ينتمي مؤلف كتاب "هكذا تكلم علي شريعتي" -الذي صدرت طبعته المزيدة المنقَّحة كُليّا عن تنوير للنشر والإعلام- إلى أسرة علمائيَّة من الأسر التقليدية العديدة، التي أرسَلَت أبنائها إلى التعليم الجامعي في الحواضِر الكبرى؛ فهُزِموا أمام أيديولوجيات عصرهم، وتشرَّبوها. وقد كانت الماركسية أشهر هذه الأيديولوجيات عَقِب الحرب العالمية الثانية، وأكثرها تفشيا بين أبناء المسلمين، باختلاف طبقاتهم.
ورغم أن ظاهرة التحول قد بدأت -في أنحاء متفرقة- قبل الثورة بعقدين تقريبا، فإن الموجة المتزامِنَة مع انتصار الثورة في إيران، وتلك التالية عليها مباشرة؛ كانت أشد خطورة بكثير. فإذا كانت الموجات المبكرة تعبيرا عن إرهاصٍ فكريٍّ-حركيٍّ بصير، بفشل التحديث المعادي للدين عموما، ومحاولة للحفر في أعماق الثقافة الإسلامية بحثا عن حلول جادَّة للأزمة؛ فإن الموجات المتأخرة كانت مُجرَّد ردود فعل سياسيَّة على فشل أيديولوجي وواقعي، وشتَّان بين المآلات. فقد عبَّرت الموجة الأولى عمَّا يُشبه "الانتصار" الثقافي الجُزئي للمتحولين، على أنفسهم وعلى أيديولوجياتهم وعلى واقعهم المنتفج بالكذب، في حين عبَّرت الموجات المتأخرة عن هزيمة كاملة للمتحولين أمام واقعهم المتردي، وأمام نفوسهم الحائرة المشوَّشة؛ التي سَعَت للتوفيق بين واقع مُتردي وأيديولوجيات مهزومة من جهة، والإسلام العائد إلى التاريخ بقوة من الجهة الأخرى.
لقد كان إخفاق "الجماعة العلمية" في التعامُل مع التحديث، وتحصين أبناء المسلمين من التشوهات الناجمة عنه؛ بابا للتسمُّم بالأيديولوجيات الحديثة، وذلك كما كان بابا للارتداد عنها بغير تبَصُّر، أو وعي بما يحمله "المتحول" من جراثيم إذ عاد، وأثر عودته المهزومة المأزومة على استقباله للإسلام، ثم إعادة طرحه له من جديد، كأنه أيديولوجية دنيويَّة أو نظام فكري وضعي!
وإذا كان فشل "العلماء" الأوَّل قد يُعزَى إلى استيعابهم النسبي داخل الإطار التحديثي مع تمام جهلهم بذلك، فإن الفشل الثاني كان كذلك استمرارا للأول، وتعبيرا فجّا عن اكتمال هذا الاستيعاب، وعجز هؤلاء "العلماء" التام عن تجاوز الإطار التحديثي، حتى ولو على المستوى النظري أو الاصطلاحي، إذ صاروا جُزءا لا يتجزَّأ منه؛ ليقبل أكثرهم لغو أسلمة الاشتراكية والقومية والديمقراطية، وما بعدهم من أيديولوجيات(1).
وقد جعل هذا الجو المشوَّه من المستحيل تمييز موجات العائدين إلى الإسلام، والنظر المتأني فيما حملوه معهم؛ فشاعَت بالتالي الغفلة التامة عن مآل هذه التحولات، التي حسبها أكثر المشتَغلين بالفكر والحركة انتصارا للإسلام على الماركسية، رغم أنها كانت دسّا جاهلا للقوالب والأنماط الفكرية الدخيلة ومصطلحاتها في المجال الفكري الإسلامي، ناهيك عن بعض "مقولاتها"، التي لم تُستَدْخَل إجرائيّا لمواجهة غيرها مثلا، وإنما أُريد منها المقارَنَة المهزومة مع "تقدُّمية" الإسلام "دفاعا عنه"، ثم دمجها بنيويّا لتفكيك الإسلام، حتى يُختَزَل إلى أيديولوجية دنيوية! وهذا هو عصب ما فعله "السياسي" في مؤلفنا فاضل رسول بقدرٍ من الوعي البراغماتي، ويفعله علي شريعتي المفكر مُضطرا -في اللاوعي- بعد إذ استوعَبَهُ النسق الماركسي إلى حدٍّ كبير. وقد أفضنا في بيان الإشكالات الكارثية التي تمخَّض عنها عموم هذا التحول اليساري في موطن آخر، ومن شاء الرجوع إليه(2)؛ فإنما يعنينا هاهُنا حالَتا شريعتي ورسول تحديدا، وتعاطيهما مع بعض الأدوات الماركسية.
