هل يكون الساحل منطقة مواجهة جديدة للمغرب والجزائر؟
تاريخ النشر: 4th, January 2025 GMT
نشرت مجلة "جون أفريك" الفرنسية تقريرا تطرق إلى المنافسة القائمة بين الجزائر والمغرب على الاستثمار في دول الساحل.
وقالت المجلة، في تقريرها الذي ترجمته "عربي21"، إن الجزائر تكافح لتلميع صورتها مما حال دون توسيع نفوذها بينما نجحت الرباط في حصد نصيب من التعاطف.
وفي السادس من تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 بمناسبة الذكرى الثامنة والأربعين للمسيرة الخضراء، أطلق الملك محمد السادس الشعار الجيوستراتيجي الجديد للمغرب وهو تعزيز وصول دول الساحل إلى المحيط الأطلسي، وبعد شهر ونصف، استقبل وزير الشؤون الخارجية ناصر بوريطة نظراءه من مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد بمراكش في إطار اجتماع وزاري تنسيقي حول ما يسمى الآن بـ"مبادرة الأطلسي".
من جهتها، تجرّم الجزائر - التي تطمح بدورها إلى الوصول إلى هذا المحيط الاستراتيجي - جهود الرباط لتعزيز الانفتاح والتكامل الاقتصادي مع دول الساحل.
وفي 13 شباط/فبراير 2024، خلال خطاب عبر الفيديو بمناسبة الاجتماع الحادي والأربعين للجنة التوجيهية لرؤساء دول وحكومات الشراكة الجديدة من أجل تنمية أفريقيا (نيباد)، أعلن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون عن إنشاء مناطق حرة مع الدول الشقيقة بداية من موريتانيا ثم دول الساحل مثل مالي والنيجر إضافةً إلى تونس وليبيا.
وقد أشار تبون إلى مشاريع أخرى ذات بعد قاري، منها الطريق العابر للصحراء الذي من المفترض أن يربط بين ستة بلدان إفريقية أو طريق تندوف الزويرات.
وذكرت المجلة أن التنافس بين الجزائر والمغرب امتد إلى ما هو أبعد من الصحراء الغربية، وعلى مدى عقد من الزمن، تمحورت المواجهة بين الجارتين المغاربيتين حول منطقة الساحل، لكنها احتدت في السنوات الأخيرة.
وفي سنة 2014، عندما قرر محمد السادس توجيه دبلوماسية مملكته بشكل أكثر وضوحًا نحو القارة، كان النفوذ الجزائري في منطقة الساحل يتضاءل بالفعل بسبب عوامل داخلية. ومنذ انتخاب عبد المجيد تبون في سنة 2019، حاولت الجزائر استعادة مكانتها التاريخية في شؤون شمال إفريقيا والساحل.
وحسب دجانابو سيسي، الباحثة في مؤسسة البحث الاستراتيجي في باريس والمتخصصة في الديناميكيات الاستراتيجية والأمنية في إفريقيا، فإن "التنافس الجزائري المغربي شكّل مواقف والتزامات البلدين في منطقة الساحل، وعلى مدى أربعة عقود، كانت الجزائر لاعبا جيوسياسيا رئيسيا في منطقة الساحل التي تعتبرها ساحتها الخلفية".
الجزائر دولة صحراوية ساحلية؟
تقول المجلة، إن الجزائر تتبنى نهجا أمنيا تجاه منطقة الساحل باعتبارها مصدرا محتملا لعدم الاستقرار أكثر من كونها أرضا للفرص.
ونقلت عن با تراوري، الباحث في شؤون الساحل في مركز أبحاث غرب إفريقيا "واثي" قوله، إن الترابط بين هذه القوة المغاربية ودول الساحل وثيق للغاية ذلك أنه "إلى جانب الدعم المالي لجبهة التحرير الوطني والنضال الجزائري من أجل الاستقلال، يعتمد اقتصاد شمال مالي على الجزائر التي تزود هذه المنطقة بالسكر والوقود والمواد الخام. وكان شمال مالي دائما موضع اهتمام الجزائر التي أقامت قنصليتها في غاو، إلا أن هذه المنطقة هي الأكثر اضطرابًا، وهي مجاورة للمحافظات الجنوبية الجزائرية، حيث تستغل الجزائر معظم مواردها المعدنية والطاقة".
