت رعاية ووصاية من الدول الكبرى، فالأمريكيون يمكن أن يدفعوا عشرات الدول لاتخاذ إجراءات المقاطعة لخدمة مصالحهم وإضفاء الشرعية على توجهاتهم، والروس يمكنهم أن يؤثروا على بعض البلدان، وبشكل عام، كانت الدول الكبرى، هي التي تستطيع أن تستجمع جزءا من المجتمع الدولي ليخدمها، وأتت منظومة مجلس الأمن الدولي، لتضبط أي محاولات للخروج عن عالم اللاعدالة في العقود الأخيرة.

تتحرر إسرائيل من ضغط القانون الدولي، وتبدو غير معنية بعلاقاتها مع أي منظمة دولية، أو مع أي دولة بصورة منفردة، وتتعرى من أي خجل وهي التي تطالب بفرض إجراءات عقابية على بعض الدول التي اتخذت مواقف تحمل إدانة لتصرفاتها الهمجية، وهذه الخطوة يمكن أن تلقي آثارا كارثية على المنطقة في السنوات المقبلة، خاصة والجيش الإسرائيلي يتمدد في مجموعة من القرى في القنيطرة السورية، ويستولي على أحد سدود المياه، والجنوب اللبناني ما زال في حسابات الجيش الإسرائيلي، والضغط على التسوية في قطاع غزة يشتمل رغبة إسرائيلية في البقاء ضمن بعض المناطق الحيوية، التي يمكن أن تخدم أهداف إسرائيل الاستراتيجية، من غير أن يلزمها بأي شيء تجاه سكان القطاع، الذين عاشوا تحت وطأة المجزرة الكبرى.

هل يمكن تقييد إسرائيل أو التنبؤ بالمدى الذي تسعى لتحصل عليه في المنطقة، على حصتها المرضية من النفوذ؟ أو الوقوف على طبيعة معاركها المقبلة، وما الذي تريد تحصيله بعد أن طرح الرئيس ترامب نظرية (إسرائيل الصغيرة) في وسط الدول شاسعة المساحة حولها، وهل يعني ذلك مجرد قضم الضفة الغربية، الذي يمكن التأكد من أنه أصبح خبرا متوقعا في الأشهر المقبلة؟ وهل تظهر خريطة العلاقات العربية، قادرة على استجماع نفسها بالطريقة التي حدثت في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وهل يمكن البحث عن فكرة لدعم دول الطوق؟ أم أن نظرية الطوق نفسها أصبحت خارج العصر وتقيد مشروعا إسرائيليا يزعم نتنياهو أنه سيجلب الرخاء والازدهار للمنطقة كلها.

والسؤال المرعب، ما هو الطوق المباشر وغير المباشر الذي تريده إسرائيل، وما هو فضاء مطالبها التي عهدها العالم متدرجة ومتصاعدة بصورة مستمرة، فهل يمكن أن تتحدث إسرائيل خلال أشهر عن تأمين البحر الأحمر، أم تتحدث عن الطريق الكبير الذي يمر من الخليج إلى شواطئها، أو عن طريق آخر، في حالة حدوث تحولات كبرى في إيران يخترق بلدان الشام ليضع رحاله في الموانئ نفسها؟ والسؤال الأكثر رعبا، هل يوجد فعلا من يصدق وعود إسرائيل ويتجاهل التاريخ الذي أظهر فداحة الخسارة على المستوى الاقتصادي بعد الصلح معها؟

تحدث وزير الخارجية السعودي الراحل سعود الفيصل عن مشكلة نظرية الأمن الإسرائيلي، التي تمتد من المغرب إلى أفغانستان، وكيف يمكن لإسرائيل أن تسعى للتدخل في أي تحولات أو إرهاصات في هذه المنطقة بحجة حماية نفسها، والتخوف الرئيسي، وبعد أن أطلقت إسرائيل رصاصة الرحمة على المجتمع الدولي، أن يصبح الحديث عن طوق جديد تابع لإسرائيل يحل مكان الطوق المناهض، أمرا تكتيكيا بعد أن انتهت مناقشته استراتيجيا مع الدول التي امتهنت المجتمع الدولي وحولته إلى مجرد مسرحية بائسة لخدمة مصالحها، الدول التي تهافتت على الوقوف أمام إسرائيل والتعاطف مع أزمتها، وتجاهلت محنة الفلسطينيين ومعاناتهم وتفاصيلها التراجيدية.

