وَشِيْجَةُ المَدَنيين بالعَسْكَريين – مِنْ شَرَاكَة لمُنسَّقِيَّة
تاريخ النشر: 3rd, January 2025 GMT
وَشِيْجَةُ المَدَنيين بالعَسْكَريين – مِنْ شَرَاكَة لمُنسَّقِيَّة
Civilian-Military Nexus – From Partnership to Coordination
بروفيسور مكي مدني الشبلي
المدير التنفيذي – مركز مأمون بحيري، الخرطوم
استحالة تحقيق انتقال سلمي واقعي بعد الحرب دون تنسيق (ليس شراكة) بين المدنيين والعسكريين:
شهدت الشراكة السابقة بين المدنيين والعسكريين توترات ومرارات غائرة خلال فترة المجلس العسكري الانتقالي التي تخللتها فاجعة فض اعتصام القيادة العامة في 3 يونيو 2019، وتواصلت هذه التوترات بعد توقيع الوثيقة الدستورية لتقاسم السلطة بين المؤسسة العسكرية وقوى الحرية والتغيير في 17 أغسطس 2019، وتواصل تردي العلاقات بين الطرفين بسبب انقلاب 25 ديسمبر 2021، وبلغ التوتر ذروته بعد حرب 15 أبريل 2023.
وعلى الرغم من هذه الظروف القاهرة التي تحتم التنسيق بين المدنيين والعسكريين لتحقيق الانتقال السلمي السلس، إلا أن التجربة السابقة تفرض تأطير هذا التنسيق بما يحقق سبل نجاحه لبلوغ الغايات المأمولة.
محددات الوئام بين المدنيين والعسكريين لإنهاء حرب السودان:
تحقيقاً لوشيجة فاعلة بين المدنيين والعسكريين (وليس شراكة) لإنهاء حرب السودان، يجب مراعاة توزيع متوازن للصلاحيات بين الطرفين، وتحديد واضح لأدوار كل طرف لتجنب التداخل والصراع، والتزام الشفافية والمساءلة، والتوافق على آليات واضحة للرقابة المدنية على المؤسسة العسكرية، ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات من الطرفين، والإصلاح المؤسسي لمعالجة التشرذم البنيوي الذي شتت المدنيين والعسكريين على حد سواء، الأمر الذي يقتضي إعادة هيكلة القوات المسلحة بإدماج الدعم السريع والحركات المسلحة، وإعادة هيكلة المدنيين بإدماج الكتل المتناحرة في كيان مؤسسي مناهض للحرب ومؤازر للسلام وقادر على إدارة الدولة، وإنشاء قنوات اتصال دائمة بين المدنيين والعسكريين بعقد مؤتمرات وحوارات شاملة لمعالجة القضايا الخلافية لمعالجة جذور الحرب الاقتصادية والاجتماعية. وفوق كل ذلك يجب وضع جدول زمني واضح للانتقال إلى الحكم المدني الكامل يلزم العسكريين بالانسحاب التدريجي من السلطة تحت إشراف وسطاء دوليين وإقليميين لضمان تنفيذ الاتفاقيات، بحيث يلتزم الشركاء الإقليميين والدوليين بدعم الانتقال نحو الحكم المدني الديمقراطي سياساً واقتصادياً. ولا شك أن نجاح هذ التواؤم بين المدنيين والعسكرين الذي تفرضه أهوال الحرب يتطلب مرونة من الطرفين وإرادة حقيقية لتجاوز الخلافات. كما أن استمرار الوئام مرهون بإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح قبل الانقلاب والحرب لتحقيق تطلعات الشعب السوداني في الحرية والسلام والعدالة التي قدم في سبيلها تضحيات جسيمة في ثورة ديسمبر الظافرة.
