شهادات من مشفى كمال عدوان: من ملجأ إلى ساحة للنار
تاريخ النشر: 3rd, January 2025 GMT
غزة– كان يركض قليلا ثم يسقط أرضا فيكمل زاحفا، ثم يعاود القيام، يدفعه إلى ذلك علمه أنه لا أحد سينقذه إن لم ينقذ نفسه. لم ينفك جابر عن الصراخ "أنا مصاب أنا مصاب" عسى أن يسمعه أحد فلا يموت بصمت ويقع فريسة لنهش الكلاب كما حدث مع أصدقائه.
20 دقيقة هي الوقت الذي عافر فيه جابر في معركة إنقاذ نفسه بعد إصابته ونازحين آخرين معه بقذيفة خلال عبورهم ما سمّاه جيش الاحتلال الإسرائيلي "الطريق الآمن" إلى غربي غزة، حين لم تشفع الرايات البيض لهم كي يمروا بسلام، فاستشهد من معه وبقي جابر متماسكا إلى أن سقط فاقدا الوعي قرب بوابة المستشفى.
بعد يومين من إصابة جابر، جازف شقيقه محمد بالخروج من مستشفى كمال عدوان إلى بيتهم للبحث عن الطعام والشراب، وفي طريق عودته عاجله رصاص من طائرة مسيرة على ناصية الطريق، لتسمع الأم أحدهم يصرخ "مصاب قرب البوابة". قال لسانها وصدقه قلبها "هذا ولدي"، قبل أن تهرول إليه دون أن تفكر بمخاطر ما تقوم به.
وصلت إليه وبدأت تسحبه بمفردها وهي تتمتم "اجيتك يمة"، قربته لمنطقة استطاع فيها شبان أن يساعدوها بسحبه، في مشهد أسطوري كانت بطلته سيدة انتصرت أمومتها على خوفها من جيش وترسانة عسكرية.
الشهيدة أم الجريحين
كانت إصابة محمد بالغة الخطورة، وخضع على إثرها لعملية جراحية من قبل أطباء غير مختصين بنوعية إصابته، لكنها كانت محاولة منهم لوقف النزف وإبقائه على قيد الحياة.
إعلانجلست أم جابر بين جسدي ولديها المصابين، أحدهما على السرير والآخر على الأرض لامتلاء الأسرة بالجرحى، يكبّلها العجز ويقرصها الجوع والبرد فلا طعام ولا شراب ولا أغطية، استغلت الأم غفوة ولديها وخرجت.
استيقظ الشابان يبحثان عن والدتهما، ليجيب صراخ أحد الشبان "هناك سيدة بعباءة وحجاب أسودين تنزف قرب البوابة"، صاح جابر "إنها أمي"، مسترجعا حديثا دار بينهما قبل ساعات حين طلب منها النزوح إلى غرب المدينة فرفضت حتى قال لها "إما أنك ستدفنينني هنا أو أنني سأدفنك"، أجابته حينها "إن شاء الله نلاقي مكان نندفن فيه".
يسترجع جابر أهوال حصار مستشفى كمال عدوان حين بدأ الاحتلال بعد منتصف الليل انتهاج سياسة الأرض المحروقة بالأحزمة النارية وتفجير الروبوتات المفخخة بمحيط المستشفى، ويقول للجزيرة نت "صواريخ كالمطر انهالت على المحيط من كل حدب وصوب".
بعد ساعات، حاصرت عشرات الآليات المستشفى وبدأت بالنداء على مديرها الدكتور حسام أبو صفية ثم نادت أشخاصا بأسمائهم لتسليم أنفسهم، لكنهم لم يكونوا موجودين".
توالت الأوامر بإجلاء الكادر الطبي ثم المرافقين ثم الجرحى الذين يستطيعون المشي، ثم طُلب من الممرضين إنزال الجرحى على الحمّالات ليبدأ إحراق المستشفى.
يروي جابر ترتيب الأحداث التي تبدو كفصول من فيلم دموي ضحيته أطباء ومرضى وأطفال عزل، فتحتَ تهديد السلاح أجبر الاحتلال كل من كان بمستشفى كمال عدوان على الخروج إلى مدرسة الفاخورة حيث نقاط التفتيش والتحقيق.