الفلسطينيون الذين جربوا الموت حرقا وتجمدا، لم يتمكنوا من تغيير مزاج بعض الدبلوماسيين الذين يجتمعون في أماكن شتى من العالم، ويكون تساؤلهم الرئيسي والمبدئي حول إسرائيل ومستقبلها وأمنها.

لا أحد يمكنه أن يتعرف على مدى الطموحات الإسرائيلية، والحل يتمثل في دعم الطوق القديم، بوضعه الراهن، قبل أن يتوسع ضغطه إلى أماكن لم تكن متخيلة أو واردة من قبل، أما التذرع بالمجتمع الدولي ومواقف الدول الكبرى، فهو أمر أثبتت إسرائيل أنه ليس سوى عبث وتضييع للوقت يمكنها من تثبيت الأمر الواقع لمصلحتها.

القدس العربي

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة نتنياهو غزة نتنياهو الاحتلال إسرائيل الكبرى مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد اقتصاد صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المجتمع الدولی مع الدول یمکن أن

إقرأ أيضاً:

عبد المنعم سعيد: جماعة الإخوان التنظيم الوحيد الذي خدع الغرب

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

قال الدكتور عبد المنعم سعيد، المفكر السياسي، وعضو مجلس الشيوخ، إن التنظيم الذي نجح في خداع الغرب هو تنظيم الإخوان الإرهابية، لأن الغرب يعتقد بأن هناك جماعات إسلامية معتدلة، وهذا أمر غير صحيح على الإطلاق.  

وأضاف "سعيد"، خلال حواره مع الإعلامية داليا عبد الرحيم، ببرنامج "الضفة الأخرى"، المذاع على فضائية "القاهرة الإخبارية"، أن العنف الذي يحدث في فلسطين والمنطقة من قبل دولة الاحتلال الإسرائيلي يولد موجة من الغضب، ولكن للأسف تُوجه الجماعات الإرهابية هذا الغضب إلى الدول العربية، بدلاً من توجيه العنف إلى الدول المسؤولة عن هذا العنف، بدليل أن أكبر عدد من ضحايا الإرهاب هم المسلمين.

وأوضح أن مواجهة الإرهاب يكون من خلال تجديد الخطاب الديني، حتى لا يتم خلط الأمور من قبل الجماعات الإرهابية مثلما يحدث الآن، مشيرًا إلى أن هناك ضرورة للحديث عن ما يُسمى بالجهاد الأكبر الذي هو في الأساس جهاد النفس، والجهاد من أجل رفعة الأوطان.

مقالات مشابهة

  • ما جدوى مجلس الأمن الدولي؟
  • عبد المنعم سعيد: جماعة الإخوان التنظيم الوحيد الذي خدع الغرب
  • “حزب الله يعلن لأول مرة مكان وتوقيت تشييع جثمان الشهيد السيد حسن نصر الله
  • عاجل : حزب الله يكشف عن أمر بشأن تشييع جثمان حسن نصر الله 
  • رئيس الوزراء العراقي: ما يحدث في غزة مسؤولية الدول الكبرى
  • الإعلان عن أولى المشاريع الكبرى التي ستنفذها تركيا في سوريا
  • أخبار الدقهلية| تشييع جثمان مدرب نادي العمال .. اعتماد المخطط التفصيلي للمنطقة الصناعية بجمصة
  • تشييع جثمان مدرب نادي العمال بالدقهلية.. شاهد
  • بطيء المشية.. أعجوبة الخلق الذي لا يمكن تدميره حتى بالإشعاع