مأزق المواءمة بين محاسبة العسكريين مرتكبي جرائم الحرب، وقبولهم بوقف القتال والخروج من السياسة:
يتطلب التوفيق بين محاسبة مرتكبي جرائم الحرب وقبول العسكريين بوقف القتال والخروج من السياسة في السودان نهجاً متوازناً يجمع بين العدالة والمصالحة والتسامي لضمان تحقيق السلام والاستقرار. ولتحقيق هذا التوازن الصعب ينبغي وضع آليات للمحاسبة التدريجية بإنشاء لجان تحقيق وطنية ودولية محايدة للتحقيق في جرائم الحرب والانتهاكات الإنسانية، بمشاركة بعثة تقصي الحقائق التي أنشأها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وضمان توفير الدعم المالي والسياسي لهذه اللجان لتتمكن من أداء مهامها بفاعلية، مع التركيز على جمع الأدلة وتحديد المسؤولين الرئيسيين عن الجرائم، وتقديم ضمانات قانونية وسياسية للعسكريين الذين يوافقون على وقف القتال والخروج من السياسة، مثل العفو المحدود أو الحصانة المشروطة، شريطة تعاونهم مع آليات العدالة الانتقالية، وضرورة دمج القوات المسلحة وقوات الدعم السريع والحركات المسلحة في جيش وطني موحد تحت قيادة مدنية، مع إصلاحات هيكلية ومشاركة إقليمية ودولية لضمان عدم تكرار التدخل العسكري في السياسة، واعتماد نموذج للعدالة الانتقالية يوازن بين المحاسبة والمصالحة الوطنية، بما يشمل تعويض الضحايا وإعادة تأهيل المجتمعات المتضررة من فظائع الحرب، وإنشاء مفوضيات مستقلة لمعالجة قضايا الانتهاكات السابقة، بما يضمن مشاركة المدنيين والعسكريين في صياغة مستقبل مشترك، وممارسة ضغوط دولية على الأطراف المتحاربة لوقف الأعمال العدائية، مع تقديم حوافز مثل رفع العقوبات أو المساعدات الاقتصادية مقابل الالتزام بالسلام وتسليم السلطة للمدنيين، ودعم جهود بناء السلام من خلال الوساطة الدولية والإقليمية، مثل الآلية الثلاثية (الأمم المتحدة، الاتحاد الأفريقي، الإيقاد) لتسهيل تنفيذ الاتفاقات السياسية وضمان الالتزام بها، ووضع إطار زمني مُلزِم بتحديد جدول موقوت لتنفيذ الإصلاحات الأمنية والسياسية، بما يشمل خروج الجيش من السياسة خلال فترة انتقالية محددة لا تقل عن خمس سنوات تتيح بناء مؤسسات مدنية قوية ومستدامة.
إنشاء المجلس التنسيقي المدني العسكري:
شهدت الفترة التي أعقبت فض الاعتصام في يونيو 2019 تردي العلاقات بين المدنيين والعسكريين زاد من حدتها انقلاب ديسمبر 2021 وحرب أبريل 2023. وعليه فإن إنشاء مجلس تنسيقي بين المدنيين والعسكريين بعد وقف إطلاق النار سيساهم في خلق بيئة من الانفتاح والتعاون بينهما، مما يمهِّد الطريق لإعادة بناء الثقة تدريجياً بعد فترات الصراع والانقسام. ولبلوغ هذه الغاية تُوَكل للمجلس مهمة تعزيز التواصل والتفاهم المباشر بين الجانبين، والمساعدة في تبادل وجهات النظر، وتبادل المعلومات بشفافية ونظام، والعمل على وضع استراتيجيات وطنية مشتركة تراعي المصالح المدنية والعسكرية لتوحيد الرؤى وتحقيق التكامل بين الجانبين. كما يقوم المجلس بالمساعدة على تنفيذ برامج مشتركة مثل نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج للمقاتلين السابقين. ويمكن للمجلس أيضاً معالجة المظالم والشكاوى بإنشاء آلية لتلقي ومعالجة شكاوى المدنيين المتعلقة بسلوك القوات المسلحة والدعم السريع أثناء الحرب، والتحقيق في أي انتهاكات مزعومة لحقوق الإنسان من قبل أطراف الحرب ومحاسبة المسؤولين عنها. ويقوم المجلس التنسيقي أيضاً بإعداد برامج توعية للمجتمع المدني حول دور ومهام القوات المسلحة في وقت السلم. وعلى قدر كبير من الأهمية يقوم المجلس بوضع الأسس للإصلاح المؤسسي بالمساهمة في وضع استراتيجيات لإعادة هيكلة القوات المسلحة وإصلاح قطاع الأمن، وتعزيز الرقابة المدنية على المؤسسة العسكرية من خلال الآليات الشفافة والمساءلة.
