وَشِيْجَةُ المَدَنيين بالعَسْكَريين – مِنْ شَرَاكَة لمُنسَّقِيَّة
تاريخ النشر: 3rd, January 2025 GMT
وَشِيْجَةُ المَدَنيين بالعَسْكَريين – مِنْ شَرَاكَة لمُنسَّقِيَّة
Civilian-Military Nexus – From Partnership to Coordination
بروفيسور مكي مدني الشبلي
المدير التنفيذي – مركز مأمون بحيري، الخرطوم
استحالة تحقيق انتقال سلمي واقعي بعد الحرب دون تنسيق (ليس شراكة) بين المدنيين والعسكريين:
شهدت الشراكة السابقة بين المدنيين والعسكريين توترات ومرارات غائرة خلال فترة المجلس العسكري الانتقالي التي تخللتها فاجعة فض اعتصام القيادة العامة في 3 يونيو 2019، وتواصلت هذه التوترات بعد توقيع الوثيقة الدستورية لتقاسم السلطة بين المؤسسة العسكرية وقوى الحرية والتغيير في 17 أغسطس 2019، وتواصل تردي العلاقات بين الطرفين بسبب انقلاب 25 ديسمبر 2021، وبلغ التوتر ذروته بعد حرب 15 أبريل 2023.
وعلى الرغم من هذه الظروف القاهرة التي تحتم التنسيق بين المدنيين والعسكريين لتحقيق الانتقال السلمي السلس، إلا أن التجربة السابقة تفرض تأطير هذا التنسيق بما يحقق سبل نجاحه لبلوغ الغايات المأمولة.
محددات الوئام بين المدنيين والعسكريين لإنهاء حرب السودان:
تحقيقاً لوشيجة فاعلة بين المدنيين والعسكريين (وليس شراكة) لإنهاء حرب السودان، يجب مراعاة توزيع متوازن للصلاحيات بين الطرفين، وتحديد واضح لأدوار كل طرف لتجنب التداخل والصراع، والتزام الشفافية والمساءلة، والتوافق على آليات واضحة للرقابة المدنية على المؤسسة العسكرية، ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات من الطرفين، والإصلاح المؤسسي لمعالجة التشرذم البنيوي الذي شتت المدنيين والعسكريين على حد سواء، الأمر الذي يقتضي إعادة هيكلة القوات المسلحة بإدماج الدعم السريع والحركات المسلحة، وإعادة هيكلة المدنيين بإدماج الكتل المتناحرة في كيان مؤسسي مناهض للحرب ومؤازر للسلام وقادر على إدارة الدولة، وإنشاء قنوات اتصال دائمة بين المدنيين والعسكريين بعقد مؤتمرات وحوارات شاملة لمعالجة القضايا الخلافية لمعالجة جذور الحرب الاقتصادية والاجتماعية. وفوق كل ذلك يجب وضع جدول زمني واضح للانتقال إلى الحكم المدني الكامل يلزم العسكريين بالانسحاب التدريجي من السلطة تحت إشراف وسطاء دوليين وإقليميين لضمان تنفيذ الاتفاقيات، بحيث يلتزم الشركاء الإقليميين والدوليين بدعم الانتقال نحو الحكم المدني الديمقراطي سياساً واقتصادياً. ولا شك أن نجاح هذ التواؤم بين المدنيين والعسكرين الذي تفرضه أهوال الحرب يتطلب مرونة من الطرفين وإرادة حقيقية لتجاوز الخلافات. كما أن استمرار الوئام مرهون بإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح قبل الانقلاب والحرب لتحقيق تطلعات الشعب السوداني في الحرية والسلام والعدالة التي قدم في سبيلها تضحيات جسيمة في ثورة ديسمبر الظافرة.