كما نقلت المجلة عن الخبير المغربي في العلاقات الدولية محمد زكريا أبو دهب أن "الماليين والبوركينابيين والنيجيريين يعتبرون الجزائر أرضًا خصبة للإرهاب بعد أن طردت من أراضيها الجماعات المتطرفة التي لجأت نتيجة لذلك إلى منطقة الساحل".
وبحسب ما أشار إليه تراوري فإنه "عند تفحص تاريخ الإرهاب الجهادي المالي، ندرك أنه مرتبط بالجماعة الإسلامية المسلحة، والجماعة السلفية للدعوة والقتال، ثم بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي".
ويضاف إلى ذلك تمرد الطوارق في شمال مالي ورغبتهم في الاستقلال، وهو ما تعتبره الجزائر بمثابة قنبلة موقوتة، خاصة أن سكان الطوارق يستقرون في مناطقها الجنوبية، وهكذا أثبتت الجزائر نفسها كوسيط لاحتواء التهديدات على حدودها، مما ولّد اتفاق تمنراست سنة 1991 وإنشاء لجنة أركان للعمليات المشتركة سنة 2010، وهي هيكل يجمع دول الساحل هدفه مكافحة الإرهاب والتهريب.
وأوضحت المجلة في تقريرها، أنه منذ ظهور حكومات عسكرية جديدة في منطقة الساحل، ما بين 2020 و2023، شهد النفوذ الجزائري تراجعًا. ويفسّر تراوري ذلك بحقيقة دعم الجزائر لحركات الطوارق المتمردة الذين تعتبرهم باماكو إرهابيين. وخلافا للتوقعات، ذكر تراوري أن الجزائر تواجه اليوم نفس الرفض الذي تواجهه فرنسا.
كما تتهم الحكومة المالية الحالية الجزائر بإيواء الانفصاليين الطوارق، وكذلك الإمام محمود ديكو، وهو من رموز التيار الإصلاحي بالبلاد الذي عُرف بمعارضته للرئيس السابق إبراهيم بوبكر كيتا.
التقسيم الناعم للمغرب
ويرى محمد زكريا أبو دهب أن المغرب - على عكس الجزائر - يعتمد على القوة الناعمة والقضايا الإنسانية ومشاريع التنمية الاقتصادية المشتركة والأعمال التجارية، ويطمح المغرب إلى أن يصبح قوة وساطة ودبلوماسية جديدة في المنطقة باستخدام "نهج عملي وتقدمي يركز على المدى الطويل".
تحقيقًا لهذه المساعي، تشير المجلة إلى أن الملك محمد السادس يعمل على تعزيز الروابط التاريخية والروحية من خلال تدريب الأئمة والمرشدات الدينيات من منطقة الساحل في الرباط.
وتحتضن مالي، الشريك التجاري الأول للمغرب، عيادة تحمل اسم ملك المغرب مُوّلت وبُنيت من طرف المملكة. كما أن شبكة البنوك التي تعتبر الأفضل في منطقة الساحل، "بنك أفريكا"، مملوكة للمغربي عثمان بنجلون. وبالإضافة إلى ذلك، يتم تدريب جزء من العسكريين الماليين والنيجيريين والبوركينابيين منذ عقود في الأكاديميات والكليات التابعة للمملكة.
كما أوضحت المجلة أن هذه العوامل تفسّر تمتع المغرب بنفوذ خاص في منطقة الساحل وغرب إفريقيا. وبعد التشكيك في قدرته على الوصول إلى المحيط الأطلسي عقب خروج مالي وبوركينا فاسو والنيجر من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، لعِب المغرب بورقة "المبادرة الأطلسية".
وفي السنوات الأخيرة، شهدت العلاقات بين المغرب وموريتانيا تحسنا ملحوظا. ففي كانون الثاني/يناير 2024، رفضت نواكشوط المشاركة في قمة مغاربية تضم الجزائر وتونس وليبيا تستثني المملكة. وفي الأشهر الأخيرة، قامت الحكومتان المغربية والموريتانية بزيادة عدد الاجتماعات في إطار التعاون الاقتصادي.