وحتى يؤدي المجلس التنسيقي المدني العسكري مهامه بالشكل الأمثل تكون لائحته التنظيمية كالآتي:
اللائحة التنظيمية للمجلس التنسيقي المدني العسكري:
المادة الأولى: تشكيل المجلس:
يتكون المجلس التنسيقي من 50 عضواً موزعين كالآتي:
رئيس المجلس: شخصية مدنية وطنية مستقلة يتم التوافق عليها.
نائب الرئيس: شخصية من العسكريين المتقاعدين.
5 ممثلين للقوات المسلحة.
5 ممثلين لقوات الدعم السريع.
5 ممثلين للجان المقاومة.
5 ممثلين لقوى الحرية والتغيير المجلس المركزي.
5 ممثلين للحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا لسلام السودان.
5 ممثلين للحركات المسلحة غير الموقعة على اتفاق جوبا لسلام السودان.
3 ممثلين لقوى الحرية والتغيير الكتلة الديمقراطية.
5 شخصيات وطنية مستقلة يتم التوافق عليها.
2 ممثلَين لمنظمات المجتمع المدني.
3 ممثلين لتجمع المهنيين.
3 ممثلين للقطاع الخاص.
2 ممثلَين لمخرجات مؤتمر سلام شرق السودان.
ملاحظات هامة:
• يجب مراعاة تمثيل المرأة والشباب في تشكيل المجلس.
• ينبغي اختيار الأعضاء بناءً على الكفاءة والخبرة والقدرة على بناء الجسور بين الأطراف المختلفة.
• يمكن الاستعانة بخبراء فنيين في مجالات محددة كالاقتصاد والأمن كمستشارين للمجلس.
المادة الثانية: مهام المجلس
• تنسيق الجهود بين المكونين المدني والعسكري لإعادة بناء الثقة.
• وضع استراتيجيات لإصلاح قطاع الأمن وإعادة هيكلة القوات المسلحة.
• تعزيز الرقابة المدنية على المؤسسة العسكرية من خلال آليات شفافة.
• معالجة المظالم والشكاوى المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان.
• التنسيق لتنفيذ برامج مشتركة لخدمة المجتمع وإعادة الإعمار.
المادة الثالثة: اجتماعات المجلس
يجتمع المجلس مرة كل أسبوعين بشكل دوري.
يمكن عقد اجتماعات طارئة بناءً على طلب ثلث الأعضاء.
المادة الرابعة: آلية اتخاذ القرارات
تتخذ القرارات بالتوافق كلما أمكن ذلك.
في حال تعذر التوافق، يتم التصويت بأغلبية الثلثين.
المادة الخامسة: اللجان الفرعية
يشكل المجلس اللجان الفرعية التالية:
• لجنة الإصلاح المؤسسي في القوات المسلحة.
• لجنة الوئام الوطني.
• لجنة إعادة الإعمار والتنمية.
المادة السادسة: الشفافية والمساءلة
تنشر محاضر اجتماعات المجلس للمواطنين.
يقدم المجلس تقارير دورية للرأي العام حول أنشطته وإنجازاته.
المادة السابعة: مدة عمل المجلس
يعمل المجلس لمدة عامين قابلة للتجديد لعام إضافي بموافقة ثلثي الأعضاء
المادة التاسعة: تعديل اللائحة:
يمكن تعديل هذه اللائحة بموافقة ثلثي أعضاء المجلس.
وتهدف هذه اللائحة إلى تنظيم عمل المجلس التنسيقي بشكل يضمن الشفافية والفعالية في إعادة بناء الثقة بين المكونين المدني والعسكري لتحقيق السلام والتحول المدني الديمقراطي.
