أنشودة البساطة.. مصطفى بيومي يبحر فى عالم رائد القصة القصيرة يحيى حقي
تاريخ النشر: 3rd, January 2025 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
لم يكن يحيى حقي مجرد أديب أضاف بصمته إلى الأدب العربي، بل كان حالة إنسانية وفكرية استثنائية تجسدت في كلماته وكتاباته. عبقريته في القصة القصيرة ورؤيته العميقة للعالم من حوله جعلاه أحد أعمدة الأدب الحديث، وفتحت أبوابًا جديدة للخيال والتعبير الأدبي.
ولعل أحدًا لم يكتب عن يحيى حقى ويتناول أعماله بالدراسة العميقة مثلما فعل مصطفى بيومي، الذي قدّم دراسة معمقة وتحليلًا فريدًا لأعمال يحيى حقي، مسلطًا الضوء على تفاصيل فنية وإنسانية ربما لم يلتفت إليها الكثيرون.
على هذه الصفحات، نستعرض بعضًا مما كتبه مصطفى بيومي، لنبحر سويًا في عالم يحيى حقي، حيث البساطة المتناهية والعمق الأخاذ يتقاطعان ليصنعا إرثًا أدبيًا خالدًا.
خجول متواضع لكنه عنيد يقتحم المناطق الشائك
المثقف الموسوعي الذي نبذ التبسيط واحتفى بالقيم النبيلة
مصري قح ذو أصول وملامح تركية، مهذب دمث خجول متواضع بقدر ما هو جرىء عنيد يقتحم المناطق الشائكة التي لا يجرؤ غيره على التفكير في الاقتراب منها. دبلوماسي "ابن بلد" يعرف قواعد وأصول الاتيكيت معرفته المذهلة المتشعبة بأحشاء المجتمع المصري في حواري العاصمة وقرى الصعيد الفقير.
يحيى حقي "١٩٠٥-١٩٩٢"، المثقف الموسوعي الذي يتقن عدة لغات، ويعشق العربية، هو من يرأس تحرير مجلة "المجلة" التي تعبر عن ذروة الثقافة الرفيعة وتخاطب الصفوة من القراء، لكنه يكتب بانتظام في صحيفتي "المساء" و"التعاون" ليخاطب البسطاء ويرتفع بهم ومعهم. متعته الأسمى في اكتشاف المواهب الواعدة وتشجيع ونصح المبدعين الشباب، ويكتب عنهم كأنه الأب الحريص على مستقبل أبنائه. يحنو ويجامل ويوجه، ويقسو أحيانا، ولا يتعالم أبدا أو يتعالى.
القصة القصيرة حبه الأول، ويتوهج في تجربته الروائية الوحيدة الفريدة: "صح النوم". يكتب عن السينما مثل ناقد محترف، ومعالجاته التاريخية عميقة طازجة مبتكرة تفوق الأكاديمي المتمرس. ولعه بالشعر ينم عن ذائقة خبير، واستيعابه للموسيقى يناطح الأفذاذ من المتخصصين، وكذلك الأمر في المسرح والأوبرا والعمارة والفن التشكيلي، أما رؤاه الاجتماعية في عشرات القضايا فتبرهن على أنه الصديق الصدوق للفقراء، وتكشف عن شخصية عالم قادر على التبسيط العميق لما يتصدى له: من أطفال الشوارع وشيوع الأمية وإدمان اليانصيب، إلى جرائم الشرف والثأر، مرورا بلعنة الروتين الحكومي والسمات المصاحبة للتحول الاجتماعي في الحقبة الناصرية.
كتاباته الإبداعية الخالصة لا تمثل إلا ما دون الربع من جملة إنتاجه، ولو أنه تفرغ للإبداع وحده دون المقالات الصحفية لأنجز مشروعا هائلا غير مسبوق، لكنه يأبى إلا الاشتباك بشكل مباشر مع تحديات الواقع ومعطياته.
في سيرته الذاتية المتفردة: "خليها على الله"، يقدم وجبة دسمة تمزج متعتي الفن والفكر، ويدلي عاشق مصر بشهادة ذات مذاق مختلف، يبتعد فيها عن الإشفاق المريض والتحامل المريب، ويتسلح في رؤيته العميقة بالوعي والتسامح والقدرة الفذة على الاستيعاب، وتقوده الموضوعية إلى أن يدين نفسه أحيانا ويكتب حيثيات التبرير والدفاع في أحيان أخرى.
يحيى حقي ناقد انطباعي يشتبك مع النص ويبارزه وفق معطياته الخاصة، فهو لا يقتحمه مسلحا بنظريات سابقة التجهيز، وطموحه أن يسعى لاكتشاف القوانين الكامنة، أما عن الترجمات التي يثري بها المكتبة العربية فتنبىء عن الدقة المفرطة والشعور الطاغي بالمسئولية، فضلا عن حرصه على الإمساك بروح النص وتجاوز الإطار الشكلي السطحي.