مأزق المواءمة بين محاسبة العسكريين مرتكبي جرائم الحرب، وقبولهم بوقف القتال والخروج من السياسة:
يتطلب التوفيق بين محاسبة مرتكبي جرائم الحرب وقبول العسكريين بوقف القتال والخروج من السياسة في السودان نهجاً متوازناً يجمع بين العدالة والمصالحة والتسامي لضمان تحقيق السلام والاستقرار. ولتحقيق هذا التوازن الصعب ينبغي وضع آليات للمحاسبة التدريجية بإنشاء لجان تحقيق وطنية ودولية محايدة للتحقيق في جرائم الحرب والانتهاكات الإنسانية، بمشاركة بعثة تقصي الحقائق التي أنشأها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وضمان توفير الدعم المالي والسياسي لهذه اللجان لتتمكن من أداء مهامها بفاعلية، مع التركيز على جمع الأدلة وتحديد المسؤولين الرئيسيين عن الجرائم، وتقديم ضمانات قانونية وسياسية للعسكريين الذين يوافقون على وقف القتال والخروج من السياسة، مثل العفو المحدود أو الحصانة المشروطة، شريطة تعاونهم مع آليات العدالة الانتقالية، وضرورة دمج القوات المسلحة وقوات الدعم السريع والحركات المسلحة في جيش وطني موحد تحت قيادة مدنية، مع إصلاحات هيكلية ومشاركة إقليمية ودولية لضمان عدم تكرار التدخل العسكري في السياسة، واعتماد نموذج للعدالة الانتقالية يوازن بين المحاسبة والمصالحة الوطنية، بما يشمل تعويض الضحايا وإعادة تأهيل المجتمعات المتضررة من فظائع الحرب، وإنشاء مفوضيات مستقلة لمعالجة قضايا الانتهاكات السابقة، بما يضمن مشاركة المدنيين والعسكريين في صياغة مستقبل مشترك، وممارسة ضغوط دولية على الأطراف المتحاربة لوقف الأعمال العدائية، مع تقديم حوافز مثل رفع العقوبات أو المساعدات الاقتصادية مقابل الالتزام بالسلام وتسليم السلطة للمدنيين، ودعم جهود بناء السلام من خلال الوساطة الدولية والإقليمية، مثل الآلية الثلاثية (الأمم المتحدة، الاتحاد الأفريقي، الإيقاد) لتسهيل تنفيذ الاتفاقات السياسية وضمان الالتزام بها، ووضع إطار زمني مُلزِم بتحديد جدول موقوت لتنفيذ الإصلاحات الأمنية والسياسية، بما يشمل خروج الجيش من السياسة خلال فترة انتقالية محددة لا تقل عن خمس سنوات تتيح بناء مؤسسات مدنية قوية ومستدامة.
إنشاء المجلس التنسيقي المدني العسكري:
شهدت الفترة التي أعقبت فض الاعتصام في يونيو 2019 تردي العلاقات بين المدنيين والعسكريين زاد من حدتها انقلاب ديسمبر 2021 وحرب أبريل 2023. وعليه فإن إنشاء مجلس تنسيقي بين المدنيين والعسكريين بعد وقف إطلاق النار سيساهم في خلق بيئة من الانفتاح والتعاون بينهما، مما يمهِّد الطريق لإعادة بناء الثقة تدريجياً بعد فترات الصراع والانقسام. ولبلوغ هذه الغاية تُوَكل للمجلس مهمة تعزيز التواصل والتفاهم المباشر بين الجانبين، والمساعدة في تبادل وجهات النظر، وتبادل المعلومات بشفافية ونظام، والعمل على وضع استراتيجيات وطنية مشتركة تراعي المصالح المدنية والعسكرية لتوحيد الرؤى وتحقيق التكامل بين الجانبين. كما يقوم المجلس بالمساعدة على تنفيذ برامج مشتركة مثل نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج للمقاتلين السابقين. ويمكن للمجلس أيضاً معالجة المظالم والشكاوى بإنشاء آلية لتلقي ومعالجة شكاوى المدنيين المتعلقة بسلوك القوات المسلحة والدعم السريع أثناء الحرب، والتحقيق في أي انتهاكات مزعومة لحقوق الإنسان من قبل أطراف الحرب ومحاسبة المسؤولين عنها. ويقوم المجلس التنسيقي أيضاً بإعداد برامج توعية للمجتمع المدني حول دور ومهام القوات المسلحة في وقت السلم. وعلى قدر كبير من الأهمية يقوم المجلس بوضع الأسس للإصلاح المؤسسي بالمساهمة في وضع استراتيجيات لإعادة هيكلة القوات المسلحة وإصلاح قطاع الأمن، وتعزيز الرقابة المدنية على المؤسسة العسكرية من خلال الآليات الشفافة والمساءلة.
وحتى يؤدي المجلس التنسيقي المدني العسكري مهامه بالشكل الأمثل تكون لائحته التنظيمية كالآتي:
اللائحة التنظيمية للمجلس التنسيقي المدني العسكري:
المادة الأولى: تشكيل المجلس:
يتكون المجلس التنسيقي من 50 عضواً موزعين كالآتي:
رئيس المجلس: شخصية مدنية وطنية مستقلة يتم التوافق عليها.