المشاريع المشتركة لإعادة الثقة بين المدنيين والعسكريين:
لقد خلَّفت الحرب المدمرة ضغائن غائرة في نفوس جميع السودانيين الذين قاسوا من ويلات جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والسلب والنهب والتطهير العرقي. وتحقيقاً لاستعادة الثقة المفقودة بين المدنيين والعسكريين في السودان يمكن للمجلس التنسيقي المدني العسكري التوصية بإطلاق مشاريع خدمية وتنموية مشتركة بين المدنيين والعسكريين تشمل البنية التحتية لخدمة المجتمع، مثل بناء الطرق والمدارس والمستشفيات التي دمرتها الحرب، وإطلاق حملات مشتركة لمكافحة الأوبئة والأمراض المتوطنة، وتنفيذ مشاريع زراعية وصناعية مشتركة لتعزيز الاقتصاد الوطني. كما تشمل المواءمة أيضاً مشاريع أمنية وإنسانية تتضمن إنشاء قوة مشتركة لحماية المدنيين، تضم عناصر من الجيش والشرطة والمجتمع المدني، وتشكيل لجان مشتركة لإدارة الأزمات والكوارث الطبيعية، وتنفيذ برامج مشتركة لنزع السلاح وإعادة الإدماج للمقاتلين السابقين. وفي الجانب السياسي والإداري يمكن تشكيل مجالس استشارية مشتركة لصياغة السياسات العامة، وإنشاء آليات مشتركة للرقابة على أداء المؤسسات الحكومية، وتنظيم ورش عمل وندوات مشتركة لمناقشة القضايا الوطنية الهامة. أما الجانب الاقتصادي فيشمل تحويل الشركات العسكرية إلى شركات مساهمة عامة يشارك فيها المدنيون، وإنشاء صناديق استثمار مشتركة لدعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة لفائدة المدنيين المتضررين، وتشكيل لجان مشتركة لمكافحة الفساد وتعزيز الشفافية. أما المشاريع الثقافية والتعليمية المشتركة بين المدنيين والعسكريين لاستعادة الثقة المفقودة بينهما فتشمل برامج تبادل بين الجامعات المدنية والكليات العسكرية، وإقامة فعاليات ثقافية ورياضية مشتركة لتعزيز التواصل الاجتماعي، وإطلاق حملات توعية مشتركة حول أهمية الوحدة الوطنية والتعايش السلمي لرأب التصدع العميق الذي خلفته الحرب. وغني عن القول إن نجاح هذه المشاريع المشتركة يتطلب إرادة حقيقية من المدنيين والعسكريين للتغلب على الخلافات وبناء الثقة المتبادلة. كما أن استمرار هذه المشاريع مرهون بتحقيق نتائج ملموسة تعود بالنفع على المواطنين الذين روَّعتهم الحرب وتساهم في تحقيق الاستقرار والتنمية في السودان.
melshibly@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: المؤسسة العسکریة المجلس التنسیقی القوات المسلحة الدعم السریع جرائم الحرب فی السودان من السیاسة بناء الثقة
إقرأ أيضاً:
السودان.. نظام رعاية صحية يئن تحت الحرب
مع استمرار الحرب في السودان، يعيش القطاع الصحي أزمة غير مسبوقة، مع نقص الأدوية والعاملين الصحيين، والاستهداف للمؤسسات الصحية من قبل قوات الدعم السريع.
ومنذ منتصف أبريل/نيسان 2023، يخوض الجيش السوداني بقيادة رئيس مجلس السيادة الانتقالي قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، حربا خلفت أكثر من 20 ألف قتيل وما يزيد على 14 مليون نازح ولاجئ، وفق الأمم المتحدة والسلطات المحلية، بينما قدر بحث لجامعات أميركية عدد القتلى بنحو 130 ألفا.
واندلعت حرب السودان قبل انتهاء عملية سياسية بناء على "الاتفاق الإطاري" الذي وقعه في 5 ديسمبر/كانون الأول 2022 المكون العسكري في السلطة الانتقالية آنذاك وقوى مدنية أبرزها "الحرية والتغيير-المجلس المركزي"، وفشلت فيها الأطراف بحل مسألة دمج الدعم السريع داخل المؤسسة العسكرية.
استهداف الدعم السريع للقطاع الصحيتشير عدة تقارير إلى استهداف قوات الدعم السريع للمنشآت الصحية في السودان. على سبيل المثال في ديسمبر/كانون الأول 2024 قالت منظمة أطباء بلا حدود، إن قوات الدعم السريع استهدفت مستشفى بشائر جنوبي العاصمة السودانية الخرطوم، بإطلاق جنودها الرصاص داخل المستشفى.
إعلانوأوضحت المنظمة الدولية، في بيان: "أطلق المهاجمون النار داخل قسم الطوارئ، وهددوا الطاقم الطبي بشكل مباشر، وعطلوا الرعاية المنقذة للحياة بشكل خطير".
