أحمد بن محمد العامري

المشهد السياسي في سوريا أربك الذهنية العربية؛ فلم يعتد العرب على أن يحدث تغيير دون إراقة الدماء، ولم يعتادوا دخول قادة جدد لا يقتلون على الهوية، فسوريا اليوم تعيش لحظة فارقة في تاريخها السياسي والاجتماعي، حيث يتبدل المشهد الذي هيمن عليه الخوف والانقسام لعقود طويلة، لتبرز ملامح وطن جديد يسع الجميع.


 لعقود، اعتمد النظام السوري، بقيادة الراحل الرئيس حافظ الأسد ومن بعده ابنه بشار الأسد الذي غادر، استراتيجية تقوم على استثمار مخاوف الأقليات لضمان بقائه، فخلق النظام صورة ذهنية تربط أمن هذه المكونات باستمراريته، وروج لفكرة أن سقوطه سيؤدي إلى مذابح طائفية وانهيار للنسيج الاجتماعي.
هذا الخطاب زرع الهلع في نفوس الأقليات وعزز الانقسامات الطائفية، حيث أصبحت مفردات مثل "الأقليات" و"الأغلبية" جزءً من لغة سياسية يومية تهدف إلى تكريس التعصب والخوف المتبادل.

لكن مع بروز القادة الجدد، تغيرت المعادلة بشكل مفاجئ. تبنوا خطاباً سياسياً مغايراً يقوم على التسامح والشراكة الوطنية رافضين استخدام لغة الطائفية أو الاستقطاب، انتقل الحديث من "حماية الأقليات" إلى "بناء وطن مشترك"، ومن "الأمان تحت النظام" إلى "الأمان عبر سيادة القانون".
 هذا التحول لم يكن مجرد تغيير في الخطاب، بل تم ترجمته إلى ممارسات فعلية تؤكد الالتزام بالمواطنة المتساوية وتنبذ الانتقام.
 لأول مرة منذ عقود، بدأ السوريون يتنفسون الحرية في وطن يرى الجميع فيه مواطنين متساوين دون إقصاء أو تمييز.

في المقابل، واجه هذا التحول مقاومة شرسة من بعض قنوات الإعلام العربي الرسمي، الذي لعب دوراً محورياً في شيطنة القادة الجدد.
 استثمر الإعلام في خلق صورة نمطية سلبية لكل من يحمل مرجعية إسلامية، وقدمهم كتهديد وجودي للأقليات وللمجتمع ككل، هذا الخطاب التضليلي كان يهدف إلى إقناع المواطن العربي بقبول استبداد العسكر كضمانة للاستقرار، ولكن مع مرور الوقت وانكشاف الحقائق، بدأ هذا الخطاب يفقد مصداقيته، وأدرك السوريون، ومعهم المواطنون العرب أن الاستبداد لم يكن أبداً ضمانة للأمن، بل كان السبب الرئيسي في تفكك النسيج الاجتماعي.

اليوم، تبدو سوريا على أعتاب مرحلة جديدة، حيث تتلاشى روايات التخويف لتحل محلها قيم المواطنة والشراكة الوطنية، الوطن لم يعد حكراً على فئة أو طائفة، بل أصبح فضاءً جامعاً يتسع للجميع دون استثناء.
 هذه التحولات ليست مجرد إنجاز سياسي، بل هي بداية مشروع وطني يعيد بناء الهوية السورية على أساس التعددية والمساواة.

التجربة السورية تقدم درساً عميقاً للعالم العربي، إنها تبرز أن الخوف والانقسام ليسا قدراً محتوماً، وأن تجاوزهما ممكن بوجود رؤية جامعة وقيادة حكيمة.
سوريا اليوم تثبت أن الألم يمكن أن يتحول إلى أمل، والانقسامات إلى وحدة، والخوف إلى شراكة وطنية. إنها دعوة لإعادة التفكير في مفهوم الدولة والمواطنة، وبناء أوطان قائمة على العدالة والمساواة، "وطن للجميع وفوق الجميع ويتسع الجميع"، وطن  فوق كل انتماء أو اختلاف.

ahmedalameri@live.com

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

مشاهد من سوريا

يمكن القول ضمن مناخ غير مغرق في التفاؤل وليس محكوما بالتشاؤم، أن الأسابيع القليلة الماضية، منذ هروب الأسد، أسقطت سرديات كبرى كانت مرسخة في الوعي الجمعي، بعضها لدى إخواننا في الطائفة العلوية، وبعضها الآخر في الوعي الجمعي لدى جمهور الثورة.