نائب الرئيس: شخصية من العسكريين المتقاعدين.
5 ممثلين للقوات المسلحة.
5 ممثلين لقوات الدعم السريع.
5 ممثلين للجان المقاومة.
5 ممثلين لقوى الحرية والتغيير المجلس المركزي.
5 ممثلين للحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا لسلام السودان.
5 ممثلين للحركات المسلحة غير الموقعة على اتفاق جوبا لسلام السودان.
3 ممثلين لقوى الحرية والتغيير الكتلة الديمقراطية.
5 شخصيات وطنية مستقلة يتم التوافق عليها.
2 ممثلَين لمنظمات المجتمع المدني.
3 ممثلين لتجمع المهنيين.
3 ممثلين للقطاع الخاص.
2 ممثلَين لمخرجات مؤتمر سلام شرق السودان.
ملاحظات هامة:
• يجب مراعاة تمثيل المرأة والشباب في تشكيل المجلس.
• ينبغي اختيار الأعضاء بناءً على الكفاءة والخبرة والقدرة على بناء الجسور بين الأطراف المختلفة.
• يمكن الاستعانة بخبراء فنيين في مجالات محددة كالاقتصاد والأمن كمستشارين للمجلس.
المادة الثانية: مهام المجلس
• تنسيق الجهود بين المكونين المدني والعسكري لإعادة بناء الثقة.
• وضع استراتيجيات لإصلاح قطاع الأمن وإعادة هيكلة القوات المسلحة.
• تعزيز الرقابة المدنية على المؤسسة العسكرية من خلال آليات شفافة.
• معالجة المظالم والشكاوى المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان.
• التنسيق لتنفيذ برامج مشتركة لخدمة المجتمع وإعادة الإعمار.
المادة الثالثة: اجتماعات المجلس
يجتمع المجلس مرة كل أسبوعين بشكل دوري.
يمكن عقد اجتماعات طارئة بناءً على طلب ثلث الأعضاء.
المادة الرابعة: آلية اتخاذ القرارات
تتخذ القرارات بالتوافق كلما أمكن ذلك.
في حال تعذر التوافق، يتم التصويت بأغلبية الثلثين.
المادة الخامسة: اللجان الفرعية
يشكل المجلس اللجان الفرعية التالية:
• لجنة الإصلاح المؤسسي في القوات المسلحة.
• لجنة الوئام الوطني.
• لجنة إعادة الإعمار والتنمية.
المادة السادسة: الشفافية والمساءلة
تنشر محاضر اجتماعات المجلس للمواطنين.
يقدم المجلس تقارير دورية للرأي العام حول أنشطته وإنجازاته.
المادة السابعة: مدة عمل المجلس
يعمل المجلس لمدة عامين قابلة للتجديد لعام إضافي بموافقة ثلثي الأعضاء
المادة التاسعة: تعديل اللائحة:
يمكن تعديل هذه اللائحة بموافقة ثلثي أعضاء المجلس.
وتهدف هذه اللائحة إلى تنظيم عمل المجلس التنسيقي بشكل يضمن الشفافية والفعالية في إعادة بناء الثقة بين المكونين المدني والعسكري لتحقيق السلام والتحول المدني الديمقراطي.