وأضافت: "ندين بشدة التوغل العنيف لقوات الدعم السريع في غرفة الطوارئ بمستشفى بشائر التعليمي في جنوب الخرطوم" الأربعاء.
ودعت المنظمة قوات الدعم السريع إلى احترام حياد المرافق الطبية وسلامة العاملين في مجال الرعاية الصحية.
وفي البيان، قال رئيس بعثة أطباء بلا حدود في السودان صامويل ديفيد ثيودور: "دخل العديد من جنود قوات الدعم السريع غرف الطوارئ وبدأ بعضهم في إطلاق النار على العاملين الطبيين، وهددوا المرضى وموظفي أطباء بلا حدود ووزارة الصحة".
وفي أغسطس/آب 2024 قالت وكالة الأنباء السودانية إن قوات الدعم السريع قصفت مستشفى الدايات في أم درمان والمناطق المجاورة له. وأوضحت الوكالة أن عددا كبيرا من القذائف سقطت في المنطقة وألحقت دمارا واسعا بالمباني.
وأشارت إلى أن لجنة الطوارئ الصحية لولاية الخرطوم دانت القصف واعتبرته دليلا آخر على استهداف قوات الدعم المرافق الصحية وتعطيل جهود تقديم الخدمات العلاجية للمواطنين.
وقال محمد إبراهيم رئيس اللجنة الناطق الرسمي باسم وزارة الصحة بولاية الخرطوم إن قوات الدعم قامت -في وقت سابق- بنهب واسع لأجهزة ومعدات مستشفى الدايات الذي يعد أكبر مستشفى تخصصي بالبلاد.
فظائعوقبل أيام، نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية أدلة مدعومة بمقاطع فيديو، جمعها فريق التحقيقات المرئية التابع لها، توثق فظائع قالت إن قوات الدعم السريع ارتكبتها في السودان خلال عام ونيف منذ اندلاع الحرب بينها وبين الجيش السوداني في 15 أبريل/نيسان 2023.
وتكشف الأدلة المرئية التي جمعتها الصحيفة الأميركية وحللتها على مدى أشهر، هويات قادة قوات الدعم السريع الذين كان جنودهم يرتكبون "فظائع" تحت أنظارهم في جميع أنحاء السودان.
إعلانوقالت إن هذا التحقيق الاستقصائي الموثق بلقطات مصورة، أتاح لها تحديد 10 من قادة قوات الدعم السريع أثناء إشرافهم على جرائم حرب محتملة وتحديد مواقع العديد من مسارح عملياتهم الأخرى، منوهة إلى أن قائدهم الأعلى الفريق محمد حمدان دقلو الشهير بحميدتي، هو الذي قد يتحمل المسؤولية الكاملة.
انعدام الأمنوتقول منظمة الصحة العالمية إن انعدام الأمن يجعل تقديم الرعاية الصحية أكثر صعوبة. فأكثر من ثلثي المستشفيات الرئيسية في المناطق المتضررة أصبحت خارج الخدمة، والمستشفيات التي لا تزال تعمل معرضة لخطر الإغلاق بسبب نقص الموظفين الطبيين والإمدادات والمياه النظيفة والكهرباء. كما أن الهجمات المتكررة على مرافق الرعاية الصحية تمنع المرضى والعاملين الصحيين من الوصول إلى المستشفيات والحصول على العلاج، حيث يتم استهداف المرافق الصحية والمستودعات الطبية ونقل الإمدادات والعاملين الصحيين. كما تعطل نظام مراقبة الأمراض، مما يشكل تحديا خطيرا للكشف عن تفشي الأمراض المعدية وتأكيدها..
وتضيف المنظمة -في منشور على موقعها تم تحديثه آخر مرة في 16 ديسمبر/كانون الأول 2024- أن ملايين الأشخاص قد نزحوا منذ بداية الصراع، داخل السودان ولكن أيضا في البلدان المجاورة، حيث فر الناس بحثا عن الأمان، في تشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى ومصر وإثيوبيا وجنوب السودان.
وتعمل منظمة الصحة العالمية، بالتعاون مع شركائها في مجال الصحة، بشكل مكثف على تنسيق الاستجابة الصحية، وتعزيز الرعاية.