وربما كانت أهم العناصر الكاشفة عن الفارِق الذي ميَّزناه عند الرجلين هو أثر مفهوم "الديالكتيك" عليهما، وموقفهما منه، وصياغته فيما يطرحان. فقد فكَّك شريعتي المفهوم الماركسي، وحوَّله إلى جدل ثوري حقيقي؛ أضْرَم به الثورة في إيران. ومن ثم؛ فهو يتجلَّى في مواطن شتَّى بوصفه مُفكرا أصيلا، يجتهدُ لإعادة تركيب المفهوم تركيبا يوظِّفهُ في نسقٍ واضحٍ -في ذهنه وفي حركته- فقد صار الديالكتيك في يده أداة نقديَّة لنقض الواقع المتردي وتفكيكه، ومحاولة استعادة التقاليد التي سبَقَت هذا الواقع، وهو ما يتجلَّى في مشروعه على طول الخط، خصوصا في نهجه للتعرُّف على الإسلام، والتمييز بين أنواع التشيُّع والتسنُّن -بوصفهما "الولاء الأوَّلي"- ثم التمييز بين الأدوات الحركية التاريخية، ابتداء بإعادة تعريف التوحيد بوصفه رؤية للكون، وإعادة تمييز "الذات" التي يجب العودة إليها وتحرير وجودها، وتعريف المثقَّف ودوره، وإعادة تأويل الشهادة في سبيل الله؛ كل ذلك في ضوء فلسفة واضحة للتاريخ وحركته، والاجتماع وآلياته -أيّا كان رأينا فيها- لكنها ليست فلسفة نظريَّة، وإنما فلسفة حركيَّة تعمل عمل البوصلة؛ فتُعيِّن الوجهة التي يتَّجهُ إليها التاريخ والاجتماع. وبذلك، وظَّف شريعتي الأدوات الماركسيَّة لبناء نسق صراعي "إسلامي"، يواجه به الماركسية وسائر الأيديولوجيات الغربيَّة.
أما فاضل رسول؛ فيتجلَّى لنا شدَّة انشغاله وجيله بمفهوم "الحوار"، كما يظهر في كتاباته القليلة -وعلى رأسها هذا الكتاب- وفي شهادات المقرَّبين؛ إذ كان الحوار الهادئ بين رؤوس الأطياف الأيديولوجية، للتلاقي في مساحة موهومة؛ هو "الهدف الأسمى" الذي كرَّس له دوريتين: "الحوار"، و"منبر الحوار"، بل وحَدَا كُلَّ نشاطاته، التي يَعتَبِرُ جيله أن أهمها -بإطلاق!- هو تدشينه للحوار بين الإسلاميين والعلمانيين في القاهرة! فقد شذَّب فاضل رسول الديالكتيك، وجعل منه أداة لكلام التفافي لا فائدة من ورائه، وفعل دائري لا ثمرة له ولا نفع، ودع عنك أن يُضرِم ثورة، أو يقتلع واقعا بائسا من جذوره! وهو حكم لا تُمليه المآلات التي تتجلَّى لنا اليوم، وإنما يكشفه ابتداء تخنُّث النسق الفكري وخطابه الذي عبَّر عنه هذا الجيل المهزوم مُذ ذاك، وكان طبيعيّا أن يُفضي إلى تحالُفات مع "الرجعيَّة العربية"، ويُثمر لاحقا مؤسسات "معرفية" للصد المنهجي عن سبيل الله؛ أمثال: "المعهد العالمي للفكر الإسلامي".
وبعبارةٍ أخرى، ففي حين وَظَّف شريعتي الديالكتيك مُحاولا الخروج من الأزمة بأداة نقديَّة حديثة، فإن فاضل قد أذعَنَ لمبدأ "الحوار"، واعتبرهُ مفتاح الخلاص من كل الشرور، بل كان الأخطر من ذلك أنه اعتبر هذا "الديالكتيك" المُدجَّن أداة لبلوغ "الحق"، في تَجلٍّ شنيعٍ لهيمنة الروح النظريَّة للماديَّة الجدليَّة عليه هيمنة كاملة، ربما بغير أن يدري!