يتعلم القارىء من صاحب "قنديل أم هاشم" و"أم العواجز" و"دماء وطين" و"الفراش الشاغر"، وغير ذلك من روائعه، أن يحب اللغة ويتعامل معها باحترام يقترب من التقديس، ويتعلم أيضا كيف يقترب من البسطاء، أولئك الذين يعيشون في الظل بعيدا عن الأضواء. معهم تشعر بالألفة، وتزول الغربة، وتتبخر المرارة، وتشم ذلك العطر الفريد الذي يسميه حقي:"عطر الأحباب". إلى الأستاذ المحترم فؤاد دوارة، يعود الفضل في ظهور الأعمال الكاملة لحقي، ولولاه ما أُتيحت معرفة العالم الحقيقي للكاتب الكبير.
عبر محطات حياته المختلفة، يمثل العظيم يحيى واحة خضراء يانعة، يلوذ بها من يراودون الاحتماء من قيظ الكآبة والإحباط. ينفق العمر كله مبشرا بالقيم النبيلة الأصيلة، محاربا شرسا لجحافل القبح والسوقية والابتذال. لا شك أنه يغادر الدنيا مسكونا بالكثير من الحزن والأسى، فالوطن الذي كان يحلم به قويا عفيا مزدهرا منتميا إلى حضارة العالم الحديث، لم يكن عند اقتراب غيابه في مطلع التسعينيات إلا مسخا مشوها مريضا تمزقه العلل، ولم تكن صحة الرجل تسمح بأن يكتب من جديد: "صح النوم".
من العهد القديم إلى التغيير الثوري.. «صح النوم».. أول رد فعل روائى على استقرار نظام يوليو ورسوخهبالنظر إلى تاريخ كتابة الرواية، فبراير ١٩٥٥، ونشرها، أبريل من العام نفسه، يمكن التأكيد على أن "صح النوم" هي أول رد فعل روائي على استقرار نظام يوليو ورسوخه، وهي أيضا بمثابة الشهادة الفنية العميقة المهمة، التي تخلو من المباشرة الفجة والخطاب الزاعق، عن الفارق الجوهري بين مصر قبل ٢٣ يوليو ١٩٥٢ وبعدها.
تنقسم الرواية القصيرة إلى "كتابين"، أولهما يمثل ثلثي حجم النص تقريبا عن "الأمس"، وثانيهما عن "اليوم". التباين الكمي اللافت منطقي مبرر، ذلك أن المتاح معرفته عن العهد القديم "البائد" أضعاف أضعاف المعروف عن النظام الجديد بعد عامين ونصف العام من ميلاده.
في القرية- الوطن، حيث تدور أحداث "صح النوم"، تعيش نماذج إنسانية شتى، ذات توجهات وسلوكيات مختلفة، يستعرض يحيى حقي ملامحها وسماتها المادية والنفسية ببراعته المعهودة وحسه الإنساني المرهف المتسامح الذي لا يعرف التشنج والإسراف الانفعالي وضيق الأفق وسيطرة النزعة الأحادية الخانقة. صاحب الحان وزوجه، القصاب وابنة عمه، القزم والزوجة العرجاء، الفنان الرومانسي وأبوه التاجر، الحوذي صاحب العربة والعمدة والواعظ والحلاق والمساح ومعلم الرسم والطبيب وناظر المحطة ومهرج السيرك وصبي الطحان؛ كل هؤلاء بلا أسماء، وكلهم أيضا ركائز تصنع الإيقاع وتشكل النسيج العام للمكان الذي يتسم بهدوء أقرب إلى الركود، ويعتنق أبناؤه فلسفة الرضا ويعانقون السلبية والكسل، ولا متسع في حيواتهم للتمرد والتذمر إلا نادرًا: "وأهل القرية أسرة واحدة كبيرة معروفة بالكسل، قليل تنقل أفرادها".
القرية المنعزلة ذات صلات واهية واهنة بالعالم الخارجي، والحرمان من محطة القطار علامة رمزية دالة على القطيعة مع روح العصر، وليس إلا الحان من ملتقى للتنفس والتنفيس عن أبناء القرية الذين يفتقدون كل وسائل التسلية والترفيه.
الراوي المثقف مسكون بالفضول ومولع بالوصف والتحليل عبر بوابة التأمل الهادىء المتزن البعيد عن المبالغة، أما الشخصية المحورية الفاعلة فتتمثل في "الأستاذ"، الزعيم صانع التغيير ومفجر الثورة التي تنقلب معها الأوضاع رأسا على عقب.