من جهتها، تقول اللجنة الدولية للصليب الأحمر إن الهجمات المتكررة على المرافق الصحية والعاملين فيها لها عواقب وخيمة في ظل تفاقم أزمة الغذاء. وتعتبر مراكز الرعاية الصحية بالغة الأهمية للوقاية من سوء التغذية واكتشافه وعلاجه. كما أن قدرتها على العمل أمر حيوي بالنسبة للفئات الأكثر ضعفا، بما في ذلك الأمهات الحوامل والمرضعات والأطفال دون سن الخامسة.
إعلانوتقول أميلي شباط، التي تشرف على البرامج الصحية للجنة الدولية للصليب الأحمر في السودان: "إن الوضع في العيادات الصحية لا يمكن وصفه بالكلمات. فالمصابون يفتقرون إلى الأدوية والغذاء والمياه، وكبار السن والنساء والأطفال محرومون من العلاجات الأساسية مثل غسيل الكلى أو أدوية مرض السكري. والوضع يتدهور".
ووردت العديد من التقارير عن نهب وتخريب المرافق الصحية، والتهديدات والعنف الجسدي ضد الموظفين والمرضى، وحرمان المدنيين من خدمات الرعاية الصحية.
نظام صحي يعيش أزمة
نشرت المجلة الطبية البريطانية "بي إم جيه" (BMJ) تقريرا تحت عنوان "السودان.. من حرب منسية إلى نظام رعاية صحية مهجور" (Sudan: from a forgotten war to an abandoned healthcare system) في أكتوبر/تشرين الأول 2024.
وقال الباحثون أمل الأمين، سارة عبد الله، عبدة العبادي، المغيرة عبد الله، عبدة حكيم، نعيمة وقيع الله، جون باستورأنسا، إن السودان يواجه أسوأ أزمة إنسانية ناجمة عن الصراع في العالم، مع أكبر أزمة نزوح داخلي في العالم.
وأدت الحرب إلى تدمير البنية التحتية للرعاية الصحية في السودان، مما أدى إلى إغلاقات وانقطاعات في الخدمات الطبية، وخاصة في المناطق المتضررة من الحرب.
وتدفع الحرب البلاد إلى أزمة صحية ناشئة، مع الانتقال من عبء مزدوج إلى رباعي من الأمراض، بما في ذلك الأمراض المعدية وغير المعدية والإصابات الجسدية والصدمات.
وقال الباحثون إنه اعتبارا من فبراير/شباط 2024، يوجد في السودان 6.8 ملايين نازح داخلي، ينحدرون من 12 ولاية من أصل 18 ولاية في البلاد، ويعيش 19% منهم في مستوطنات غير رسمية، مما يجعلها أكبر أزمة نزوح داخلي في العالم، متجاوزة أزمة سوريا.
بالإضافة إلى ذلك، نزح 1.5 مليون شخص خارج البلاد، ويحتاج 24.8 مليون شخص، أي ما يقرب من نصف سكان البلاد، إلى مساعدات إنسانية وحماية. علاوة على ذلك، يواجه السودان جوعا حادا، حيث يعاني 18 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي الحاد، بما في ذلك 4 ملايين طفل دون سن الخامسة يعانون من سوء التغذية.
التأثير على نظام الرعاية الصحيةواجه النظام الصحي في السودان قبل الحرب، والذي يشمل إطار "مكونات" النظام الصحي لمنظمة الصحة العالمية – تقديم الخدمات، والتمويل، والقوى العاملة الصحية، والإمدادات الطبية، وأنظمة المعلومات الصحية والحوكمة- العديد من التحديات.
إعلانوقال الباحثون إن نظام الرعاية الصحية كان يعاني -قبل الحرب- من نقص التمويل، ويتسم بنقص حاد في القوى العاملة الصحية، فضلا عن التفاوتات الكبيرة في الوصول إلى الرعاية وجودتها وبأسعار معقولة.
وكان على 95.94% من السكان أن يدفعوا من جيوبهم الخاصة مقابل خدمات الرعاية الصحية. بالإضافة إلى ذلك، واجهت البلاد نقصا حادا في القوى العاملة الصحية، في عام 2019، بلغت كثافة الأطباء والممرضات والقابلات وغيرهم من العاملين الصحيين 3.6 و14 و9.1 لكل 10 آلاف شخص على التوالي، وهو أقل بكثير من الحد الأدنى لكثافة منظمة الصحة العالمية البالغ 22.8 من المهنيين الصحيين.