المشاريع المشتركة لإعادة الثقة بين المدنيين والعسكريين:
لقد خلَّفت الحرب المدمرة ضغائن غائرة في نفوس جميع السودانيين الذين قاسوا من ويلات جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والسلب والنهب والتطهير العرقي. وتحقيقاً لاستعادة الثقة المفقودة بين المدنيين والعسكريين في السودان يمكن للمجلس التنسيقي المدني العسكري التوصية بإطلاق مشاريع خدمية وتنموية مشتركة بين المدنيين والعسكريين تشمل البنية التحتية لخدمة المجتمع، مثل بناء الطرق والمدارس والمستشفيات التي دمرتها الحرب، وإطلاق حملات مشتركة لمكافحة الأوبئة والأمراض المتوطنة، وتنفيذ مشاريع زراعية وصناعية مشتركة لتعزيز الاقتصاد الوطني. كما تشمل المواءمة أيضاً مشاريع أمنية وإنسانية تتضمن إنشاء قوة مشتركة لحماية المدنيين، تضم عناصر من الجيش والشرطة والمجتمع المدني، وتشكيل لجان مشتركة لإدارة الأزمات والكوارث الطبيعية، وتنفيذ برامج مشتركة لنزع السلاح وإعادة الإدماج للمقاتلين السابقين. وفي الجانب السياسي والإداري يمكن تشكيل مجالس استشارية مشتركة لصياغة السياسات العامة، وإنشاء آليات مشتركة للرقابة على أداء المؤسسات الحكومية، وتنظيم ورش عمل وندوات مشتركة لمناقشة القضايا الوطنية الهامة. أما الجانب الاقتصادي فيشمل تحويل الشركات العسكرية إلى شركات مساهمة عامة يشارك فيها المدنيون، وإنشاء صناديق استثمار مشتركة لدعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة لفائدة المدنيين المتضررين، وتشكيل لجان مشتركة لمكافحة الفساد وتعزيز الشفافية. أما المشاريع الثقافية والتعليمية المشتركة بين المدنيين والعسكريين لاستعادة الثقة المفقودة بينهما فتشمل برامج تبادل بين الجامعات المدنية والكليات العسكرية، وإقامة فعاليات ثقافية ورياضية مشتركة لتعزيز التواصل الاجتماعي، وإطلاق حملات توعية مشتركة حول أهمية الوحدة الوطنية والتعايش السلمي لرأب التصدع العميق الذي خلفته الحرب. وغني عن القول إن نجاح هذه المشاريع المشتركة يتطلب إرادة حقيقية من المدنيين والعسكريين للتغلب على الخلافات وبناء الثقة المتبادلة. كما أن استمرار هذه المشاريع مرهون بتحقيق نتائج ملموسة تعود بالنفع على المواطنين الذين روَّعتهم الحرب وتساهم في تحقيق الاستقرار والتنمية في السودان.
melshibly@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: المؤسسة العسکریة المجلس التنسیقی القوات المسلحة الدعم السریع جرائم الحرب فی السودان من السیاسة بناء الثقة
إقرأ أيضاً:
لغز الـ 2.3 مليار دولار المفقودة: كيف يمول الذهب حرب السودان
تقرير: sudan peace tracker
التغيير: ترجمة غير رسمية
بعد عامين من اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، أصبحت ثروة البلاد بمثابة بؤرة صراع عنيف بين الفصائل المتحاربة والجهات الفاعلة الخارجية، مما يعكس السباق الدولي على مواردها الثمينة، مع ظهور الذهب كمصدر أساسي لتمويل الحرب.
وفي ظل الديناميكيات الجيوسياسية المتغيرة، أصبح السودان هدفًا استراتيجيًا للدول والشركات المتعددة الجنسيات التي تسعى إلى الاستيلاء على ثرواته، مما أدى إلى تأجيج الحرب المدمرة التي أسفرت عن واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في العصر الحديث
خريطة الذهبالسودان هو أحد أكبر الدول المنتجة للذهب في أفريقيا، حيث توجد رواسب الذهب في 14 ولاية من أصل 18 ولاية. يتركز تعدين الذهب في ولايات نهر النيل والشمال، الممتدة من وادي حلفا إلى عطبرة، وكذلك في الولايات الشرقية الثلاث، وأبرزها ولاية البحر الأحمر، حيث توجد رواسب الذهب على طول ساحل البحر الأحمر وعبر تلال البحر الأحمر. كما يتم تعدين الذهب في ولاية النيل الأزرق. بالإضافة إلى ذلك، تنتشر مناجم الذهب على نطاق واسع في كردفان وولايات دارفور الثماني، وهي مناطق صراع وتظل خارج سيطرة الحكومة المتحالفة مع الجيش في بورتسودان. لا يزال مدى التعدين في هذه المناطق غير معروف، ومن غير الواضح ما إذا كان الإنتاج مستمرًا كما كان من قبل وسط الصراع الدائر.
وفقًا لبيانات الحكومة، تقدر احتياطيات الذهب المكتشفة في السودان بنحو 1550 طنًا. ومع ذلك، يشكك العديد من الجيولوجيين في هذا الرقم، بحجة أنه يفتقر إلى الدقة العلمية بسبب غياب منهجية منظمة وحديثة في قطاع التعدين. إن الفوضى والفساد المنتشران يجعلان من الصعب تحديد احتياطيات الذهب المكتشفة ومستويات الإنتاج الفعلية حتى الآن بشكل دقيق.