يموت وجيه القرية، الزعيم السابق، ويخلف من ورائه ابنا لا يعرفه أبناء القرية حق المعرفة:"لأن أباه أرسله منذ الصبا إلى العاصمة لطلب العلم وبقي بها منقطعا عنا، مكتفيا بأن يرفع إليه الوكيل إيراده كل سنة. لا نعرف أخباره إلا بالسماع فثبت لدينا -ومن أجل ذلك سامحناه- أنه اجتاز المدارس كلها بنجاح باهر لأنه أحب العلم وأوغل في طلبه إيغالا شديدا ولذلك اصطلحنا على أن نطلق عليه لقب "الأستاذ" وإن كنا لم نره. وسمعنا كذلك أنه كان قد اعتزم القدوم إلينا فشغله شاغل جديد لا نعرفه، ولكنه هو الذي قيده بالدار في عزلة من الناس، فلعله يدرس مشكلة عويصة أو يفكر في أمور خطيرة".
العمدة، الحاكم المحلي باهت الحضور، ليس زعيما ولا يملك مؤهلات الزعامة، فهو خانع تابع تافه الشأن، والأمل الكامن معقود على الغائب الذي يمثل الامتداد الحقيقي للزعيم الراحل الذي لم يفلح في إنجاز المأمول من آمال وأحلام.
في الفصل الثامن، قرب نهاية الكتاب الأول، يعود الأستاذ بلا موعد محدد من قبل، ويلوح في عيني الحوذي سائق العربة عملاقا ضخما، أنيقا بسيطا، مسلحا بالحضور الطاغي والذاكرة القوية الواعية والجدية المفرطة التي تصنع سدودا وحواجز لا يسهل تجاوزها: "بالرغم من أن الأستاذ يبتسم، ويحدثه بألفة، إلا أن السائق أحس بأنه رجل لا يحب الهزر، ولا الإطالة في الكلام، ولا التهجم عليه بسؤال والسائق كبقية عشيرتنا عاطفي يحب المؤانسة ورفع الكلفة".
الأستاذ ذو طباع مختلفة، وينبىء ظهوره الأول عن شخصية مغايرة للسائد المألوف في القرية التي يتحايل أبناؤها على الهموم والتحديات بالفكاهة والمزاح، ولا موضع لهذا التوجه عند العائد الذي يقود عملية التغيير الجذري.
يشيع التفاؤل بعودة الأستاذ، ولا يخفي الراوي المثفف إعجابه الذي لا يخلو من هواجس وشكوك، ذلك أن التناغم بينهما ليس كاملا، والسر كامن في التقييم السلبي الذي يقدمه الزعيم الجديد عن المثقفين الذين لا يمكن الاعتماد عليهم في مرحلة إعادة البناء: "ولم أتمالك نفسي من الألم -وهذا شأن الإنسان- حين سمعت أن الأستاذ قد قال عني حين جاء ذكري في مجلسه:
- من هو؟ آه؟ هذا الصامت السارح؟ ليس لي وقت أضيعه معه ومع أمثاله، إنني أريد رجال عمل لا بطانة سمار".
الشعور بالألم، وربما الإهانة أيضا، لا يدفع الراوي إلى الرفض والعداء، فهو يشارك في اجتماع الأستاذ مع أعيان القرية، ويصغي إلى خطابه الكاشف عن أفكاره ورؤاه، ويستخلص فلسفته في العمل لصياغة الحياة وفق منهج صارم، لا يبتعد كثيرا عن الاستبداد والتسلط والديكتاتورية الحكم الفردي:"سأعمل إذا جاهدا على بث شعور العزة والكرامة في قلوب أهلنا وإقناعهم بأن خلاصهم في الشجاعة في المطالبة بالحق وأداء الواجب على حد سواء.
وقد اعتزمت أنا وأصدقائي أن نحمل الناس على سلوك هذا الطريق بالحسنى أول الأمر، وإلا فبالزجر والشدة. وستتطوع منا جماعة لمراقبة الناس في المتاجر والأسواق، بل في بيوتهم إذ ينبغي لكل معوج أن يستقيم، ولا يُقبل منه عذر، وأن ينصرف الرجال إلى عملهم معرضين عن اللهو والعبث، فالوقت ضيق والشوط أمامنا طويل".
"العزة والكرامة" من مأثورات عبد الناصر، ولا شك في حب الأستاذ-الزعيم للقرية وأبنائها، ولا شك أيضا في إصراره على الانفراد بالسلطة المطلقة غير المقيدة لتحقيق ما يرومه من الإصلاح. الحرية الفردية لا تمثل عنده قيمة ذات شأن، والإسراف في العنف والقهر قد يكون صادرا عن نية حسنة للتغلب على الأزمات الخطيرة المتراكمة، لكن السؤال يبقى قائما بلا إجابة حاسمة: هل يمكن للزعيم الفرد وقلة من رفاقه أن ينوبوا عن الكتلة الشعبية العريضة؟.
