صحيفة الاتحاد:
2025-01-05@20:07:28 GMT

د. عبدالله الغذامي يكتب: عودة الشفاهية

تاريخ النشر: 4th, January 2025 GMT

كان أول انحسار للشفاهية كقيمةٍ مركزية في الثقافة هو بروز الكتابة لتحل محل الشفاهية، وفي ذلك التحول جرت إزاحة الشفاهي من السيطرة على الفعل الثقافي، وتراجعت الرواية ليحل التدوين محلها، وانتشر المدونون عربياً في البصرة والكوفة وفي بغداد، وتحول سوق المربد في البصرة إلى ما يشبه السوبر ماركت الثقافي، حيث يجري جلب الموروثات التراثية من أشعار ٍ وقصص وحكايات، ويتم فوراً اقتناصها من المدونين الذين يحولون الشفاهي إلى مكتوب، وظهرت ظاهرة الكتب، وتليها أسماء من المدونين من الأصمعي والمفضل الضَّبِّي وابن سلام الجمحي وغيرهم ممن مهروا في هذه المهمة، وانقلبت الحال مع الزمن لتكون ضد الشفاهية، وتحول من لا يقرأ ولا يكتب إلى هوامش الثقافة وهيمن عليها الكتبة والقراء، وظلت الحال على وضعية التهميش للأميين الذين أصبحوا مثل الأطرش في الزفة، حسب المثل الشعبي الذي يصف حال كل أمي وأميّة في البيئة الاجتماعية، جرى تمييز من يقرأ بوصفه من العارفين وغيره من العوام، إلى أن جاء المذياع فمنح نوعاً من الثقافة السمعية التي تقوم مقام الكتاب المقروء، ونتج عن هذا انتشار الوعي الثقافي، وتساوى العامي مع المتعلم في تلقي غرائب الأخبار عبر السماع الحي والمباشر للحدث أين كان الحدث، وتقارب العالم مع بعضه حتى ليسمع الناس مذيعين ومذيعات من لندن وواشنطن لدرجة سماع تنفس المذيع والمذيعة وبحة الصوت، وربما تبدر منه حال سعال مفاجئ وستكون السعلة طرفةً وحالة دهشةٍ بأن يسعل المذيع في لندن وتسمعه في قرية في أقصى الأرض، وهذه حال ثقافية تجذب التأمل عن هذه الأمواج الصوتية التي تخترق المسافات وتقرب الأذهان للأذهان والأفكار للأفكار، وتكسرت الطبقية الثقافة، حيث وحّد الصوت كل المستويات البشرية في حال سماع واستقبال موحد لا يفرق بين وبين.


وهذه أول حالة انتعاشٍ حديثة للشفاهي، حيث استعاد اللسان والسمع دورهما الثقافي الذي احتكرته الثقافة الكتابية، وعبره ظهرت الثقافات بكل خطاباتها مثل ثقافة البادية عبر برامج تهتم بالشعر النبطي الشفاهي أصلًا وروايةً، ومثل الأغاني الشعبية والأناشيد والعرضات، مع نشاط لافت لبث قراءات القرآن الكريم بأصوات تتعدد بتعدد المقرئين، وقد كانت تلك ثورةً ثقافيةً أدت دوراً عظيماً في نشر المعرفة وفي تطوير الأذواق وكسر الحواجز بين الثقافات. ولم يخل الأمر من طرائف، منها ما رواها ماركيز عن جدته أنها كانت تعتقد أن الذي يتحدث في الراديو هو الشيطان يتقمص صوت البشر لكي يسحر عقولهم، وهذه قصة تتكرر في كل الثقافات التقليدية، وإن بصيغ مختلفة عن صيغة جدة ماركيز، وهذا يكشف درجة الدهشة التي كان المذياع يحدثها في أذهان البسطاء حينذاك، ومنها طرفة تروى عندنا أن رجلاً سمع في مذياعه صوت العرضة فأغلق المذياع وهب للشارع ليستدعي صحبه وجيرانه لسماع العرضة عنده في البيت، وطال به الوقت في تجميع صحبه وحين تجمعوا حول المذياع لم يجدوا عرضةً، ولكن سمعوا صوت المذيع في حديث عام، وحينها اتجه الرجل لزوجته متهماً إياها بأنها فتحت المذياع بعد خروجه من البيت مما أنهى العرضة، وكان يظن أنه مجرد إغلاق المذياع ستبقى العرضة صامتةً لحين فتح الجهاز مرةً ثانيةً. وهي قصص تحيل للدور الذي فعله المذياع في حياة الناس في زمن ثقافي سنسميه بزمن المذياع. 
وفي زمننا هذا، زمن الصورة، أصبح للشفاهية دور من حيث إن الصورة لا تحتاج لوسيط من الكتابة وجاءت عبارة (الصورة عن ألف كلمة). وهذا عزز دور السماع ودور الاستقبال الواسع، وتساوى الأمي مع غيره في القدرة على الاستقبال العام والتثقف عبر العين المجردة والأذن.
كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض

