قال الشيخ الدكتور أسامة بن عبدالله خياط، إمام وخطيب المسجد الحرام ، إنه في دنيا الواقع من صور حفظ الفروع وتضييع الأصول ما لا يكاد يُحصى من الصور. 

تحبط عمله واجتهاده

وأضاف “ خياط” خلال خطبة الجمعة الأولى من رجب من المسجد الحرام بمكة المكرمة، : فترى في الناس مَن يجتهد في ألوان القربات ليله ونهاره، ليزدلف بها إلى مولاه، ويحظى عنده بالدرجات العُلا والنعيم المقيم، لكنه يقرن ذلك بما يفسد عليه جده ونصبه  ، ويحبط عمله واجتهاده.

وتابع:  حين يشرك بالله غيره، بدعاء أو باستعانة أو باستغاثة أو بذبح أو بنذر أو بصرف أي نوع من أنواع العبادة التي هي حق خالص لله لا يجوز صرف شيء منها لغيره سبحانه.

وأردف : وحين يأتي كاهنًا أو عرَّافًا فيسأله ويصدِّقه،  وحين يعلِّق تميمة أو ودعة يستدفع بزعمه الضرَّ عن نفسه أو أهله وولده، مع أن الله تعالى قد بيَّن لعباده في كتابه بواضح البيان.

ونبه إلى أن عاقبة ما كان من هذا الإشراك شركًا أكبر هو حبوط العمل وفساده، وعدم انتفاع عامله به في الآخرة، وتحريم الجنة عليه وجعل مأواه النار، فقال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.

حين تستحكم الآفات

وأوضح أنه حين تستحكم الآفات، وتستشري العِلَل، وتكثر الأدواء، تضطرب عند ذلك الألباب، وتلتاث العقول، وتحار الأفهام، فتنأى بالمرء عن سلوك الجادة، وتحيد به عن الصراط، وتحدث في نظام الحياة فسادًا عريضًا، حيث يشيع الخلل.

واستطرد: ويفشو العوج، وتختل الموازين، وتنعكس الأمور، فيقدَّم المؤخر، ويؤخر المقدَّم، وتصغَّر العظائم، وتعظَّم الصغائر، وتحفظ الفروع، وتضيَّع الأصول، منوهًا بأنه مِنَ الناس مَن يُعنى بإقامة حروف القرآن وتجويدها، وتحسين الصوت بالتلاوة، يضيع حدوده.

وواصل:  ويهمل العمل بما أنزل الله فيه، ويغمض الأجفان عن تدبر معانيه، والتأثر بعظاته، والاعتبار بقصصه وأمثاله، ومِنَ الناس مَن يحترز من رشاش النجاسات أن يصيب ثيابه شيء منها، لكنه لا يتوقَّى من غيبة أو نميمة أو قول زور.

وأشار إلى أن مَن يكثر من الصدقات، لكنه لا يتورَّع عن مال حرام، ومِنَ الناس مَن يصلي بالليل ويصوم النهار، لكنه يؤذي جيرانه ويتعدِّى على حقوقهم، ويستطيل في أعراضهم، حتى تكون جيرته عليهم همًّا ثقيلًا، وشرًّا مستطيرًا، وبلاءً عظيمًا.

وأفاد بأن مِنَ الناس مَن يَبَرُّ معارفه وعشراءه بإقامة أوثق العلائق معهم، لكنه يعق والديه وإخوانه، ويقطع رحِمه، ويتبرأ من قرابته وأهل بيته، ومِنَ الناس مَن يجود على الفقير البعيد، لكنه يدع أهل بيته عالة يتكففون الناس، أو يضيق عليهم في النفقة الواجبة، فلا يعطيهم ما يكفيهم بالمعروف.

ولفت إلى أن مِنَ الناس مَن يصون لباسه ومركبه وفراشه عن الأدناس والأقذار، لكنه لا يحفظ سمعه وبصره عن التلوث بأرجاس الحرام، ومِنَ الناس مَن يطيع في صغار الأمور دون كبارها، وفيما تخف عليه مؤونته دون ما عليه فيه مشقة.

مبعث هذا الانحراف

وبين أنه لا ريب أن مبعث هذا الانحراف، ومصدر هذا العِوَج، في تضييع الأصول وحفظ الفروع، إنما هو الخضوع لسلطان العادات، والإذعان لهيمنة الأعراف، بعيدًا عن أنوار الوحيين، قصيًّا عن ضوابط التنزيلين، وكذا اتباع الهوى بغير هدى من الله، وفصول جهل بدين الله، وقلة الناصح وندرة المعين.

ونوه بأن المخرج من كل أولئك، لا يكون إلا بدواء العلم والعمل، أما العلم فلأنه يقف صاحبه على القواعد والأصول والأسس التي تُبتنى عليها الفروع، وتقوم عليها الجزئيات، وينشئ له فكرًا منظَّمًا منضبطًا يضع الأشياء في مواضعها، ويعرف للأعمال مراتبها ومنازلها.

وأبان بالنسبة للعمل، فلأنه يقع صحيحًا موافقًا لما شرعه الله، ماضيًا على نهج رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، سعيدًا بالقَبول، مُبلِّغًا كل مأمول، مشيرًا إلى أن مخالفة الهوى، والاجتهاد في ضبط الأعراف والعادات بضوابط الشرع، مما يرجى أن يستصلح به هذا الانحراف، ويُقام به هذا العِوَج، ويثوب به المسلم إلى طريق دينه القويم.