التعدين التقليديوفقًا لشركة الموارد المعدنية السودانية، وهي الهيئة التنظيمية الحكومية لإنتاج المعادن، فإن 80% من إنتاج الذهب في البلاد يتم استخراجه من قبل عمال المناجم التقليديين، في حين تمثل الشركات النسبة المتبقية البالغة 20%.
يعمل عمال المناجم التقليديون في ظروف بيئية شديدة الخطورة، باستخدام مواد كيميائية سامة مثل الزئبق والسيانيد. وهم يعتمدون على العمالة المأجورة لاستخراج الصخور الحاملة للذهب، والتي يتم طحنها بعد ذلك في المطاحن للحصول على المعدن الثمين. يتم الحصول على هذه الصخور من حفر يتم تحديدها باستخدام أجهزة الكشف عن المعادن التي تكشف عن رواسب الذهب في المنطقة.
وسط الشكوك المحيطة بدقة البيانات الصادرة عن الهيئة التنظيمية الحكومية، تشير تقديرات مختلفة إلى أن حوالي مليوني سوداني يشاركون في التعدين الحرفي (التقليدي). وقد يكون إنتاج الذهب الفعلي أعلى من ذلك، خاصة في غياب الشركات الدولية المتخصصة. ويرجع هذا في المقام الأول إلى سيطرة الجيش على القطاع وجهوده لاحتكار الذهب، إلى جانب الفساد المستشري. وقد أدت هذه العوامل إلى جعل الإطار القانوني غير جذاب للشركات الدولية التي تتطلع إلى دخول هذه السوق الواسعة، الأمر الذي تفاقم بسبب عدم الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي.
ومع ذلك، لا تزال بعض الشركات غير السودانية تعمل في هذا القطاع، وغالباً ما ترتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بشخصيات عسكرية مؤثرة. وتظل شركات التعدين من ثلاث دول نشطة: التحالف للتعدين وكوش للاستكشاف والإنتاج، وهما شركتان روسيتان؛ ومجموعة مناجم للتعدين المغربية؛ وشركة أورشاب لتعدين الذهب الأردنية. وتعمل كل هذه الشركات في مناطق خاضعة للسيطرة العسكرية، وخاصة بين ولايتي شمال السودان والبحر الأحمر.
سر عائدات الذهبفي الرابع والعشرين من فبراير/شباط من هذا العام، كشفت شركة الموارد المعدنية السودانية أن إنتاج السودان من الذهب ارتفع إلى 65 طناً في عام 2024، مقارنة بـ 34.5 طناً في عام 2022، العام الذي سبق الحرب، بزيادة هائلة بلغت 88.4%. وذكرت الشركة أن الإيرادات بلغت 1.6 مليار دولار، مقارنة بـ 2.02 مليار دولار في عام 2022، مسجلة انخفاضاً بنسبة 26.3%.
جاء الإعلان بمثابة صدمة لمن راجع بيانات الشركة وإيراداتها.
وقالت مصادر تعمل في قطاع التعدين ببورتسودان، طلبت عدم ذكر اسمها، إن ما كشفته الشركة يكشف عن حجم الفساد والتدهور الذي طال كل مناحي الحياة منذ الحرب.
أبدى خبراء ومراقبون استغرابهم من أن 65 طناً من الذهب في 2024 حققت إيرادات بقيمة 1.6 مليار دولار، بينما حققت 34.5 طناً في 2022 إيرادات بقيمة 2.02 مليار دولار، خاصة وأن أسعار الذهب ارتفعت بنسبة 30% مقارنة بعام 2022.
وأوضح مالك إحدى شركات التعدين أنه بناءً على متوسط أسعار الذهب في 2024، فإن قيمة 65 طناً من الذهب يجب أن تبلغ نحو 3.9 مليار دولار.
وبين الـ1.6 مليار دولار التي أعلنتها شركة الثروة المعدنية والـ3.9 مليار دولار التي تمثل القيمة الحقيقية لكمية الذهب المعلنة حسب أسعار السوق العالمية، يبقى السؤال: أين ذهبت كل هذه الأموال؟
2.3 مليار دولار مفقودةولم تقدم الشركة تفسيراً لهذا اللغز أو توضح التناقض الصارخ في بياناتها، بل اكتفت بتكرار تصريحات تهنئ نفسها على سياساتها التي أدت على ما يبدو إلى زيادة الإنتاج. وقال مدير عام الشركة محمد طاهر عمر في تصريحات صحفية إن زيادة الإنتاج جاءت نتيجة لقرار الحكومة بخفض الرسوم المفروضة على التعدين التقليدي من 28% إلى 20% وعلى الشركات إلى 18%.