ينحاز الأستاذ إلى الفلاحين المقهورين، ويعد بنهاية الحرمان من غياب السكة الحديدية حتى تنتهي العزلة، ويقرر إغلاق الحان "بؤرة الفساد"، ويتبلور القانون العام الذي يحكم سياسته في كلماته الحاسمة:"حماية الأخلاق من شأن الجماعة قبل أن تكون من شأن الأفراد".
بفعل ظروف مرضية قهرية، يضطر الراوي إلى الغياب عن القرية في رحلة علاجية تمتد لأكثر من سنة، وبعودته يبدأ الكتاب الثاني الذي يرصد أحوال "اليوم" وما يتحقق في ظل النظام الجديد من إصلاح، فما الذي يطول القرية في غيابه؟.
"الانقلاب" الذي يقوده الأستاذ يحقق إنجازات لا يمكن إنكارها أو إهمالها، ومن البدهي أن يشعر العاديون من الناس، هم الأغلبية الساحقة، بحجم التغيير الهائل، والأمر نفسه ينطبق على الراوي الذي يتجول بعد عودته ويرصد حقيقة الإطاحة بالكثير من المفردات القديمة الآسنة الظالمة:"وقد شعرت وأنا أجول في القرية ودساكرها أن الناس قد انتبهوا من نومهم، أيقظهم تولي الأستاذ مقاليد الأمور في القرية وإقامته للقانون بين الناس سواسية ولما لمسوه فيه من إخلاص للخير وانطباق العمل على النية، أيقظهم أن الجبل الذي كان جاثما على صدورهم قد انزاح فجأة، كما تنفجر الفقاعة.
لا أزعم أن القرية أصبحت تعيش في رغد وسلام، بل يكفي أن الناس جميعا أصبحوا يدركون أن هذا عهد جديد، له مقاييس وأحكام، لا يُغتفر فيها النهب، ولا ينجو المذنب بغير عقاب".
أهم سعداء بالتغيير وراضون كل الرضا بإنجازاته؟. الإجابة ضبابية غائمة، والوصول إلى الحياة المثالية المنشودة لم يتحقق بعد، بل إن مكاسب العهد الجديد لا تحول دون الحنين إلى ما كان قائما من قبل، بكل ما فيه من مشقة وعناء. هل يكمن السر في أن الإصلاح "فوقي" بلا مشاركة شعبية؟، أم لأن الأمر يتطلب جهدا إضافيا شاقا لا طاقة على احتماله؟:"وجدت من أهل قريتنا من يحمد العهد الجديد، ولكنه يلبسه كما يلبس ثوبا قشيبا لم تعرك بعد خشخشته، ولا تلين بداخله حركات ذراعيه وساقيه، فهو يمشي ولكنه يتعثر، ويبتهج بما فاز ويضيق بجدته، وقد يقارن أيضا بين قصور حركته في الثوب القشيب وبين الراحة الموهومة في الثوب القديم الممزق الذي خلعه وكان يكرهه أشد الكره".
لا تتوقف الشكاوى والاحتجاجات، والاهتمام بـ "مصلحة المجتمع" قبل "مصلحة الفرد" لا يخلو من آثار سلبية يضيق بها من يراودون السعادة في إطارها الذاتي، وفضلا عن ذلك فإن رموز النفاق القدامى يقومون بالدور نفسه، والواعظ في طليعة هؤلاء. في لقاء الراوي مع الأستاذ، يصارحه بما لا ينبغي كتمانه:
"- يُخيل إليّ أنني سمعت من قبل كلاما لا يماثل فحسب بل يطابق ما سمعته اليوم كلمة كلمة، ويُخيل إليّ أيضا أن قائله هو الواعظ نفسه وأنه قاله في مدح عهد ولى وانقضى..
فافتر ثغر الأستاذ عن ابتسامة متهللة وقال:
- أتحسبني مغفلا؟ أتظن أنني آكل من هذا الهراء. نعم إنني أعلم أن الواعظ قال مثل هذا الكلام لمن سبقني. وليس هو وحده بل غيره كثيرون".
لماذا لا يتخذ الأستاذ موقفا حاسما من الأمراض المزمنة الموروثة التي تتجسد في شخصية الواعظ وأمثاله؟، ولماذا يشتد الحصار الأمني الخانق فتتراجع حرية الحركة والتعبير؟!. الراوي لا يعادي النظام الجديد، وفي لقائه مع الأستاذ يكتشف أن كل كل حركاته مرصودة: "وقال لي وهو يبتسم:
- وأنت؟ قد بلغني خبر جولاتك في القرية ودساكرها وحديثك مع الكناس وجندي المطافىء والفلاح وأصدقائك السابقين من رواد الحان، بل بلغني أيضا أنك تكتب مذكرات، وقد اطلعت على بعض نصوصها".
