في 31 ديسمبر/ كانون الأول 2024 وبحلول الذكرى التاسعة والستين لاستقلال السودان، وجّه رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبدالفتاح البرهان خطابًا للمواطنين اشتمل على قضايا محلية وإقليمية ودولية.
وكان اللافت فيه أنه أكد على استعداد السودان للانخراط في أي مبادرة حقيقية تنهي الحرب وتضمن عودة آمنة للمواطنين إلى بيوتهم، لكنه أشار مستدركًا إلى أن أي مبادرة تعيد الأوضاع إلى ما قبل 15 أبريل/ نيسان 2023، هي مرفوضة، مضيفًا (لا يمكن القبول بوجود هؤلاء القتلة والمجرمين وداعميهم وسط الشعب السوداني مرة أخرى)، ويعني بذلك قوات الدعم السريع وجناحها السياسي تنسيقية القوى المدنية المعروفة بـ (تقدم)، وهو ما يعني في المحصلة النهائية استبعاد ورفض أي حل سلمي يتضمن عودة هؤلاء إلى الحياة العامة في السودان.
وقد جاء خطاب البرهان في هذه الجزئية الخاصة بالعملية السياسية موافقًا لما كان أعلنه السفير الحارث إدريس مندوب السودان الدائم بالأمم المتحدة في بيان ألقاه في 19 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أمام جلسة الاجتماع الوزاري لمجلس الأمن الدولي حول السودان الذي تناول بالتفصيل القضايا الإنسانية المرتبطة بالحرب الدائرة، وموقف الحكومة السودانية الداعم لجهود توصيل المساعدات الإنسانية للنازحين، وحرصها على حماية المدنيين، وتنفيذ القرار 1591 في دارفور، والقرار 2736 المتعلق بالملكية الوطنية لصنع السلام، ووقف الحصار على الفاشر والمدن الأخرى التي تحاصرها قوات الدعم السريع.
إعلانوكشف ذلك البيان عن مزيد من الأدلة التي تثبت تزويد قوات الدعم السريع بالدعم العسكري واللوجيستي عبر عدد من دول جوار السودان واستخدام مهابط طيران سرية في مدينة (نيالا) بجنوب دارفور.
كما تطرق إلى قضية المرتزقة الكولومبيين الذين شاركوا في الحرب إلى جانب قوات الدعم السريع، وضرورة إدانة المنظمة الأممية لقوات الدعم السريع بخصوص حماية المدنيين لردعها عن الاستمرار في ارتكاب المزيد من الخروقات، وتأكيده على أنه ستكون هناك عملية سياسية شاملة في البلاد يتم ابتدارها بعد وقف الحرب وفق رؤية وطنية خالصة.. وتأكيده (القاطع) على أنه لن يكون لقوات الدعم السريع أي دور في هذه العملية السياسية، ولا في مستقبل السودان.
وهذا التأكيد يعتبر تطورًا جديدًا له أهميته، فهو يضع حدًا لكل التكهنات التي ترد بشأن مستقبل الحياة السياسية في السودان عقب انتهاء الحرب، وماهية القوى السياسية التي ستكون فاعلة فيها، وتلك التي سيتم استبعادها.
هذا الشق من بيان مندوب السودان بالأمم المتحدة الخاص بالموقف السياسي ما بعد الحرب، له دلالات عديدة أكسبته أهمية خاصة، في هذا التوقيت الذي تتسارع فيه الأحداث على الصعيد العسكري، حيث يشهد الميدان تقدمًا واضحًا للجيش والقوات المتحالفة معه، وتقهقرًا كبيرًا لقوات الدعم السريع وفقدانها لكثير من المناطق التي ظلت تسيطر عليها منذ بداية الحرب وتحديدًا في العاصمة الخرطوم، في وضع ينذر بالوصول بها إلى حالة انهيار مفاجئ، خاصة أن الخلافات بين المكونات القبلية داخل هذه القوات آخذة في الاتساع مع اشتداد المعارك، وقد شهد الأسبوع الماضي مواجهات عنيفة بين مكونات تلك القوات سقط جراءها عدد غير قليل من القتلى.