لقد شُغِلَ شريعتي بجدل فكريٍّ حقيقي مع المعتقدات والأفكار وآثارها في الواقع، وهي مهمة طبيعية ومتوقَّعة لأيِّ مفكرٍ مُجدد، لأن الحركيَّة التي يخلقها هذا التعاطي المجرَّد مع الأفكار، تولِّدُ حركة اجتماعية تنبثقُ من فيض التساؤلات المعرفيَّة التي يُعاد صياغتها وتُفتح للإجابة عليها أبواب معرفيَّة جديدة، ومساحات حركية جديدة. أما رسول، فقد انكفأ على محاولة التوفيق بين أفراد شتَّى من أصحاب خلفيَّات أيديولوجية مُتباينة، على خلفيَّة "إعادة طرحٍ" للتعدُّدية الإثنية والدينية التي تعايَشَ معها المشرق الإسلامي فطريّا منذ أقدم عصوره. وهي محاولة يتجلَّى فيها حُسن النيَّة، بقدر ما تتجلَّى فيها سذاجة الرؤية وسطحيتها، وهيمنة المكون السياسي الآني، والرغبة الشبقيَّة في صناعة "توافُق" فكري مُلفَّق ومستحيل بين الأيديولوجيات المختلفة. صحيح أن طبيعة هذا "الحوار" انبثَقَت بالأصل من "رغبة سياسية" إجرائية، بيد أن الحوار نفسه كان يعود دوما إلى الأفكار والثوابت الأيديولوجية، سعيا إلى تفكيكها؛ للوصول إلى "مُعتقدات وسيطة"، ولم يكن حوارا مُثمرا حول المواقف والخيارات السياسية؛ إذ كانت كل الأطراف التي جمعها -هو أو غيره!- هامشيَّة لا أثر لها في الفعل السياسي السلطوي، ولا حتى في الفعل السياسي الذي يُرجى توليده لاحقا بتزايُد حركية البيئة الاجتماعية، في مسعاها للإجابة عن تساؤلاتها المؤرِّقة! لهذا، أثمرَ هذا "الحوار" زيادة في تخنُّث أنساق المتحاورين الفكرية، وزاد في انبطاحهم السياسي زيادة واضحة؛ إذ أسهم في تفكيك البقية الباقية من تماسُك رؤاهم، وتركهم بعد ذلك وَهُم ليسوا على شيء!
وربما تَجدُر الإشارة هنا إلى أن أيديولوجية فاضل رسول الماركسيَّة كانت ماويَّة، وهو نسقٌ أشد مرونة -من غيره- في إعادة بناء التصورات الماركسية بناء محليّا، احتذاء لماوتسي تونغ نفسه؛ إذ أعاد بناء الماركسية بما "يُناسب" سياق المجتمع الزراعي الصيني. وهذا ما جعل رسول قادرا على سيولة تجمع المؤثرات الإسلامية مع المؤثرات الماركسية، جمعا تلفيقيّا إجرائيّا لا نُضج فيه ولا رؤية، ومن ثم؛ فلا مجال لمقارنة نشاطه الفكري التلفيقي بالجهد العميق والناضج لشريعتي رحمهما الله.
بيد أنه مما يَشتَرِك فيه شريعتي ورسول من "مآثر" النسق الماركسي؛ هو ما يُمكننا تسميته بـ"النزوع الأممي"، وهو مؤشرٌ حركيٌّ خطير يعني أن النسق الفكري يسعى إلى توليد حركة تتجاوَز الإطار القُطري البغيض للدولة القومية الحديثة، وهذا ما كان النظام العالمي الكُفري يَرقُبه عن كثب، ولا يُمكن أن يقبَلَ به أبدا؛ لأنه تَعدٍّ واضح على قواعده الأساسيَّة، خصوصا إذا كانت هذه الحركة لن تُحبَس في الإطار الماركسي الدولتي -المترسِّخ آنذاك- بل أُهِّلَت لتجاوزه يوما إلى محاولة بناء أممية "إسلامية"، تتجاوز النظام العالمي المتسلِّط بالشرك. وقد أودى هذا النزوع بحياة كثيرين ممن حاولوا تجاوز إطار الدولة القومية الحديثة، إبَّان فترة الغليان المؤدية إلى الثورة الإسلامية، والتالية عليها مباشرة؛ منهم علي شريعتي، الذي لقي ربه في ظروف غامضة (1977م)، ثم كان فيه حتف فاضل رسول، الذي اغتيل غدرا (1989م).