انتظار الساحل تجاه المغرب العربي
وبينت المجلة، أنه من الصعب إنجاز مشاريع البنية التحتية الضخمة، مثل خط أنابيب الغاز العابر للصحراء ومشروع خط أنابيب الغاز المغرب-نيجيريا. مع ذلك، لا يزال الطرفان يكافحان من أجل تنفيذ المشروعين على أرض الواقع.
وفي الوقت الحالي، يبدو أن المغرب يتقدم بخطوات كبيرة في تنفيذ مشروع أنبوب الغاز الأطلسي من نيجيريا إلى المغرب بعد الحصول على الموافقة الرسمية للدول الأعضاء في المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، بحسب تقرير المجلة.
ويخطط المغرب لتنظيم حفل توقيع رسمي قبل حزيران/ يونيو 2025، مما يمثل خطوةً حاسمة في تحقيق هذا المشروع الاستراتيجي.
من جانبها تدعو سيسي إلى ضرورة توقف المغرب والجزائر عن صياغة قراراتهما من منظور التنافس بينهما، الأمر الذي ترفضه الحكومات والرأي العام في منطقة الساحل.
وترى سيسي أن المنطقة تشهد تحولات داخلية تشمل تغيير العقلية وعودةً إلى نوع من السيادة الجديدة مع رغبة في اتخاذ القرارات بشكل مستقل. وتجدر الإشارة إلى أن العديد من البلدان الأفريقية أصبحت ترفض الاعتماد على قوة دون غيرها، مما يشير الى رغبتها في تنويع الشراكات.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة إسرائيلية الجزائر الساحل المغربي المغرب الجزائر أزمة سياسية الساحل سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی منطقة الساحل دول الساحل
إقرأ أيضاً:
في العام 2025.. تحدّيات جديدة في مواجهة الأمن القومي لكيان العدو الصهيوني
يمانيون/ تقارير
في معظم التقديرات الاستراتيجية الإسرائيلية الحديثة هناك حالة من التشاؤم مما هو قادم، وأنه بعيداً عن بروباغندا الإعلام الموجّه، لن يكون بمقدور الكيان الصهيوني فرض شروطه على الكثير من دول المنطقة.
يدخل الكيان الصهيوني، مع بداية السنة الجديدة 2025، وضعاً جديداً ومتغيّراً وغير مسبوق، إذ إنه مضطر على خلاف السنوات الماضية إلى مواجهة مروحة واسعة من التحدّيات الداخلية والإقليمية والعالمية، إلى جانب تلك التحدّيات المعتادة والمتعلّقة بالنواحي الأمنية والاستراتيجية، والتي كان يواجهها الإسرائيليون على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم منذ ما يزيد على ثلاثة عقود من الزمن.
في هذه المرة، يبدو أن متّخذ القرار الإسرائيلي سيواجه صعوبة كبيرة في معالجة التداعيات المختلفة التي ستبرز عند اتخاذ القرارات، وفقاً للمبادئ والأولويات التي كانت موضوعة سابقاً، والتي وجّهت السياسات المتّبعة للدولة على مدار سنوات خلت، ويجري كل ذلك في ضوء الجدل الدائر والخلافات في الرأي، والتي تبرز بوضوح من خلال الحوارات الداخلية على المستوى الاستراتيجي، وحتى على المستوى العملي أيضاً، فعلى الرغم من أن الكيان الصهيوني يمتلك اقتصاداً قوياً يتمتّع بقدرات صناعية فائقة، وحداثة تكنولوجية متميزة، فإنه يعاني من وضع أمني الهش، لا سيّما بعد انفجار ملحمة “طوفان الأقصى”، والتي شكّلت نقطة مفصلية في تاريخ هذا الكيان المارق، ونقلته لأول مرة في تاريخه الحديث من خانة الهجوم إلى موقع الدفاع، وسببت له جملة من الخسائر الجسيمة لم يسبق لها مثيل.