التوحش الأمني على هذا النحو المتطرف لا ينبىء عن خير، والإنجازات المادية الإيجابية وحدها لا تغني عن مطلب التوازن بين العدالة الاجتماعية والحريات الفردية، ومن هنا الحيرة والتخبط والشعور بالاضطراب.
قرب نهاية المقابلة، يقول الأستاذ للراوي: "هل أتم أنا كلامك؟ إنني أعرف بقية قولك لأنني قرأت مذكراتك. تذكرني -وهل أنا غافل!- بالتسامح والانتباه لحقوق الفرد كإنسان حي قبل أن يكون حجرا مسخرا في بناء المجتمع، والتفريق بين إيمانك بأن رأيك صواب وبين إيمانك بأنه كل الصواب، وأن الإخلاص وصواب الرأي توأمان ولكنهما توأمان غير ملتصقين".
الكلمات الأخيرة للأستاذ بالغة الأهمية والخطورة، ذلك أنها تكشف عن وعيه بالعيوب التي تلازم التجربة، لكن الإدراك النظري لا يقوده إلى الشروع في تغيير السياسة التي ينتهجها. التسامح ليس مطروحا، والانتباه إلى حقوق الفرد لا يحظى بالاهتمام، واحتكار القيادة المنفردة يستمر كأنه القدر الذي لا مهرب منه لا فكاك.
قبل شهور قلائل من وصول ثورة يوليو إلى محطة عامها الثالث، ينشر يحيى حقي روايته القصيرة ذات البناء غير التقليدي والرؤية الجريئة المتفردة، وفيها يمزج بين الإطارين الواقعي والرمزي في تناغم وانسجام. يدرك قراؤها بلا عناء أنه يتحدث عن مصر بين عهدين، قبل الثورة وبعدها، لكن المثير للدهشة أن تفاعل كبار نقاد المرحلة معها، طه حسين ولويس عوض وغيرهما، يركز على نقد الروائي للماضي القريب، ولا يتوقف عند مخاوفه من معطيات الحاضر وانعكاسها على المستقبل.
الراوي، كأنه ينوب عن جموع المثقفين، يواجه السلطة الجديدة ممثلة في الأستاذ-الزعيم الذي يؤمن بالقوة وينفر من "الصامتين السارحين". مع الإقرار بأنه لا عداء أو رفض يكنه حقي للتجربة الثورية وما تبشر به من وعود وأحلام مشروعة تلبي احتياجات الكتلة الشعبية العريضة، فإن التأييد ليس مطلقا، والتحذير قائم بلا مباشرة زاعقة من الآثار الوخيمة جراء غياب التوازن. الإعجاب بالأستاذ والثورة لا يعني المبايعة بلا ضفاف، والمطلب الذي يلح عليه الراوي هو الوصول إلى المصالحة الضرورية بين حقوق المجتمع وحق الفرد في التمتع بالحرية، والحرية التي يعنيها ليست ترفا يمكن الاستغناء عنه، بل هي ضرورة وضمانة للنجاح والاستقرار.
الأستاذ، على النحو الذي يقدمه يحيى حقي، شخصية جديرة بالاحترام في ظل التدهور الذي تشهده القرية قبل عودته واستحواذه على السلطة، وهو مخلص جاد حريص على مصالح الأغلبية والارتقاء بمستوى معيشتهم، لكن الخلل كامن في السياسة التي لا تخلو من مثالب وعيوب قد تتفاقم وتفضي إلى كارثة.
في عنوان الرواية:"صح النوم"، صيحة تحذير، وفي السطور الأخيرة تتأكد الرؤية عندما يودعه الأستاذ قائلا:
"- إني أنتظر منك أن تقوم بواجبك.
وها قد فعلت!".
ما الذي يعنيه الأستاذ بالواجب؟، هل من وظيفة للروائي إلا أن يشير إلى مواضع الخلل ويطالب بالإصلاح؟.
*فصل من كتاب "١٥٠ شخصية روائية مصرية"
«سلامة» شخصية محورية ذات حضور متوهج وتأثير فعال فى قصة «البوسطجى»
الشخوص الذين يقدمهم يحيى حقي في قصته، وليس المعلم سلامة وحده، يتأثرون في المقام الأول بالبيئة المكانية المتجهمة القاسية المحافظة إلى درجة التعنت، ويدفعون بالتبعية ثمنا فادحا جراء تفاعلهم واشتباكهم مع واقع تحكمه تقاليد اجتماعية موروثة مقدسة، تتجاوز الانتماء الديني ولا تتنكر له.