أولى هذه السرديات التي سقطت هي أن النظام السوري باق إلى أجل غير معروف، وأن ثمة قرار إقليمي ـ دولي ببقائه، باعتباره نظاما يمكن التعامل معه دوليا، وأن قوته العسكرية ـ رغم هشاشتها ـ تبقى أقوى بكثير من قوة الثوار العسكرية، وأن إيران وروسيا لا يمكنهما التخلي عنه مهما صعبت الأمور.

ثاني هذه السرديات التي سقطت هي فعل التسامح الذي أعلنه الثوار تجاه جمهور النظام، خصوصا تجاه الطائفة العلوية، باستثناء من مارس القتل المقصود وشارك في إجرام النظام.

منذ بداية الثورة، سمع كاتب هذه السطور، من بعض زملائه من الإخوة العلويين في الوسط الإعلامي بدمشق، أن الثورة عبارة عن إرهابيين سُنة، سيقضون على الطائفة العلوية ويحولون نسائهم إلى "سبايا" وخدم.

رغم حجم العنف والقتل الذي مارسه النظام، ورغم وقوف بعض الأقليات بقوة إلى جانبه، لم تنشأ حرب طائفية، بل نشأت حرب أهلية، وبين الإثنين فارق كبير، على الرغم من أن الخلفيات الفكرية المضمرة لا تخلو من أبعاد طائفية في الوعي الجمعي للأقليات، ذلك أن التفكير الأقلوي هو بطبيعة الحال منافي للتفكير الوطني العام.إن فعل التسامح هذا، لا يُعبر فقط عن تغير في المزاج الأيديولوجي لفئة ذات توجه ديني أيديولوجي فحسب، بقدر ما هو نابع أيضا من مقتضيات بناء الدولة الجديدة.

وما حدث خلال الأربعة عشر سنة الماضية يؤكد ذلك، فرغم حجم العنف والقتل الذي مارسه النظام، ورغم وقوف بعض الأقليات بقوة إلى جانبه، لم تنشأ حرب طائفية، بل نشأت حرب أهلية، وبين الإثنين فارق كبير، على الرغم من أن الخلفيات الفكرية المضمرة لا تخلو من أبعاد طائفية في الوعي الجمعي للأقليات، ذلك أن التفكير الأقلوي هو بطبيعة الحال منافي للتفكير الوطني العام.

على مدار العقود الماضية، ولا سيما مع اندلاع الثورة السورية، أخذ نظام الأسد يبث في وعي الجمهور العلوي مخاطر فوز الثورة ـ ذات التوجه الإسلامي الراديكالي ـ، وخطر ذلك على الطائفة بمجملها.

لعب النظام بذكاء على محور الأقليات والمظلوميات التاريخية، فخلق وعيا زائفا مفاده أن بقاءه عامل رئيس في حمايتهم والمحافظة على حقوقهم.

ثالث هذه السرديات هو الاعتقاد الذي كان سائدا بأن ثمة تماه وجودي بين النظام والطائفة العلوية، وأن الطائفة ستستميت من أجل بقاء النظام.

وقد بين هروب الأسد زيف هذا التصور من ناحيتين، فكرية وواقعية: بالنسبة للناحية الواقعية، ظهر استياء واضح من إخواننا العلويين من استمرار هذا النظام الذي أصبح وجوده يشكل حملا ثقيلا عليهم على صعيد التكاليف المعيشية الباهظة وصعوبات الحياة.

أما بالنسبة للناحية الفكرية، وهذا هو الأهم، فهو مرتبط بالأسباب الحقيقية لدعم الطائفة للنظام، وهي أسباب في الجزء اليسير منها اقتصادي، في حين أن السبب الحقيقي يكمن في الكينونة السياسية في الوعي الجمعي.