ويمكن استخلاص عدد من الدلالات من وحي حديث مندوب السودان في الأمم المتحدة في شقه الخاص بالعملية السياسية ما بعد الحرب، مقرونًا بما جاء في خطاب البرهان في ذكرى الاستقلال في هذا الشأن على النحو الآتي:
إعلان أن الحكومة السودانية ترى أن الحسم العسكري لصالحها بات قاب قوسين أو أدنى، وتريد أن تشرع في رسم إطار لما سيكون عليه المشهد السياسي بالبلاد بعد الحرب، وتريد إطلاع المجتمع الدولي على هذا الإطار، وإشهاده عليه، لقطع أي شكوك قد تنتاب القوى الدولية الفاعلة حول المستقبل السياسي في السودان، وبصورة أكثر تحديدًا حول دور الجيش في السلطة ومصير الحكم المدني. إغلاق الباب عمليًا أمام أي مبادرات أو اتفاقات سابقة أو لاحقة للتفاوض مع قوات الدعم السريع حول تسوية تعيدها إلى وضعها السابق ما قبل 15 أبريل/ نيسان 2023. أن القوى والتنظيمات السياسية والاجتماعية وحركات الكفاح المسلح ومنظمات المجتمع المدني والقيادات الأهلية المحلية والطوائف الدينية التي وقفت مؤيدة ومساندة للجيش ومقاتلة في صفه ضد قوات الدعم السريع ستكون جزءًا أصيلًا ولاعبًا أساسيًا في المسرح السياسي بعد الحرب. وبالمقابل، فإن القوى والتنظيمات السياسية ومنظمات المجتمع المدني والشخصيات الأهلية والرموز الطائفية التي ساندت الدعم السريع في الحرب، وعلى رأسها تنسيقية (تقدم) برئاسة حمدوك والمتحالفين معها، لن يكون لهم أي دور في مستقبل السودان ولن يكونوا جزءًا من أي وفاق سياسي. ومن المفارقات المرتبطة بهذه الدلالة أن قوى الحرية والتغيير التي كانت تعرف اختصارًا بـ (قحت) قبل أن تتحول إلى (تقدم) لاحقًا بعد نشوب الحرب، أنها لطالما أكدت على النص الوارد في الوثيقة الدستورية الذي يقول بشمول العملية السياسية لكل القوى السياسية، ما عدا حزب المؤتمر الوطني (الذي يمثل الإسلاميين)، وها هي اليوم تنطبق عليها نفس العبارة، على لسان مندوب السودان في الأمم المتحدة. ويرتبط بالدلالة السابقة ضمنًا أن الإسلاميين سيكونون جزءًا من المشهد السياسي القادم بحكم وقوفهم المعلن مع الجيش ضمن "المقاومة الشعبية" التي تقاتل الدعم السريع تحت إمرته، فضلًا عن دعمهم وتأييدهم لسياسات الحكومة وتعاطيها مع الشأن العام السوداني وحركتها الخارجية، وموقفها من بعض القوى الإقليمية، وتحالفاتها مع بعض القوى الفاعلة على الصعيد الدولي، وهو تطور مهم يعكس حجم التغيرات الهائلة التي أحدثتها الحرب في مصفوفة التحالفات السياسية على المسرح السياسي في الداخل. كذلك فإن حركات الكفاح المسلح المساندة للجيش والمعروفة بـ (القوات المشتركة) هي الأخرى سيكون لها دور سياسي بعد الحرب، عبر أذرعها السياسية، وحواضنها الاجتماعية. ويقتضي تحقيق ذلك، توفيق أوضاع هذه الحركات فيما يتعلق بالشق العسكري لها، وهذا ربما يتم وفق ترتيبات فنية خاصة يتفق عليها لإدماجها في الجيش والقوات النظامية الأخرى، وهو الحل الأوحد الذي يضمن تفادي تكرار تجربة قوات الدعم السريع، وتحقيقًا لمبدأ وحدة وقومية المؤسسة العسكرية. وفكرة الدمج تجد ترحيبًا واسعًا من قبل هذه الحركات حاليًا، وهو ما لم يكن مقبولًا لديها في السنوات التي سبقت الحرب. إعلانومن المتوقع أن تثير هذه التطورات بشأن مبادرات الحل السلمي وإطلاق العملية السياسية بعد الحرب جدلًا واسعًا خاصة في أروقة القوى السياسية المساندة للدعم السريع، ومن ورائها القوى الإقليمية الداعمة لها التي بدأت تستشعر ضعف الموقف العسكري الميداني، وتصاعد الخلافات داخل جناحها السياسي (تقدم) بخصوص مقترح تشكيل حكومة منفى، وهو خلاف مرشح للتفاقم بما يمكن أن يفضي إلى انقسام وتشظٍّ، وينتج عن ذلك خروج هذا الجسم عن دائرة التأثير والفعل السياسي في الحياة السياسية في السودان، ودخولها في نفق مظلم.