أخبار ذات صلة د. عبدالله الغذامي يكتب: الفيلسوف الحاكم أفلاطون د. عبدالله الغذامي يكتب: أوروبا المنكسرة (سلطة الأم أم سلطة الأب)

المصدر: صحيفة الاتحاد

كلمات دلالية: الغذامي عبدالله الغذامي

إقرأ أيضاً:

رئيس جامعة عين شمس يهنئ المركز الثقافي القبطي بعيد الميلاد المجيد

هنأ الدكتور محمد ضياء زين العابدين، رئيس جامعة عين شمس، والدكتورة غادة فاروق، نائب رئيس الجامعة لشئون خدمة المجتمع وتنمية البيئة، الأنبا إرميا، الأسقف العام ورئيس المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي، والأمين العام المساعد لبيت العائلة المصرية، بمناسبة عيد الميلاد المجيد.

وخلال زيارة رئيس جامعة عين شمس للمركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي صباح اليوم الأحد، أعرب عن خالص تهانيه لنيافة الأنبا إرميا ولجميع الأخوة الأقباط، مشيرًا إلى أن الأعياد تمثل مناسبة عظيمة لتعزيز روح المحبة والإخاء بين أبناء الشعب المصري بمختلف أطيافه. 

وأكد رئيس جامعة عين شمس أن مصر بقيادتها الحكيمة ستظل دائمًا واحة للأمن والأمان، متمنيًا دوام المحبة والسلام والرخاء على وطننا الغالى مصر.

تعزيز قيم الوحدة الوطنية 

وأكدت الدكتورة غادة فاروق، نائب رئيس جامعة عين شمس لشئون خدمة المجتمع وتنمية البيئة أن تعزيز قيم الوحدة الوطنية يعد الركيزة الأساسية لتحقيق التنمية المستدامة ومواجهة كافة التحديات، متمنية أن يكون العام الجديد عام الخير على الشعب المصري العظيم.

وأعرب نيافة الأنبا إرميا عن شكره وتقديره لقيادات جامعة عين شمس على هذه الزيارة الكريمة، مثمنًا دور الجامعة الرائد في خدمة المجتمع وتعزيز قيم التآخي والتلاحم الوطني.

مقالات مشابهة

  • أوقاف الفيوم.. انطلاق الأسبوع الثقافي بمسجد الشيخ منصور
  • رئيس جامعة عين شمس يهنئ المركز الثقافي القبطي بعيد الميلاد المجيد
  • د.حماد عبدالله يكتب: مصر والمصريون !!
  • الصالون الثقافي يكرم الفنان عبدالرحمن نور الدين
  • محمد ناصف: تكريم الكاتب عبد الرحمن نور الدين شرف كبير للصالون الثقافي للطفل
  • انطلاق فعاليات الصالون الثقافي الثالث للطفل المصري بالسامر
  • عبدالله آل حامد: "الثريا 4" يكتب فصلاً جديداً من إنجازات الإمارات
  • إطلاق فعاليات الصالون الثقافي للطفل المصري في دورته الثالثة
  • د.حماد عبدالله يكتب: حقوق ضائعة ( لحين )!!