قرية "كوم النحل"، التابعة لإحدى مراكز مديرية أسيوط، مكان مغلق يعيش أبناؤه في ظل إيقاع رتيب راكد. الأغلبية مسلمة، والأقلية مسيحية أرثوذكسية إلا قليلا. فلاحون فقراء لا يملكون من الأرض إلا القليل، وحفنة من تجار العسل، المهنة القديمة التي توشك على الاندثار، بعد أن تمنح المكان اسمه.
أسرة المعلم سلامة من الأقلية المسيحية في القرية، ولا تضم مع التاجر إلا الزوجة والابنة جميلة. الاختلاف الديني عن الأغلبية لا يؤثر على التشبع الكامل بالثقافة السائدة والأخلاق الراسخة الموروثة والتقاليد الصارمة المهيمنة، فالنساء والبنات في القرية النائية متشابهات، دون نظر إلى الهوية الدينية. المعلم سلامة من تجار عسل النحل، ويعبر بموقعه ومكانته عن القانون العام الذي يحكم العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في القرية الصعيدية:"رجل يقول عنه المسلمون إنه "عضمة زرقة"، ومع ذلك لا يشعرون إذا جالسوه بـأي كره له. لا لأنه بحكم مهنته بعيد عن المساقي ومشاجراتها، والحدود وخصوماتها، والمواشي تنزل في البرسيم، والماء يمر بالقوة، بل لأنه رغم ما يُقال عن شيبته الزرقاء (أيضا!) لا يكاد يفترق في مظهره، في أخلاقه وعاداته، عن بقية المسلمين. اللبس واحد، والعمامة فوق رأسه عليها المقدار ذاته من التراب. تتحجب امرأته في الطريق كأهل البلد".
مصطلح "عضمة زرقة" ذو مغزى سلبي بطبيعة الحال، فهو يوحي بالخبث والمكر والدهاء، لكنه-عمليا- أقرب إلى التعبير الشعبي الدارج الشائع، الذي لا تترتب عليه نتائج تفضي إلى توتر صدامي، ذلك أن سلامة كالمسلمين تماما في ملبسه وأخلاقه وعاداته، ولا تختلف زوجه عن النساء المسلمات، واللوحة في عمومها تخلو من مشاعر التعصب والنفور والكراهية.
البطولة في "كوم النحل" للقيم والأعراف الاجتماعية، والتشابه في المعاناة الاقتصادية يتكفل بتحقيق مزيد من التقارب والتجانس. الفارق الوحيد الملموس بين أبناء الديانتين يتجسد في "دور العبادة"، حيث تختلف الطقوس والأساليب المتبعة في التقرب من الله:"هو أرثوذكسي، يزهو بزيارات القسيس له، ويأخذ أسرته كلها للكنيسة، فيجلس هو تحت، وتجلس امرأته وبنته الصغيرة جميلة في الشرفة محجبة بالشيش. ويبدأ الجميع في ترتيل صلاة، بعضهم يقرؤها من الكتاب، وبعضهم لا يحفظ النغمة فهو متردد، ولكنه يسير بسهولة بعد ذلك عندما ينتظم الجميع ويحملونه معهم. يقودهم المعلم سلامة، يحفظ كل الصلوات نغما وكلاما، عن ظهر قلب. صوته أجش غليظ، يُقال عنه إنه كان في شبابه أحلى أصوات المصلين، ثم أتلفه الكبر والدخان. وينسى المعلم سلامة نفسه، ويحني رأسه على صدره. ثم ينتبه بين حين وآخر لصوت رفيع، كله تضرع وخشوع، هو صوت جميلة، ترث أباها في ذوقه الموسيقي، لا يشعر به أحد، ولكن أذن الأب تصطادها من وسط التيار".
زيارات القسيس علامة دينية لا تخلو من الزهو الاجتماعي، والتردد على الكنيسة خاضع للموروث الصعيدي المحافظ، فلا اختلاط بين الرجال والنساء، ولا خصوصية للأقلية المسيحية في العلم بالقراءة والكتابة وأصول النغم. خشوع المعلم سلامة بمثابة الامتداد للروح الدينية التي تنتشر بين المصريين في مختلف العصور والمراحل التاريخية، أما الصوت الجميل والولع بالتدخين فبرهان على الجمع بين الدين والدنيا. ومثل المصريين جميعا، يبدو سلامة عظيم الارتباط بأسرته، ومن هنا حرصه على مستقبل ابنته الوحيدة.