وإذا كان من الطبيعي والمتوقَّع، أن يسعى كل مفكر إلى إعادة تأويل نتاج من تأثَّر بهم، ودمج هذه الآثار في نسقه دمجا كاملا قبل طرحها، فإن افتقار فاضل رسول إلى هذه المقدرة التفكيكية-التركيبية لم يمنعه من المحاولة. ومن هذه المحاولات مثلا تصوره أن علي شريعتي "كان حريصا على ألا يُفهَمَ بوصفه معاديا للماركسية أو الاشتراكية؛ فقد ظلَّ الماركسيون من محاوريه، وظلَّ ينظر إلى الصراع ويتناوله في المستوى الأيديولوجي، ويرى إمكانيات التعاون بين الإسلاميين والاشتراكيين في الكفاح العملي ضد الرجعية والاستعمار"، بل وأنه "كان يفهم العلاقة بين العصبيات والانتماءات المختلفة (قومية، دينية.. إلخ) على أنها علاقة انسجام، ودوائر يلتف بعضها حول بعض، لا بوصفها نقائض لبعضها البعض". بيد أن قارئ شريعتي الخبير، والمُتابع المتفحِّص لحركة رسول؛ يُدرِكُ جيدا أن هذين العنصرين المركزيين تحديدا هُما تأويل فاضل نفسه لنصوص شريعتي، متأثرا بما كان المتأوِّلُ يُريد إنجازه في الواقع! وربما لهذا السبب تحديدا، عمدنا -في هذه الطبعة الجديدة- إلى الفصل الكامل بين تأويل فاضل رسول لنصوص شريعتي، وبين النصوص المطوَّلَة التي يورِدها له، خصوصا حين أخفق مسعانا في تخريج أكثر الاستشهادات القصيرة التي يتناولها فاضل في تأويله للأفكار، ولا يُحيل على مصادرها.
هذا التشرُّب الكامل للمؤثرات الماركسية، الذي يحدو فاضل رسول طوال الكتاب؛ لم ينضح فحسب في قراءته لتاريخ إيران الحديث، وإنما صبغ قراءته لتاريخها قبل الحديث، مثله في ذلك مثل أكثر الحداثيين المؤدلجين من جيله. فهو يبني سرديَّة شديدة الاختزال لتاريخ إيران قبل الحداثة، سرديَّة تجاوَزَتها دراسات الحداثيين الرصينة، كما تجاوزت الغشاوة الحداثيَّة والوجدان الماركسي في تفسير الأحداث وتسمية الظواهر.
* * *
ورغم كل ما سبق، يظل هذا الكتاب أفضل المقدمات العربيَّة عن علي شريعتي بإطلاق، بمزجه بين شطر يسيرٍ من سيرته، وبعض كتاباته المركزية. بل يظلُّ عملا كلاسيكيّا لا تنقضي أهميته للثقافة الإسلامية، خصوصا للكتلة السكانية العربية التي لا تعرف الفارسية. فهو نصٌّ تأسيسي، شديد الأهميَّة للقارئ العربي الذي يتعرَّف إلى شريعتي للمرة الأولى. كذلك، فربما كان مكمن الأهميَّة المتجددة لمثل هذا النوع من النصوص، أنها تظل دوما مصادر ضروريَّة يلجأ إليها الباحث في المجالات ذات الصلة، وذلك بوصفها مُقدِّمات ضرورية للراغبين في "عرضٍ مسحيٍّ" سريع، بغير حيازة الخلفيَّة الملائمة. وليس ذلك لأن مثل هذه النصوص صالحة في ذاتها صلاحيَّة استثنائيَّة لهذا الدور، وإنما لقلَّة المتوفِّر في المكتبة العربية من مُقدمات في هذا الباب عينه.
____________
(1) للاطلاع على دراسة موسَّعة عن تعاطي المسلمين مع الموجة الأيديولوجية الغربية الأولى؛ راجع: حميد عنايت، الفكر السياسي الإسلامي الحديث (تنوير للنشر والإعلام، 2021م)، الفصل الرابع.