انتقلت الطائفة العلوية مع الاستعمار الفرنسي من طائفة اجتماعية مغلقة تعيش في الجبال إلى طائفة منفتحة اجتماعيا إلى حد ما، ثم حدث تحول خلال نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الماضي مع وصول شخصيات عسكرية قيادية على رأس الجيش أدخلت الطائفة في صلب صراعات الساحة السورية المتخمة بالأيديولوجيات الدينية والعلمانية.

ثم حدثت النقلة الكبرى مع تسلم حافظ الأسد سدة الرئاسة، وما عناه ذلك من انتقال الطائفة، ليس إلى طائفة منفتحة اجتماعيا فحسب، بل إلى طائفة سياسية أخذت تلعب دورا في مستقبل سوريا على الصعيدين الداخلي والخارجي.

هنا نشأ وعي قوي، أو فورة في الوعي بكينونة الطائفة سياسيا، ونشأ معها ما يمكن تسميته قطعا معرفيا مع التاريخ الغابر ورفض استذكاره لصالح واقع جديد يحقق هذه الكينونة.

إن قيام مشايخ العلويين ورجالاتها بهدم تماثيل حافظ الأسد في مناطقهم، ثم الدعوة إلى المشاركة في بناء سوريا جديدة، ليس ناجما عن جبن بقدر ما هو تعبير عن رغبة بطي حقبة الأسد والشروع في بناء سوريا الحديثة والمشاركة فيها بفعالية.إن الكينونة السياسية هذه هي ما يجب التركيز عليه، سواء في دعم الطائفة للنظام لعقود خلت، أو في الأسباب التي دفعت جمهورا عريضا من السوريين للثورة، ذلك أن الثورة لم تنشأ من أسباب طائفية ـ هيمنة أقلية على أكثرية ـ بل نشأت مع وصول الكينونة السياسية لدى الأفراد إلى مرحلة لم تعد قادرة على ضبطها وإخفاءها.

وعي الذات لذاتها ككينونة سياسية هو جوهر الفعل السوري، وهذا ما يفسر مطالب الحرية وإنشاء نظام ديمقراطي على أنقاض النظام الاستبدادي لدى الثوار.

إن قيام مشايخ العلويين ورجالاتها بهدم تماثيل حافظ الأسد في مناطقهم، ثم الدعوة إلى المشاركة في بناء سوريا جديدة، ليس ناجما عن جبن بقدر ما هو تعبير عن رغبة بطي حقبة الأسد والشروع في بناء سوريا الحديثة والمشاركة فيها بفعالية.

إن هذه الكينونة السياسية التي كانت سببا في دعم الطائفة للنظام هي ذاتها السبب في التخلي عنه.

سوريا بحاجة إلى كل مكوناتها وأفرادها من أجل بناء دولة ديمقراطية ليبرالية قائمة على المواطنة بغض النظر عن الانتماءات الضيقة.

وإذا كان لإخواننا العلويين حضورا إجراميا ممثلا بآل الأسد وداعميهم من أبناء الطائفة، فإن للعلويين أيضا بصمة تاريخية وثقافة هامة: صالح العلي، أدونيس، سعد لله ونوس، بدوي الجبل، ممدوح عدوان، فؤاد غازي، جمال سليمان.. إلخ.

مقالات مشابهة

  • لا وألف لا لنظام المحاصصة في سوريا الجديدة
  • ورقة الأقليات في سوريا... ما لها وما عليها
  • النظام العربي ونُخبه و(فوبيا إيران)..!
  • أحمد موسى: الخطاب المصري بشأن سوريا راقي ويحافظ على الهوية الوطنية السورية
  • القاسم .. لا وألف لا لنظام المحاصصة في سوريا الجديدة
  • مشاهد من سوريا
  • الأمم المتحدة: نراقب عن كثب وضع لغات الأقليات في أوكرانيا
  • سوريا ما بعد الثورة وسؤال الخطاب
  • بسجون الأسد القمع للجميع .. تعذيب مسنين تجاوزا الثمانين