وذكر أن عِظَم الخسارة التي يُمنى بها مَن يحفظ فروعًا ويضيِّع أصولًا، لا سيَّما إذا كانت هذه الأصول توحيدًا وإيمانًا، خليق بأن يحمل أولي الألباب على كمال العناية بهذا الأمر، وشدة الحذر من التردِّي في وهْدَته، وتمام الحرص على التجافي عن كل سبيل يفضي إليه، وكل حامل يحمل عليه، وأي خسارة، وأعظم من أن يحبط عمل العامل، أو يُنتقص من أجره، أو يُضاعف في وزره، محذرًا من تضييع الأصول، واعرفوا لكل شيء قدره، وانزلوه منزلته، تستقم أموركم، وتَطِب حياتكم، وتحظَوا برضوان ربكم.

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: خطيب المسجد الحرام خطبة الجمعة من المسجد الحرام إمام وخطيب المسجد الحرام المزيد الناس م ن ی ع الأصول إلى أن

إقرأ أيضاً:

خطيب الجامع الأزهر: الظلم للنفس أساس كل ظلم .. ونداء لمنكري وجود الله

ألقى فضيلة الدكتور محمود الهواري، الأمين المساعد للدعوة والإعلام الديني بمجمع البحوث الإسلامية، خطبة الجمعة اليوم بالجامع الأزهر، والتي جاءت بعنوان "الأشهر الحرم".

فضائل الأشهر الحرم وتحذير من الظلم

أكد فضيلته أن شهر رجب يُعد من الأشهر الحرم التي ذكرها الله عز وجل في قوله: «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ... مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ» [التوبة: 36]، وبيّنها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف بأنها ذو القعدة، ذو الحجة، المحرم، ورجب.

وأشار إلى أن من أبرز التوجيهات المستلهمة من هذه الأشهر قول الله تعالى: «فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ» [التوبة: 36]، حيث يُعتبر الظلم، سواء للنفس أو للغير، من المحرمات المؤكدة، واستشهد بحديث قدسي: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا» [رواه مسلم].

الظلم للنفس... أخطر أنواع الظلم

أوضح الدكتور الهواري أن الظلم لا يقتصر على الاعتداء على الآخرين، بل يمتد ليشمل ظلم الإنسان لنفسه، مشيرًا إلى أن كل ظلم للغير هو في حقيقته ظلم للنفس، حيث قال: "إذا ظلمت غيرك وأنت تظن أن قوتك أو مالك تحميك، فإنك في الحقيقة تظلم نفسك أولاً".

 وأضاف أن أعظم ظلم للنفس هو الشرك بالله، كما جاء في قوله تعالى: «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» [لقمان: 13].

رسالة لمنكري وجود الله

تحدث الدكتور الهواري عن محاولات الإلحاد وإنكار وجود الله، والتي وصفها بأنها تظلمات نفسية تؤدي إلى هلاك الإنسان. وأضاف: "عدم اهتدائك إلى الله لا يعني عدم وجوده، بل هو دليل على ظلم الإنسان لنفسه بإنكار الحقيقة الكبرى" وحذّر من الشبهات الفكرية التي تُضعف هوية الشباب وتُبعدهم عن الإيمان، مطالبًا الجميع بالعودة إلى الله واتباع تعاليمه.

الأزواج والظلم الأسري

تطرق خطيب الجامع الأزهر إلى قضية الظلم في العلاقات الزوجية، مشددًا على ضرورة التوازن بين الحقوق والواجبات بين الزوجين. وأشار إلى أن انشغال كل طرف بمطالبة حقوقه وإهمال واجباته يؤدي إلى تفكك الأسرة ومعاناة الأبناء.

 واستشهد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر» [رواه مسلم]، موضحًا أن الحياة الزوجية الناجحة تقوم على الإحسان المتبادل والصبر، وليس فقط على الحب.

خاتمة وتحذير

اختتم الدكتور الهواري خطبته بتحذير من فساد التصورات الفكرية التي تجر الإنسان إلى ظلم نفسه ومجتمعه، ودعا إلى التوبة والاستغفار للنجاة من عواقب الظلم، مستشهدًا بقول الله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ... لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا» [النساء: 64].

 

خطبة اليوم جاءت لتحذر من الظلم بكل أنواعه، سواء كان للنفس أو للغير، وترسم طريقًا واضحًا للعودة إلى الله عبر التوبة والالتزام بتعاليم الدين، وهو ما يعكس رؤية الإسلام الشاملة لتحقيق العدل والسلام في النفس والمجتمع.

مقالات مشابهة

  • النيابة: الكاميرات وثقت لحظات المجني عليه الأخيرة لتدعوا الناس له بالرحمة ولقاتله بالعذاب
  • روحانية وجمالية.. زخارف المسجد الحرام تبرز طابع الحضارة الإسلامية
  • ما حكم التفكير في الحرام أثناء الصلاة؟ دار الإفتاء تجيب
  • خطيب الجامع الأزهر: الظلم للنفس أساس كل ظلم .. ونداء لمنكري وجود الله
  • أعلم الخلق بالله.. خطيب المسجد النبوي: النبي كان أكثرهم استغفارا وتوبة
  • خطيب الجمعة بالأزهر: كل ظلم للغير هو ظلم للنفس
  • خطيب الحرم المكي: تحسين الصوت بالتلاوة يضيع حدوده ويهمل العمل بما أنزل الله فيه
  • خطيب المسجد النبوي: طاعة الله لا تكون إلا باتباع رسوله الكريم
  • خطبتا الجمعة من المسجد الحرام والمسجد النبوي