ومع ذلك، كانت البلاد تتقدم ببطء نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة. وأدت الحرب الحالية إلى تدهور النظام الصحي بشكل أكبر وأدت إلى ظهور تحديات جديدة أبرزها في تقديم الخدمات والقوى العاملة الصحية. وتأثرت البنية التحتية الصحية بشكل كبير، حيث أفادت منظمة الصحة العالمية أن 70% من مرافق الرعاية الصحية العامة والخاصة في الولايات المتضررة من الحرب أجبرت على الإغلاق بحلول نهاية عام 2023.
تشير بيانات وزارة الصحة الاتحادية السودانية إلى أن أكثر من 30% من المستشفيات العامة لم تعد في الخدمة في غضون عام من بدء الحرب. وعانت ولاية الخرطوم، مركز الصراع، من أكبر التأثيرات على نظامها الصحي. ومع اندلاع الصراع المسلح، لجأ الآلاف من السكان والمرضى من ولاية الخرطوم إلى ولاية الجزيرة، الواقعة على بعد نحو 200 كيلومتر جنوب شرق الخرطوم، وقد جذبتهم بنيتها التحتية الطبية المتاحة نسبيا وقربها. ومع ذلك، بحلول نهاية عام 2023، انتشر القتال إلى ولاية الجزيرة، مما عرض للخطر ليس فقط سكانها ولكن أيضا النازحين والمرضى الذين فروا إلى هناك بحثا عن الأمان. وعلى غرار ولاية الخرطوم، حيث أجبر 58.5% من المستشفيات العامة على الإغلاق، أدى توسع الصراع إلى ولاية الجزيرة إلى تكرار الهجمات ونهب المرافق الطبية. ونتيجة لذلك، أغلقت العديد من المستشفيات في ولاية الجزيرة (56.2% من المستشفيات العامة) أو أجبرت على تقليص خدماتها، مما أدى إلى تفاقم ظروف النازحين الحاليين.
إعلانوتقع مناطق أخرى متأثرة بالصراع في الأجزاء الجنوبية والغربية من البلاد، وخاصة في دارفور وكردفان. وفي هذه المناطق، تأثرت القدرات التشغيلية للمستشفيات في بعض الولايات بدرجات متفاوتة. تحملت ولاية وسط دارفور وطأة التأثير، حيث أجبر نحو 40% من مستشفياتها العامة على الإغلاق، وشهدت اضطرابات شديدة في تقديم الخدمات الطبية. وفي الوقت نفسه، واجهت شمال دارفور والنيل الأبيض وشمال كردفان تحديات معتدلة نسبيا، حيث أجبر 33% و26.8% و16.2% من مستشفياتها العامة على الإغلاق، على التوالي.
في هذه الولايات المتضررة من الصراع، تضطر المرافق الطبية إلى الإغلاق بسبب تضافر عوامل: انعدام الأمن المستمر، وتدمير ونهب المرافق الطبية، ونقص حاد في العاملين في مجال الرعاية الصحية، والتحديات في شراء الإمدادات الأساسية. على سبيل المثال، في المناطق المتضررة من الحرب حيث نهبت سيارات الإسعاف، لجأ السكان إلى استخدام عربات الحمير وعربات اليد كسيارات إسعاف مؤقتة لنقل المرضى.
وتعرضت أنظمة المعلومات الصحية في البلاد للخطر الشديد بسبب الاستهداف المتعمد لأنظمة الاتصالات والمعلومات الصحية، إلى جانب العنف ضد العاملين في مجال الرعاية الصحية. جعلت هذه الاضطرابات المستهدفة جمع البيانات والاتصالات أمرا صعبا للغاية، مما أعاق جمع بيانات أساسية حاسمة لنظام الصحة.
التحديات الجديدةقبل الحرب، كان الوضع الصحي في البلاد يتميز بعبء من الأمراض المعدية والأمراض غير المعدية، ولم تؤد الحرب إلى تدهور الوضع الصحي المتدهور في السودان فحسب، بل جلبت أيضا تحديات صحية جديدة، مثل الإصابات الجسدية والصدمات المرتبطة بالصراع.