وثيقةأفادت مصادر حكومية موثوقة من بورتسودان أن الفارق بين الإيرادات التي أعلنتها شركة التعدين والإيرادات الفعلية للذهب ذهب إلى الجيش. ويشمل ذلك الرسوم التي يدفعها عمال المناجم والشركات التقليدية كإتاوات للحكومة التي تمتلك الأرض وتستحق 28٪ من الإنتاج. بالإضافة إلى ذلك، يشارك الجيش في تجارة الذهب من خلال التعدين المباشر، وامتلاك عدد من المناجم، فضلاً عن شراء الذهب من عمال المناجم. وهذا يفسر المبلغ المفقود بين الإيرادات المعلنة والقيمة الحقيقية للذهب.
كشف مصدر عسكري مقرب أن الجيش وقع عقودًا لشراء أسلحة وطائرات بدون طيار وطائرات مقاتلة، بما في ذلك طائرات J-10C من الصين وطائرات Su-57 من روسيا. وأوضح المصدر أن قيمة هذه الصفقات تساوي تقريبًا المبلغ المفقود وأنه تم الاتفاق على الدفع بالذهب.
ويتوافق تصريح المصدر العسكري مع تعليق منسوب إلى مدير عام شركة الموارد المعدنية السودانية، نُشر على موقع الجزيرة، حيث قال: “لقد ساهمت الشركة في دعم المجهود الحربي، كما عززت دورها في التنمية الاقتصادية”.
الفساد والتهريبتحدثنا إلى عمال مناجم وتجار ذهب ومراقبين، واتفق الجميع على أن أرقام الإنتاج التي أعلنتها شركة التعدين تمثل أقل من 25 إلى 30% من إجمالي الإنتاج. ويتم تهريب جزء كبير من الإنتاج إلى خارج البلاد.
لكن عادل إبراهيم، الجيولوجي المحترم والموثوق الذي عمل في عدة شركات دولية خارج السودان قبل أن يعود بعد الثورة ويعين وزيراً للطاقة في الحكومة المدنية الانتقالية برئاسة عبد الله حمدوك، شاركنا وجهة نظره. وهو أيضاً خبير في قطاع التعدين، أخبرنا أنه يعتقد أن الذهب المهرب يشكل 60٪ من إجمالي الإنتاج.
أفاد مالك إحدى شركات الذهب، الذي طلب عدم ذكر اسمه، أن القيمة الفعلية لإنتاج الذهب تقدر بما بين 4.5 و5 مليارات دولار سنويًا، مع تحويل 3 إلى 3.5 مليار دولار إلى التهريب والفساد وجيوب الجيش.
خلال جولة أخيرة في ولاية الشمال لدعم المجهود الحربي:
https://sudanpeacetracker.com/wp-content/uploads/2025/03/Gold-report-SPT-2.mp4كشف وزير المالية الحالي جبريل إبراهيم أنه زار دولة مجاورة (في إشارة إلى مصر) وعلم أنها حصلت على 48 طنًا من الذهب السوداني عن طريق التهريب.
وهذا يثير سؤالا حاسما: إذا كان التهريب إلى مصر وحدها يشكل 48 طنا من الذهب سنويا، فكم من الذهب يتم تهريبه إلى دول أخرى عبر مطار بورتسودان والمطارات العسكرية الأخرى؟ وكم من الذهب تستخرجه الشركات الروسية من السودان، خاصة وأن السودان لم يعد لديه مصفاة للذهب للقياس بعد تدمير مصفاة الخرطوم بسبب الحرب؟ ويظل الذهب أحد أهم مصادر تمويل الحرب في السودان، حيث يتم بيعه لشراء الأسلحة وتمويل العمليات العسكرية، مما يؤدي إلى إطالة أمد الصراع وتعميق معاناة المدنيين. وطالما يتم استخدام هذا المورد القيم لتأجيج العنف بدلاً من تعزيز الاستقرار والتنمية، فإن احتمالات إنهاء الحرب ستظل بعيدة، وستظل البلاد أسيرة دائرة الفساد والدمار.
الوسومالتعدين التقليدي التهريب الحرب الذهب السودان الشركة السودانية للموارد المعدنية الفساد