استغل المحاصرون في المناطق المحيطة بالمستشفى تدفق المئات منها ليخرجوا معهم فكانوا أكثر من 500 نازح كما يقول جابر، الذي تابع "كانوا يدخلوننا 20 فردا ثم 20 آخرين إلى غرف التحقيق، خضعت لتحقيق قاسٍ مدته ساعتان لم يراعِ فيه الجنود إصابات جسدي الذي كان ملفوفا بالجبائر ولم تجف جروحه، فتعمدوا ضربي عليها"، واختصر الموقف بقوله "الله لا يذوقها لأحد".
إعلان
عدوان على الجراح
في غضون ذلك، كان شقيقه محمد في ساحة المستشفى مع قرابة 35 جريحا من العاجزين عن الحركة، وكانت قوات الاحتلال قد أضرمت النار في طوابق المستشفى العلوية، يقول محمد "حرقوا قسم الأرشيف والصيدلية وتمددت النار للمغسلة. طالبنا بأوراقنا وعلاجاتنا وحاجياتنا فأجاب الضابط "حرقنا كل شيء".
وبعد انتظار استمر 7 ساعات في صقيع ساحة المستشفى دون تلقي أي علاج، أمر الجنود سيارات الإسعاف بنقل الجرحى إلى مدرسة الفاخورة حيث لم تشفع لهم إصاباتهم عن التعرض للتحقيق المهين.
يروي محمد للجزيرة نت تفاصيل صادمة خلال التحقيق، حيث رفع الجنود هواتفهم وأجبروا المرضى على سب وشتم قيادات المقاومة، وحين رفض البعض قاموا بضربهم على أماكن إصاباتهم لتنزف من جديد.
يقول محمد "تكدسنا في 3 سيارات للإسعاف، وفي كل بضعة أمتار تحتاج لتنسيق إسرائيلي. سرنا بطرق وعرة ومحفرة تضاعفت على إثرها أوجاعنا، لننتظر على بوابة المستشفى الإندونيسي، في انتظار تنسيق الجيش للعبور عبر الحاجز إلى غرب غزة".
وبعد ساعات طويلة من انتظار التنسيق جاءت الموافقة للخضوع لانتظار آخر على الحاجز الإسرائيلي، حيث طالب الاحتلال سيارات الإسعاف بالوقوف جانبا إلى حين الانتهاء من تفتيش النازحين الذين كان قد فتشهم وحقق معهم أصلا في مدرسة الفاخورة.
قال سائق الإسعاف الذي يحمل معه مرضى العناية المكثفة للضابط "الأكسجين سينفد إن بقينا وقتا أطول"، فأجابه "انصرف من هنا". وبعد ساعات أخرى طالب الضابط الجرحى بالنزول من الإسعافات، يقول محمد "أحد المرضى كان يعاني من كسور بالحوض مد يده لأحد الجنود ليساعده في النزول من الإسعاف، فأمسكه ثم أسقطه أرضا، وقال له "أطلب من السنوار أن يساعدك".
استغرقت الرحلة المهينة من مستشفى كمال عدوان حتى الوصول لمجمع الشفاء الطبي بمدينة غزة يومين كاملين لم يتلق فيها الجرحى الدواء ولا الطعام، بل كانوا يتعرضون لأنكى أساليب التعذيب والإهانة.
إعلان"كان احتضان طفليّ وزوجتي بمثابة دخول الجنة بعد الجحيم"، يقبّل محمد طفليه اللذين كانا في حضنه خلال مقابلته مع الجزيرة نت. ويقول "كان الاجتماع بهم حلما بالنسبة لي كدت أفقد الأمل بتحقيقه".
لم تكن فظاعات جيش الاحتلال في مستشفى كمال عدوان مقتصرة على الجرحى من الرجال فقط، فقد روت طفلة لا تتجاوز الـ14 من العمر شهادتها حول اعتداء جيش الاحتلال عليها وعلى أخريات من عمرها، حين قادهن جنود مدججون بالسلاح إلى حمام مدرسة الفاخورة، حيث أجبرن على النزوح مع أهاليهن إليها تحت تهديد السلاح.
بدأ الجنود بمطالبتهن بخلع حجابهن ورفع ملابسهن، وحين رفضت الفتيات بدؤوا الاعتداء الجسدي السافر عليهن. تقول مريم للجزيرة نت "طالبونا بالاعتراف بوجود مسلحين داخل المستشفى، ثم بإخراج ما نخبئه من هواتف وأسلحة، وحين أنكرنا وجود شيء معنا، لم يصدقونا وبدؤوا بلمسنا بطريقة مهينة".
تتابع مريم رواية ما حدث بصوت مرتجف "شدنا الجنود من شعورنا، ضرب رأسي بالنافذة وهو يصرخ أين مقتنيات المسلحين، أخرجوا ما بحوزتكم" وهو يتابع ضرب رأسي.