المعلم سلامة أرثوذكسي يرفض ويقاوم موجات التبشير البروتستانتي التي تغزو جنوب الصعيد، لكن حبه لابنته يفوق تعصبه المذهبي، ومن هنا يوافق على التحاقها بالمدرسة البروتستانتية في أسيوط:"وأسلم جميلة، ولم تبلغ العاشرة، وقلبه يفيض بالأمل أنها في يوم ما تكون معلمة في المدرسة التي تدخلها الآن تلميذة".
لا يحمل المعلم سلامة شيئا من مشاعر التعصب ضد المسلمين من أبناء القرية، لكن التعصب قائم ضد المنتمين إلى المذهب المسيحي المخالف. البروتستانت أقلية في "كوم النحل"، والمبشر الوافد لا يجد السبيل ممهدا إلا بإغراءات بعيدة عن العقيدة والفروق المذهبية. إنه يزرع أحلام التعليم وما يقترن به من صعود اجتماعي، وبفضل هذا السلاح وحده يتخلى سلامة عن ضيقه ورفضه، ويدفع بطفلته إلى عالم جديد تظلله الطموحات، ولم يكن يدري أنه يمهد بقراره هذا لصناعة الفصل الأول في المأساة.
في المدرسة الداخلية بأسيوط، ترتبط جميلة بصداقة وثيقة مع مريم، ابنة قرية النخيلة، وعند التخرج يستجيب الأب لرجاء من ابنته لا يتعارض مع التقاليد والأصول:"وأتمت جميلة السنة النهائية، ودُعي المعلم سلامة لحفلة توزيع الشهادات، فجاء في أحسن ثيابه. كيف يستطيع بعد هذه الفرحة أن يرفض طلبها البسيط؟ يصحبها إلى النخيلة، لأنها مشتاقة "قوي قوي" لخالتها. أسبوع واحد تمضيه هناك ثم تعود لكوم النحل".
الموافقة على الزيارة وليدة حالة طارئة من التساهل والتسامح، جراء فرحة التخرج وحفلة توزيع الشهادات. في أسبوع زيارة الخالة، تتشكل مأساة الحب والحمل بعد علاقة جنسية مع خليل، شقيق الصديقة مريم، ويسعى الشاب إلى الزواج لإصلاح الخطأ. لا يمثل اختلاف المذهب عائقا عند سلامة، لكن الزواج يتعثر لأسباب روتينية تتعلق بالإجراءات الكنسية المعقدة، ويتوافق ذلك مع تراجع حماس المعلم سلامة في الموافقة على الزيجة:"أحس المعلم سلامة أنه يستيقظ من حلم. أين هو وقت أن كان يُساق إلى كل هذه التسهيلات لأجل هذا الفتى الغريب عنه؟ وحمد الله في سره أن المسألة لم تتم، يلزمها أولا تكملة ما في شكلها الخارجي من نقص يلحظه الناس. على الأقل تأتي أمه ليرى وجهها، أو يقدم لها خاتما. ثم هو يريد أن يسأل بعض معارفه في القاهرة عن حقيقة مرتبه، وعن مركزه في المدرسة. ولو درى المعلم سلامة أن في بطن ابنته جنينا ينمو يوما بعد يوم، كعقرب الساعة لا ترى العين حركته، وهو دائب السير لمصير محتوم، لما حمد الله كما فعل، ولأكل الهم قلبه".
يفكر سلامة في الأطر الشكلية واجبة الاتباع، ولا يجد مبررا للإسراع والاندفاع في عقد زيجة لم تكتمل أركانها الاجتماعية الضرورية. مثل هذا الإيقاع الهادىء يتوافق مع جهله بخطيئة ابنته، وهي فكرة لا بد أنها لم ترد على ذهنه أو تراود خياله.
جميلة هي التي تحمل الهم وتحاصرها أشباح الكارثة المنتظرة، وتدرك أن الأب المحب الحنون محكوم بقوانين صارمة لا يستطيع الإفلات من سطوتها عند سطوع الحقيقة المخبوءة المسيئة:"رجل يعيش في وسط الصعيد، وبعقلية يرثها عن أجيال لا تتسامح ولا تلين".
لا شيء تفعله جميلة إلا أن تواصل الاستغاثة اليائسة بالحبيب البعيد، عبر خطابات لا تصل إليه ولا تحقق التواصل المنشود، بعد أن تتحالف الأقدار والمصادفات ضدها. من ناحية أخرى، يسهم انشغال سلامة في تجارته، بما يفرضه ذلك من تعدد الأسفار، في غياب ملاحظته لما يطرأ على بطن ابنته من تغيير مريب لا تخفى دلالته، لكن لحظة الاكتشاف تقترب:"في المرة الأخيرة عاد مع الليل بعد غياب غير قصير، ودخل وفي حضنه بطيخة.
- جميلة!
فأجابته أمها:
- البنت عيانة شوية. سيبها.