في السنوات الماضية، التزمت المؤسسات الإسرائيلية ذات الصلة بتحديد سلّم الأولويات المتعلّق بالمخاطر والتحديات بخطوط عريضة واضحة وثابتة، ركّزت في معظمها على جبهات بعينها كانت تعتقد أنها يمكن أن تسبّب الأذى “للدولة” العبرية، وأنه يجب متابعة التحوّلات التي تحدث في تلك الجبهات من كثب، وتطوير وتحديث التوصيات المتعلقة بها على مدار الساعة، وكل هذا يهدف حسب مراكز البحث الإسرائيلية للاستجابة السريعة لأي تطوّر قد يحدث من هذا الجانب أو ذاك، ويشكّل في بعض تداعياته خطراً على أمن “الدولة” والمجتمع في “إسرائيل “.
عودة إلى الوراء قليلاًخلال السنوات العشر الأخيرة التي سبقت انطلاق معركة “طوفان الأقصى”، وما نتج عنها من مفاعيل استراتيجية بالغة الأهمية، أولت “الدولة “العبرية كامل اهتمامها لثلاث جبهات رئيسية، وصوّبت كل منظومتها الأمنية والاستخبارية جهدها الأساسي تجاهها، وعملت بكامل طاقتها من أجل سبر أغوار تحركاتها الميدانية، وتوقّع خطط عملها المستقبلية، بل وتوجّه قادة تلك الجبهات ونظرتهم تجاه الكيان الصهيوني، وإمكانية ذهابهم نحو الاشتباك المباشر معه، في خطوة كان ينظر إليها مجتمع الاستخبارات الإسرائيلي تحديداً على أنها ممكنة ومُتوقعة.
في كل التوصيات السابقة التي قدّمها الخبراء الإسرائيليون المعنيون بالشؤون السياسية والاستراتيجية لمتخذ القرار في “إسرائيل”، كان يتم التركيز على ضرورة اعتماد استراتيجية أمن قومي بعيدة المدى، تتعلّق بالرؤية المستقبلية والأهداف المختلفة، وكذلك سلّم الأولويات للسياسة الإسرائيلية المقبلة، وقد تضمّنت معظم التوصيات الدعوة إلى توثيق التعاون الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأميركية، بصفتها الداعم الأكبر للكيان العبري، بغض النظر عن الحزب الحاكم أو هوية الرئيس في أقوى دولة في العالم، حيث دعت تلك الاستراتيجية إلى مواصلة الحوار بين الجانبين من خلال العديد من القنوات، بما يشمل كل الموضوعات والسيناريوهات، في المديين المباشر والبعيد.
إلى جانب ذلك، فقد أشارت التوصيات إلى ضرورة السعي لتطوير وتعزيز العلاقات مع بعض الدول المهمة في المنطقة، لا سيّما تلك التي تمتلك إرثاً حضارياً كبيراً ومؤثراً، وضرورة تطوير مجالات التعاون مع بعض الدول التي سبق أن وقّعت “إسرائيل” معها على اتفاقيات ومعاهدات مثل مصر على سبيل المثال، أو تلك التي يتم العمل على التطبيع معها تحت عناوين مختلفة مثل السعودية وغيرها من دول الإقليم.
بالإضافة إلى كل ذلك، أوصى الخبراء الصهاينة بضرورة إقامة منظومة دفاع جوي إقليمية، تواجه “الخطر الإيراني” المحتمل، وهو الأمر الذي تحقّق وإن بشكل جزئي أثناء محاولة التصدي للصواريخ الإيرانية خلال عمليتَي “الوعد الصادق” العام الماضي، إلى جانب اعتماد استراتيجية بعيدة المدى أيضاً للتعامل مع جملة من الأخطار القادمة من خلف الحدود مثل حزب الله في لبنان، وسوريا -قبل سقوط النظام -، وذلك الخطر الذي تشكله المقاومة الفلسطينية في غزة والضفة، حيث تمت التوصية بانتهاج سياسة أكثر تصلباً من تلك التي انتهجت سابقاً، يتم فيها استخدام القوة المفرطة ضد كل الفلسطينيين حتى المدنيين منهم وهو ما يحدث الآن، وتتعزز فيها فكرة الفصل الديمغرافي في الضفة الغربية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، على المستويين المادي والفكري، بالإضافة إلى ضرورة البحث في إمكانية احتلال قطاع غزة بشكل كامل أو جزئي في حال توفرت الأسباب الموجبة لذلك.