فهل تستسلم هذه القوى ومن خلفها لهذا المصير، أم تسعى إلى إيجاد روافع أخرى تعيدها إلى دائرة الفعل رغم انسداد مسالك العودة بعد شراكتها طيلة أشهر الحرب لقوات الدعم السريع بما ارتكبته من جرائم في حق المدنيين وثقتها مؤسسات حقوقية وصحفية كبرى عديدة حول العالم؟
هل ستسعى (تقدم) إلى التمسك بأمل العودة ولو على تراث المصالحة الأهلية، أو ما يعرف بـ (الجودية) في الثقافة السودانية، والتعلق بحبل (عفا الله عما سلف)؟ وهل الشعب السوداني سيقبل بذلك هذه المرة كما قبل بها في سالف الحروب والخلافات السياسية، أم أن الأمر مختلف هذه المرة؟
لكن السؤال الأكثر أهمية هو: هل ستتخلى القوى الإقليمية الداعمة للدعم السريع وجناحها السياسي عنهما مقابل صيغة تسوية تضمن لها مصالحها؟ وهل الحكومة السودانية على استعداد لتقديم تنازلات لهذه القوى مقابل رفعها يدها نهائيًا عن الدعم السريع وجناحها السياسي؟!
لا أحد يستطيع إعطاء إجابة جازمة في الوقت الراهن على الأقل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات لقوات الدعم السریع قوات الدعم السریع مندوب السودان فی السودان بعد الحرب
إقرأ أيضاً:
الجيش يهاجم الدعم السريع بعدة جبهات ويسعى للسيطرة على مركز الخرطوم
يواصل الجيش السوداني معاركه مع قوات الدعم السريع في عدة جبهات متفرقة حيث يسعى للسيطرة على مركز العاصمة الخرطوم، كما كثف هجماته الجوية على معاقل الدعم في الفاشر ويسعى للسيطرة على طرق رئيسية بولاية شمال كردفان، بعد أن حقق تقدما بولاية النيل الأبيض حيث توفي 100 شخص هناك بسبب وباء الكوليرا.
وتستمر المعارك بوتيرة متصاعدة بين الجيش وقوات الدعم السريع، إذ يسعى الجيش عبر محور وسط الخرطوم إلى السيطرة على مركز العاصمة، بما في ذلك القصر الرئاسي، ومرافق حكومية سيادية.
وفي ولاية شمال كردفان تدور مواجهات بين الجانبين ويسعى الجيش من خلالها للسيطرة على طرق رئيسية.
وجنوبا، تتواصل المعارك أيضا بولايتي النيل الأبيض والنيل الأزرق حيث أعلن الجيش سيطرته على مدن وبلدات تقع على الشريط الحدودي بين السودان وجنوب السودان.
وفي ولاية شمال دارفور، استهدفت قوات الدعم السريع بالمسيّرات مواقع بمدينة المالحة شمالي الولاية اليوم الأحد.
وفيما يتعلق بمدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، قال الإعلام العسكري في بيان له "إن الطيران الحربي للجيش السوداني نفذ غارات جوية دقيقة، مستهدفا تجمعات العدو ـفي إشارة لقوات الدعم السريعـ بالمحور الشمالي الغربي مساء أمس مما كبّدهم خسائر كبيرة في العتاد والأرواح".