جواب واحد لا يتغير منذ زمن. سار المعلم سلامة إلى ابنته. لما رأته-وهي في فراشها- نهضت واقفة. الغرفة معتمة والنور ضئيل. اقترب الرجل من ابنته ووضع يده على رأسها، وسقطت نظرته على جسمها. ورفع وجهه، فإذا به قد شاخ في اللحظة الضئيلة سنين. هو "العضمة" الزرقاء حقا. وجهه في لون رمادي منطفىء. ذقته معفرة وشفته "منيلة". في عيونه لمعان أصفر، وكأن رأسه صغرت فجأة. فالعمامة تنزلق، وهي ثقيلة الدم، فتقضم نصف أذنيه، وأدار وجهه لينادي زوجته، فانفلتت جميلة وعادت إلى فراشها. نظرة أخرى ثم خرج.
ونسي المعلم سلامة عشاءه، وفضلت البطيخة صحيحة".
الشكوك تراوده، والتعلل الطويل بالمرض يبدو مريبا غير مقتع. الأم متعاطفة مع ابنتها بطبيعة الحال، والأب تباغته الحقيقة المروعة. لحظة فارقة فاصلة بين عهدين في حياته، وانتقال عاصف مروع إلى الشيخوخة والذبول والانكسار. الأزمة لا تترك آثارها على الوجه وحده، فالزلزال يعصف بالروح ويدمر التماسك. نظراته الصامتة أكثر بلاغة من الإسراف الانفعالي في التعبير عن المأساة، ولا شيء في المشهد القصير يبشر بالخير. "البطيخة" التي يحملها في حضنه تبقى صحيحة لا تُمس، وكأن في إهمالها النذير بالقطيعة مع الشمل العائلي الذي يقترب من الانفراط.
القرية الصعيدية مغلقة على أهلها دون الغرباء، وأسرارها محاطة بأسوار عالية من الصمت والكتمان. من المنطقي ألا يتم الإعلان عن "قتل" جميلة، ولا شك أنها ستُعامل وفق قوانين الموت الذي قد يطول الشباب والأصحاء. "جرائم الشرف" في الصعيد لا يُنظر إليها بالمعايير التقليدية للجريمة، حيث الشرطة والنيابة والقضاء، والذين يعلمون السر لا يبوحون به. غاية ما يقدمه يحيى حقي هو الإيحاء الذي تنتهي به القصة دون تصريح صريح:"صوت جرس الكنيسة يدق إشعارا بموت.. يكاد ينطق، فقد يعبر النحاس في بعض الأحيان عن منتهى حزن الإنسان وألمه".
صوت جرس الكنيسة إعلان عن الموت، وجميلة هي المرشحة الوحيدة للنهاية الأليمة، التي تبدو منطقية وحتمية. التسامح ليس واردا أو ممكنا، والمصير اجتماعي لا شأن له بالدين، ذلك أن المسلمين والمسيحيين في "كوم النحل" نسيج واحد، ويخضعون بالضرورة لموروث معقد عسير المقاومة. المعلم سلامة يحب ابنته الوحيدة، لكن حكم الإعدام وتنفيذه "واجب" أقوى من الحب!.
*فصل من كتاب "شخصيات مسيحية في الأدب المصري"
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: يحيى حقي ابداعات يحيي حقي فی القریة یحیى حقی صح النوم تخلو من الذی لا ذلک أن
إقرأ أيضاً:
أزمات صحية تطيح بالنجوم.. ما الذي يحدث في عالم الفن؟ .. فيديو
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
في خبر مفاجئ، أعلن النجم هشام عباس، الذي يعد من أبرز نجوم جيله، عن اعتذاره عن حضور حفل تكريم الموسيقار الراحل أحمد الحجار، الذي كان مقررًا في دار الأوبرا تحت رعاية وزارة الثقافة.
وأعرب عباس عن أسفه بسبب إصابته بالتهاب حاد في الحنجرة بعد حفلات رأس السنة، ما أثر على صوته بشكل كبير، وقد نصحه الأطباء بالراحة التامة لمدة 20 يومًا.
أما في خبر آخر، أعلن الفنان القدير لطفي لبيب، صاحب الابتسامة المميزة، عن اعتزاله التمثيل نهائيًا.
لبيب، الذي يبلغ من العمر 78 عامًا، قرر التركيز على الكتابة بعد إجرائه عملية جراحية في الحنجرة، مشيرًا إلى أنه لا يضمن حالته الصحية بعد العملية.
ورغم ذلك، أبدى احترامًا كبيرًا لجمهوره وفنه، حيث أصر على أن يقدم أدوارًا تمثيلية على أكمل وجه، قائلاً إنه لا يريد الظهور إلا بأفضل حالاته.
https://youtube.com/shorts/eRWbhH0mk54