يشير هذا إلى انتقال خطير من عبء مزدوج من الأمراض إلى عبء رباعي – يشمل الأمراض المعدية والأمراض غير المعدية والإصابات الجسدية والصدمات – مما أدى إلى تفاقم الأزمة الصحية.
إعلانوقد أدى ارتفاع عدد النازحين داخليا وانهيار الصرف الصحي البيئي إلى تفاقم عبء الأمراض المعدية بشكل كبير. ويتجلى هذا الوضع المتدهور في تفشي الكوليرا والحصبة وحمى الضنك وحمى شيكونغونيا وحتى ارتفاع حالات داء الكلب في المناطق التي مزقتها الحرب.
من المتوقع أن تزيد الحرب من مشاكل الأفراد الذين يعيشون مع الأمراض غير المعدية وزيادة قابلية العديد من الآخرين للإصابة بها. وتشمل العوامل التي تؤدي إلى تفاقم هذا النزوح وعدم الاستقرار، مما يؤدي إلى محدودية الوصول إلى الخدمات الطبية للفحص والمتابعة، والتحديات في الحصول على أدوية الأمراض المزمنة، وانقطاع العلاج والصعوبات في تخزين الأدوية مثل الأنسولين بشكل مناسب بسبب انقطاع التيار الكهربائي.
مبادرات
يقول الباحثون إنه على الرغم من التحديات المستمرة، كانت العديد من المبادرات ضرورية في دعم خدمات الرعاية الصحية والتخفيف من حدة الأزمات الإنسانية. وقد اجتذبت الجهود التي تقودها المجتمعات المحلية، ولا سيما المطابخ الخيرية المحلية التي تقدم وجبات مجانية للأفراد المحاصرين في مناطق الصراع، دعما كبيرا من الشتات السوداني، مما يسلط الضوء على الدور الأساسي للمشاركة المجتمعية في تخفيف المعاناة.
وقد دعت مبادرات أخرى مثل "نداء إعادة بناء وتأهيل المستشفيات" و"نداء الوقاية من سوء التغذية لدى الأمهات والأطفال"، الذي أطلقته وزارة الصحة الاتحادية إلى الدعم من الجهات المانحة المحلية والإقليمية والدولية. وقد حظيت هذه المبادرات بمشاركة مجتمعية كبيرة، واستقطبت مساهمات كبيرة من منظمات المجتمع المدني والجمعيات المهنية مثل جمعية الأطباء السودانيين الأميركيين (SAPA)، وجمعية الأطباء السودانيين في قطر.
وعلى الرغم من الجهود الوطنية المبذولة، فلا يزال نظام الرعاية الصحية في السودان أثناء الحرب يواجه تحديات كبيرة. وتشمل هذه التحديات صعوبات في التنفيذ والتنسيق، وبنية تحتية هشة للمعلومات الصحية، والقيود الناجمة عن الموارد المحدودة وغير المستقرة والمجهدة، ونقص العاملين في مجال الرعاية الصحية. وعلاوة على ذلك، تعاني الأزمة الإنسانية في السودان من نقص حاد في التمويل، حيث تقل تعهدات المانحين بشكل مثير للقلق عما هو مطلوب. يتم تمويل 5% فقط من نداء الأمم المتحدة للمساعدات للسودان، مما يترك فجوة مذهلة تبلغ 2.56 مليار دولار.
إعلانويقول الباحثون إن الصراع في السودان تسبب في أزمة إنسانية وصحية قاتمة. إن النزوح الجماعي والجوع الحاد والآثار النفسية والجسدية للحرب، إلى جانب تعطيل تقديم الخدمات الصحية بسبب إغلاق المستشفيات، كل ذلك يؤكد الحاجة الملحة إلى استجابة دولية قوية.
وعلى الرغم من هذه الظروف الخطيرة، فإن المرونة والإبداع اللذين أظهرهما العاملون الصحيون والمجتمعات السودانية جديران بالثناء.
ويختم الباحثون بالقول "لا ينبغي للمجتمع الصحي العالمي أن يسمح للسودان بأن يصبح "حربا منسية" – يجب تجنب هذا السيناريو، بدءا من استعادة نظامه الصحي".