تحديّات من نوع آخرفي هذا العام تحديداً، تواجه “الدولة” العبرية تحدّيات من نوع آخر، لا تشبه في تفاصيلها التحديات السابقة، والتي ما زالت موجودة كما كانت ولم تختفِ رغم كل ما جرى وما زال يجري، ولم يتم الفكاك بعد من تداعياتها وتأثيراتها، ولا يبدو أن ذلك الأمر ممكن خلال الفترة القادمة، إذ يبقى التحدّي الإيراني قائماً وبشكل أكثر وضوحاً، لا سيّما بعد المواجهة المباشرة التي وقعت بين الجانبين خلال العام المنصرم، وكذلك تحدّي حزب الله على الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة، والذي تفشل “إسرائيل” حتى الآن رغم إعلانها تحقيق الانتصار عليه، وتصفية الصف الأول من قادته، في ترجمة ذلك كإنجاز على أرض الواقع، وعدم عودة المستوطنين إلى مستعمرات الشمال خير دليل على ذلك، إلى جانب استمرار حالة الاشتباك مع المقاومة الفلسطينية على كامل جغرافيا الضفة الغربية وقطاع غزة، وإخفاق “جيش” الاحتلال بعد أربعة عشر شهراً تقريباً، وعلى الرغم من كل ما استخدمه من إمكانيات في تحقيق إنجاز حاسم وواضح.
في ما يخص التحديات الجديدة، والتي ستضاف إلى جملة التحديات التي أشرنا إليها أعلاه وإلى أخرى مثل التحدّي اليمني المهم والحيوي، يمكن أن نشير إلى ثلاثة منها قد تبدو من وجهة نظر البعض أقل أهمية من سابقاتها، ولكنها حسب وجهة نظرنا، قد تكون حاسمة لناحية الإضرار بتماسك “الدولة” العبرية ككل، أو على أقل تقدير فقدانها لكثير من المقوّمات الاستراتيجية التي كانت تميزها عن غيرها من دول العالم والمنطقة.
أولاً: تراجع مكانة “إسرائيل ” الدوليةمن أهم إنجازات معركة “طوفان الأقصى” هو تحوّل الكيان الصهيوني إلى كيان منبوذ ومعزول، ويُنظر إليه حسب المحاكم الدولية بأنه كيان مارق ومجرم،حيث تم اتهامه بشكل واضح وعلني من قبل المحكمة الجنائية الدولية بارتكاب جرائم إبادة جماعية بحق المدنيين الفلسطينيين، وتم إصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس وزرائه ووزير حربه السابق لأول مرة في التاريخ، ليس هذا فحسب، بل إن معظم الشعوب والحكومات في المنطقة والعالم والتي كانت تعدّ “إسرائيل” واحة للديمقراطية واحترام حقوق الأقليّات، وكانت تنظر إليها بأنها “دولة” صديقة، ويمتد التعاون معها ليشمل كل نواحي الحياة من اقتصاد وسياسة وتجارة وفن ورياضة وغيرها، باتت تنظر إليها بأنها “دولة” مجرمة وقاتلة، وأنه يجب محاسبتها على كل ما اقترفت يداها من مذابح وجرائم بحق الفلسطينيين، وما مارسته ضدهم من حصار وتجويع فاق في بشاعته كل ما جرى في السنوات الخمسين الأخيرة، وقد قامت العديد من الدول بتخفيض كثير من أوجه التعاون معها، ومنعها من المشاركة في العديد من المعارض والمحافل الدولية، بل وأبدت الكثير منها استعداداً لتنفيذ قرار المحكمة الجنائية بالقبض على نتنياهو وغالانت في حال وطأت أقدامهما أراضيها.
كل ما سبق، وغيره الكثير مما لا يتّسع المجال لذكره حالياً وجّه ضربة قاتلة للمشروع الصهيوني برمّته، ونسف كل ما كانت تبنيه هذه “الدولة” المارقة من علاقات استراتيجية وحيوية خلال أكثر من 76 عاماً مضت، بل وضرب عمق نظرية الأمن القومي الصهيونية، والتي كانت العلاقات الدولية أحد أهم أعمدتها الاستراتيجية التي لا غنى عنها.