إعلانوأضاف البيان أن مدينة الفاشر تشهد حالة من الاستقرار الأمني وأن القوات المسلحة تواصل تقدمها بثبات في جميع المحاور، وسط انهيار واضح في صفوف العدو وأن المعركة مستمرة حتى تحقيق النصر الكامل واستعادة أمن واستقرار البلاد وفقا للبيان".
وفي وقت سابق، قالت وكالة الأنباء السودانية "سونا" إن مدرعات الفرقة السادسة مشاة بالفاشر "نفذت عملية عسكرية محكمة في المحور الشمالي الشرقي للمدينة، أسفرت عن تدمير عربة جرار محملة بالأسلحة والذخائر تابعة لمليشيا آل دقلو المتمردة، إضافة إلى تدمير 3 عربات لاندكروزر كانت تتولى حراستها، دون نجاة أي من العناصر التي كانت على متنها".
كما نقلت عن الفرقة السادسة مشاة قولها إن "الضربات المدفعية الثقيلة مستمرة بمعدل 4 حصص يوميا، بالتزامن مع حملات التمشيط والرمايات الدقيقة، مما أجبر عناصر المليشيا على الانسحاب الواسع من المدينة، بينما فر بعضهم سيرا على الأقدام نحو المناطق النائية".
وخلال هجمات قوات الدعم السريع في الولاية في 16 فبراير/شباط الماضي، أصابت قوات الدعم السريع محطة توليد الطاقة في ربك، مما تسبب في انقطاع التيار الكهربائي على نطاق واسع وتعطيل محطات المياه.
وأعلنت منظمة أطباء بلا حدود وفاة نحو من 100 شخص بسبب وباء الكوليرا في غضون أسبوعين منذ بدء تفشي الوباء المنقول بالمياه في ولاية النيل الأبيض.
وقالت المنظمة، الخميس الماضي، إن 2700 شخص أصيبوا بالمرض منذ 20 فبراير/شباط، كما لقي 92 آخرون حتفهم.
وقالت المنظمة إن أهالي المنطقة اضطروا إلى الاعتماد بشكل أساسي على المياه التي يتم الحصول عليها من عربات تجرها الحمير، لأن مضخات المياه لم تعد تعمل.
وقالت مارتا كازورلا، منسقة الطوارئ في منظمة أطباء بلا حدود في السودان "إن الهجمات على البنية التحتية الحيوية لها آثار ضارة طويلة الأمد على صحة المجتمعات الضعيفة".
إعلانوبلغ تفشي الكوليرا في الولاية ذروته بين 20 و24 فبراير/شباط الماضي، عندما هرع المرضى وأسرهم إلى مستشفى كوستي التعليمي، مما أدى إلى إرهاق المنشأة بما يتجاوز قدرتها.
ووفقا لمنظمة أطباء بلا حدود، كان معظم المرضى يعانون من الجفاف الشديد، وقدمت المنظمة 25 طنا من المواد اللوجستية مثل الأَسِرة والخيام إلى كوستي للمساعدة في استيعاب المزيد من مرضى الكوليرا.
كما استجابت وزارة الصحة بولاية النيل الأبيض لتفشي المرض من خلال توفير إمكانية الوصول إلى المياه النظيفة للمجتمع وحظر استخدام عربات الحمير لنقل المياه. كما أدار مسؤولو الصحة حملة تطعيم عندما بدأ تفشي المرض.
وقالت وزارة الصحة السودانية يوم الثلاثاء الماضي إن هناك 57 ألفا و135 حالة إصابة بالكوليرا، بما في ذلك 1506 حالات وفاة، في 12 ولاية من أصل 18 ولاية في السودان.
وأعلنت وزارة الصحة رسميا تفشي الكوليرا في 12 أغسطس/آب من العام الماضي بعد الإبلاغ عن موجة جديدة من الحالات بدءًا من 22 يوليو/تموز من العام نفسه.
وانزلق السودان إلى الحرب منذ ما يقرب من عامين عندما تصاعدت التوترات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع شبه العسكرية.
وقتلت الحرب في السودان ما لا يقل عن 20 ألف شخص، كما دفعت الحرب أكثر من 14 مليون شخص إلى النزوح من منازلهم، ودفعت أجزاء من البلاد إلى المجاعة، وتسببت في تفشي الأمراض.