(2) المزيد من التفاصيل؛ يُراجع مقالنا المعنوَن: "جناية اليسار المتحول إلى الإسلام".
x.com/abouzekryEG
facebook.com/abouzekry
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه إيران فكري إيران اسلام فكر مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد اقتصاد صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة ة التی ی ما کان
إقرأ أيضاً:
وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر.. قواعد نبويّة للتّقييم السّياسيّ والاجتماعيّ
مواقف السيرة النبويّة منهاج حياة كاملة يتوجب على المسلم أن يتفاعل معها تنزيلا وتطبيقا في عوالم السياسية والاجتماع وفي التعامل السياسيّ والأخلاقي والاجتماعي، وهي تفيد في تفكيك المواقف المتشابكة والمشاهد المعقدة والحكم عليها تفصيلا بعيدا عن الإجمال المُخلّ. ومن بديع ما قاله ابن القيم في التعبير عن هذا المعنى في كتابه "مفتاح دار السّعادة": "فلو أعطيت النّصوص حقّها لارتفع أكثر النّزاع من العالم، ولكن خفيت النّصوص وفُهم منها خلاف مرادها -وانضاف إلى ذلك تسليط الآراء عليها واتباع ما تقضي به- فتضاعف البلاء، وعظم الجهل، واشتدّت المحنة وتفاقم الخطب، وسبب ذلك كله الجهل بما جاء به الرسول وبالمراد منه".
ومن هذه المواقف التي تمثل منارة يستنير بها المرء في عالم تقييم المواقف السياسيّة والاجتماعيّة للأفراد والجماعات؛ موقف حاطب بن أبي بلتعة الذي وقع بين يدي فتح مكة في رمضان من العام الثامن للهجرة، إذ تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم للفتح وكان حريصا على أن لا تبلغ الأخبار قريشا حتى لا يتجهزوا فلا تراق الدماء، فدعا ربّه: "اللهم خذ على أسماعهم وأبصارهم فلا يرونا إلا بغتة، ولا يسمعون بنا إلا فجأة". غير أنّ موقفا مفاجئا حدث من الصحابي الجليل حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، وهو صحابي شهد بدرا والحديبية؛ إذ كتب إلى قريش كتابا يخبرهم فيه بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم وتحركاته باتجاههم، ثم أعطاه امرأة، وجعل لها مبلغا من المال مقابل أن تبلغه قريشا، فجعلته في قرون رأسها بين شعرها، ثم خرجت به، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث عليا والمقداد رضي الله عنهما، فقال: "انطلقا حتى تأتيا روضة خاخ، فإن بها ظعينة -أي امرأة- معها كتاب إلى قريش".
على الرّغم من أنّ ما فعله حاطب ثابت بالدليل اليقيني القطعي؛ أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطي حاطبا فرصته ليبيّن ويوضّح، سامعا منه مباشرة. وهذا منهج نبوي عظيم في التعامل مع الأفراد والجماعات في المواقف السياسيّة والاجتماعيّة أو غيرها قبل إطلاق الأحكام والتقييمات، فإن رأيت من أحدٍ ما أو جماعة فاعلة موقفا لم ترتضيه فالأصل أن تسمع منهم لا أن تسمع عنهم
فانطلقا مسرعين حتى ألفيا المرأة فأمرها عليّ رضي الله عنه أن تُخرج الكتاب فقالت: ما معي كتاب، ففتّشا رحلها فلم يجدا شيئا، فقال لها علي: "أحلف بالله، ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا، والله لتخرجنّ الكتاب أو لنجردنّك"، فلما رأت الجدّ منه، قالت: أعرض، فحلّت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليهما، فأتيا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه: "من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش" يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبا، فقال: ما هذا يا حاطب؟! ما حملكَ يا حاطبُ على ما صنعت؟! فقال: لا تعجل عليّ يا رسول الله، والله إنّي لمؤمنٌ بالله ورسوله، وما ارتددت ولا بدّلت، ولكني كنت امرأ مُلصقَا في قريش، لست من أنفُسِهم، ولي فيهم أهلٌ وعشيرةٌ وولد، وليس لي فيهم قرابةٌ يحمونهم، وكان مَن معك لهم قرابات يحمونهم، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتّخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "أما إنّه قد صدقكم".
فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فإنّه قد خان الله ورسوله، وقد نافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه قد شهد بدرا، وما يدريك يا عمر، لعلّ الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"، فذرفت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم.