ثانياً: ترهّل “الجيش” الإسرائيلي وانحطاطهفي “إسرائيل” كان يُنظر إلى مؤسسة “الجيش” على أنها المقدّس الوحيد في “الدولة”، وأنه لا يجوز المساس بها مهما تطلّب الأمر من تضحيات، إلا أن هذا الأمر قد تغيّر خلال السنوات الأخيرة، حيث بات “الجيش” جزءاً من التجاذبات الداخلية، وأصبح عرضة للاتهامات والتشويه من كثير من الأفرقاء السياسيين الإسرائيليين، وخصوصاً بعد تغلغل المتطرفين اليمينيين إلى المناصب العليا فيه.
وعلى الرغم من التفوّق الكاسح الذي كان يتمتّع به “جيش” الاحتلال على كل خصومه في المنطقة، والذي أهّله في عديد الأوقات لتحقيق انتصارات حاسمة وسريعة، فإنه بدأ يعاني خلال السنوات الأخيرة من انتكاسات ملحوظة على مستوى الأداء القتالي، والانضباط العملياتي، إلى جانب تراجع ملحوظ على مستوى القدرة التكتيكية، وتنفيذ المهمات العملانية، وحالة من الترهّل والانحطاط لم يسبق لها مثيل، ما أدى في كثير من المراحل إلى فشل متكرر، ساهم في اهتزاز صورته، وفقدان الثقة في قدراته وإمكانياته وحتى قادته.
خلال الأشهر الأخيرة، ولا سيّما أثناء محاولة الكيان الصهيوني معالجة التأثيرات الناتجة عن هجوم السابع من أكتوبر المجيد، وفي إشارة لانخفاض الثقة بقدرات هذا “الجيش” لجأت “إسرائيل” إلى الاعتماد على فرقها الخاصة والنخبوية بدلاً من الفرق القتالية النظامية،حتى تلك الفرق التابعة للشرطة الإسرائيلية، والتي يختلف مجال عملها بشكل جذري عن فرق “الجيش” المختلفة، بالإضافة إلى فرق أخرى كان مجال عملها الاستراتيجي ينصب على الساحات البعيدة فقط، بل وتمت الاستعانة بمرتزقة من الكثير من دول العالم، ومن جنود يحملون الجنسية المزدوجة وخدموا سابقاً في جيوش دولهم مثل فرنسا على وجه التحديد، والتي تشير الكثير من المعلومات أن نحو أربعة آلاف جندي منهم قد شاركوا في العدوان على غزة.
في الفترة القادمة لا سيّما بعد انتهاء الحرب على غزة، وما يرتبط بها من جبهات الإسناد في الإقليم، فإنه سيتوجّب على “إسرائيل “، وتحديداً على المؤسسة الأمنية والعسكرية فيها مواجهة تحدّي إعادة صورة هذا “الجيش ” إلى سابق عهدها، وهو الأمر الذي لن يكون سهلاً على الإطلاق، إذ إن فشله المتتالي في إنجاز مهماته التكتيكية والعملانية، على الرغم من بعض النجاحات الجزئية، سيشكّل عامل ضغط عكسي يمكن أن يؤدي إلى مزيد من الانحطاط والترهّل وصولاً إلى التفكّك والانهيار، وهو الأمر الذي يعني بالضرورة سقوط الجدار الأخير الذي تعتمد عليه “دولة” الاحتلال للبقاء على قيد الحياة.
ثالثاً: تعاظم الانقسام والتفكّك الداخليمنذ إنشاء “الدولة”، ركّزت الإستراتيجية الإسرائيلية بعيدة المدى على فكرة تثبيت “إسرائيل” كدولة يهودية ديمقراطية قوية وآمنة ومزدهرة، من أجل تحقيق ما يسمى “المناعة القومية”، والتي تشكّل من وجهة نظر إسرائيلية، عنصراً أساسياً في التصدي للتحدّيات الخارجية الكثيرة والمعقّدة، ويرى واضعو هذه الإستراتيجية أن هذا هو الهدف الأسمى الذي يجب أن تُوجّه إليه جهود الحكومة والأحزاب والمؤسسات الإسرائيلية، وذلك من أجل رص صف الداخل الإسرائيلي، والعمل على تماسكه، وهو شرط ضروري لمناعته القومية الآخذة في التآكل.
منذ أزمة قانون ” الإصلاح القضائي” التي دشّنها نتنياهو وائتلافه المتطرف، مروراً بتداعيات معركة “طوفان الأقصى” وفي مقدمتها قضية الأسرى الصهاينة لدى فصائل المقاومة الفلسطينية، ارتفعت وتيرة الانقسامات والتصدّعات العميقة بين الإسرائيليين، وتصاعدت الاستقطابات الداخلية بينهم إلى درجة غير مسبوقة، وهو الأمر الذي عبّر بوضوح عن عمق التناقضات الاجتماعية والعرقية بين الجمهور الإسرائيلي، والتي عزّزتها السياسات العنصرية للحكومة الحالية التي باتت ظاهرة وملحوظة، وهو ما يؤشّر إلى حدوث مزيد من الشرخ في الفترة القادمة، بما يهدد استقرار “الدولة” ومتانتها، وينذر بمزيد من التدهور على مستوى العلاقات الوطنية، وهو ما دفع الكثير من الخبراء الاستراتيجيين الصهاينة إلى دعوة الحكومة إلى إعادة النظر في السياسة الإسرائيلية الداخلية، وتغيير النهج المتّبع لمعالجة الكثير من القضايا التي تعنى بالشأن الداخلي، وأنه يجب وضع خطة متكاملة للخروج من هذا الوضع خلال العام الجديد، إلا أن ذلك لا يبدو أنه قابل للتنفيذ خلال المرحلة القادمة، بل يُتوقّع حدوث المزيد من التآكل في صفوف المجتمع الصهيوني، بما يمكن أن يؤدي إلى نزاعات قد يصعب حلها أو وضع الحلول المناسبة لها.
خاتمةعلى الرغم من حالة النشوة التي أصابت الكثير من الإسرائيليين بعد تحقيق بعض النجاحات التكتيكية في الحرب على غزة ولبنان بشكل خاص، والأحداث الدراماتيكية في سوريا، وهي الحالة التي بدأت في فقدان زخمها خلال الأسبوعين الأخيرين، وخصوصاً مع توالي الضربات الصاروخية من اليمن، واستمرار الإخفاق في قطاع غزة، وعدم عودة المستوطنين إلى مستعمرات الشمال، فإنه بات تسود الكثير من الإسرائيليين حالة من القلق وعدم اليقين بالمستقبل، ووصلت هذه الحالة إلى المستويين الأمني والسياسي في “الدولة”، وبات قادة الاحتلال يشعرون بخطر كبير ناجم عن ظهور تعقيدات جديدة في الصراع، خصوصاً في بُعده الإقليمي.
في معظم التقديرات الاستراتيجية الإسرائيلية الحديثة هناك حالة من التشاؤم مما هو قادم، وأنه بعيداً عن بروباغندا الإعلام الموجّه، لن يكون بمقدور الكيان الصهيوني فرض شروطه على الكثير من دول المنطقة كما يدّعي قادته السياسيون والعسكريون، فالتغيّرات الاستراتيجية التي ما زالت تتشكّل وتتبلور ستدفع به إلى الخلف أكثر، وجبهته الداخلية ستشهد مزيداً من الانقسامات والشقوق، وعوامل القوة التي يملكها لن تكون عائقاً أمام قوى الأمة الحية، من توجيه مزيد من الضربات إلى عمقه الأمني بما سيعجّل من سقوط مشاريعه وتبخّر أوهامه.
في الأعوام القادمة، وعلى الرغم من كل ما يجري، وما تتم إشاعته من أجواء حول دخول المنطقة برمتها في الزمن الإسرائيلي، وحملات التخويف والترهيب من ولاية ترامب الثانية، فإن المستقبل من دون أدنى شك هو لشعوب المنطقة الحرة والشريفة، ولمقاومتها العزيزة والمقتدرة، والتي على الرغم من كل التضحيات الجسام التي قدّمتها خلال العام المنصرم ستخرج أكثر عزماً، وأكثر مضاءً، وستتمكّن بإذن الله من كسر سيف “إسرائيل” وحلفها المجرم مرة واحدة وإلى الأبد.
نقلا عن الميادين نت