وهذا المشهد من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلّم يفيض بالدروس والحِكم؛ ولعلي أقتصر مختصرا على قاعدتين تتعلقان بالتّقييم السّياسي والاجتماعي للأفراد والجماعات:
القاعدة الأولى: لقد وقع من حاطب بن أبي بلتعة ما يوصف بالخيانة العظمى وكان ثابتا عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالوحي الإلهي، وعند عامة المسلمين بالدليل المادي وهو الرسالة التي كانت مع المرأة، ومع ذلك فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم دعا حاطبا وسأله: "ما هذا يا حاطب؟! ما حملكَ يا حاطبُ على ما صنعت؟!"؛ فعلى الرّغم من أنّ ما فعله حاطب ثابت بالدليل اليقيني القطعي؛ أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطي حاطبا فرصته ليبيّن ويوضّح، سامعا منه مباشرة. وهذا منهج نبوي عظيم في التعامل مع الأفراد والجماعات في المواقف السياسيّة والاجتماعيّة أو غيرها قبل إطلاق الأحكام والتقييمات، فإن رأيت من أحدٍ ما أو جماعة فاعلة موقفا لم ترتضيه فالأصل أن تسمع منهم لا أن تسمع عنهم، وأن يكون نبراسك في ذلك فعل النبيّ صلى الله عليه وسلّم مع حاطب فتسألهم هم لا غيرهم: ما حملكم على ما فعلتم وصنعتم؟!
رسالةٌ بالغة الأهميّة في تقييم مواقف الأفراد والجماعات التي لها مواقف مشرفة ونبيلة ووقع منها زلل أو خطأ في العمل أو المواقف؛ فإنّه يُغتفر لأصحاب المواقف المشرّفة والبذل والتضحية والفداء والعطاء ما لا يغتفر لغيرهم، وإنّ مواقف الأفراد والجماعات النبيلة وتضحياتهم ينبغي أن تكون سببا في غض الطرف عن بعض ما يرتكبون من زلل، وإنّ أخطاء الأفراد والجماعات الذين شهدت لهم مواقفهم بالفعل العظيم والتضحية والعطاء تغرق في بحار فضائلهم
القاعدة الثانية: في الحديث رسالةٌ بالغة الأهميّة في تقييم مواقف الأفراد والجماعات التي لها مواقف مشرفة ونبيلة ووقع منها زلل أو خطأ في العمل أو المواقف؛ فإنّه يُغتفر لأصحاب المواقف المشرّفة والبذل والتضحية والفداء والعطاء ما لا يغتفر لغيرهم، وإنّ مواقف الأفراد والجماعات النبيلة وتضحياتهم ينبغي أن تكون سببا في غض الطرف عن بعض ما يرتكبون من زلل، وإنّ أخطاء الأفراد والجماعات الذين شهدت لهم مواقفهم بالفعل العظيم والتضحية والعطاء تغرق في بحار فضائلهم، وإن تضخيم أخطائهم بطريقة تهدم فضائلهم حياد عن المنهج النبوي فضلا عن كونه يتنافى والمروءة في الموقف والواقعيّة في التقييم.
وفي ذلك يقول ابن القيم في "مفتاح دار السّعادة": "من قواعد الشرع والحكمة أيضا؛ أنّ من كثرت حسناته وعظمت وكان له في الإسلام تأثير ظاهر؛ فإنه يُحتمل له ما لا يحتمل لغيره، ويُعفى عنه ما لا يعفى عن غيره؛ فإن المعصية خَبث، والماء إذا بلغ قلّتين لم يحمل الخبث، بخلاف الماء القليل فإنه يحمل أدنى خبث. ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: "وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم" وهذا هو المانع له صلى الله عليه وسلم من قتل من حسّ عليه وعلى المسلمين -يعني: تجسس، ونقل أخباره إلى الأعداء- وارتكب مثل ذلك الذنب العظيم، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه شهد بدرا، فدلّ على أن مقتضى عقوبته قائم، لكن منع من ترتّب أثره عليه ما له من المشهد العظيم، فوقعت تلك السّقطة العظيمة مغتفرة في جنب ما له من الحسنات. وهذا أمر معلوم عند الناس مستقر في فطرهم: أن من له ألوف من الحسنات فإنه يسامح بالسيئة والسيئتين ونحوها، كما قيل:
وإذا الحبيب أتى بذنبٍ واحدٍ
جاءت محاسنه بألف شفيعِ
وقال آخر:
فإن يكن الفعل الذي ساء واحدا
فأفعاله اللّاتي سررن كثير"
ولك أن تتخيّل لو أنّنا أعملنا هاتين القاعدتين في تقييماتنا السياسيّة أو الاجتماعيّة للأفراد والجماعات فكم من الإنصاف سنرى، وكم من إحسان الظنّ سنجد، وكم من المعارك الهجوميّة ستتلاشى، وكم من الألسنة المغرضة ستلجم ولن تجد لها آذانا صاغية أو ألسنة تعيد تكرار اللغو والباطل!
x.com/muhammadkhm