وسط هذه الأحداث، كان الدكتور حسام أبو صفية، يصرخ بعد تعرضه للضرب، وقد أجبره جيش الاحتلال على التوجه نحو الدبابة أمام المستشفى وبدؤوا تهديده "إنت بتطلع على الجزيرة وبتحكي إنه هيك صار معك"، فأجابهم "هذا اللي بصير في المستشفى هذا اللي بصير"، يقولون له "ولو هيك ما تحكيش"، واستمروا بضربه.
تختم مريم التي تروي شهادتها للجزيرة بتنهيدة "كل هذا صار، لا أعرف كيف سأنسى هذا الظلم والقهر" ثم تواسي الطفلة نفسها "الحق لا يموت".
أما الطبيبة آلاء أبو عوكل، التي وقفت تسعف المصابين دون راحة في مستشفى كمال عدوان، فتصف صعوبة المشهد "لم نكن نستطيع النوم من تدفق المصابين، مجازر على مدار الساعة، كيف كان من الممكن أن أتخلى عن واجبي المهني وأترك المستشفى".
إعلانوهذا الموقف دفعت ثمنه حين عايشت أقسى لحظات حياتها كما تقول، في حصار المستشفى الذي صار ساحة للرعب، واقتيدت فيه مع العشرات من زملائها إلى مدرسة الفاخورة حيث التفتيش العاري والمهين.
تقول أبو عوكل "أجبرت على خلع الحجاب والملابس الطبية أثناء التفتيش، وكان مصير من ترفض منا هو الضرب الوحشي".
تصف الطبيبة طريق النزوح الذي أمرها الاحتلال بسلوكه للوصول إلى غرب غزة بالقول "ليست مجرد مسافة أو طريق يطوى، إنها رحلة عذاب لا توصف. لا أستطيع وصفها"، أطفال لا تتجاوز أعمارهم 5 سنوات كانوا يعانون في السير في الطرق الوعرة وسط الغبار والدخان وصوت الدبابات المخيف، ونساء تركن حمولتهن وأخريات انهرن من شدة الخوف والتعب.
لا تستطيع آلاء كتمان خوفها من مصير زملائها المجهول الذين اختُطفوا واقتيدوا لجهات مجهولة. وتحمل عتبا كبيرا على العالم الذي تخاذل في نصرتهم، وتقول "كنا نستصرخ العالم على مدار 3 شهور بأن يدركونا قبل أن نُباد، لقد أبادونا حرفيا وانهار كمال عدوان".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات مستشفى کمال عدوان مدرسة الفاخورة جیش الاحتلال
إقرأ أيضاً:
مشفى دمشق… خدمات متواصلة وتحديات كبيرة بسبب نقص المعدات والكوادر
دمشق-سانا
تعاني المشافي الحكومية في سوريا نقصاً حاداً في المعدات والكوادر البشرية والمستلزمات الطبية، وتهالكاً في الأجهزة والمعدات الطبية، وذلك بسبب العقوبات الاقتصادية التي فُرضت على النظام البائد ومازالت تؤثر سلباً على الخدمات الطبية المقدمة للمواطنين.
ورغم الظروف الصعبة والتحديات الكبيرة ما زالت المنشآت الطبية الحكومية تقدم خدماتها للمواطنين، وتستقبل الحالات من مختلف المناطق، وفي هذا الصدد زارت سانا مشفى دمشق “المجتهد”، ورصدت الأوضاع الصحية والخدمية فيه، حيث أكد عدد من الكوادر الطبية أن سوريا تواجه أزمة حادة في قطاعها الصحي وبنيتها التحتية، إذ يعاني المشفى من نقص شديد في الأدوية والمعدات الأساسية كأجهزة التنفس الاصطناعي والمراقبة الحيوية، ويتم تقديم الخدمات وفق الإمكانيات المتاحة.
مدير عام المشفى الدكتور محمد الحلبوني أكد أن المنظومة الصحية في المشفى قبل التحرير كانت منهكة من الفساد وتهالك التجهيزات وتسرب الكوادر الكفؤة، حيث يتم العمل حالياً بتجهيزات قديمة، بعضها يحتاج إلى التنسيق والصيانة، إضافة إلى البنية التحتية المتهالكة التي تحتاج إلى إعادة تهيئة.
وشدد الحلبوني على ضرورة تضافر الجهود للنهوض بالواقع الصحي في المشفى، فواقع المشافي الحكومية يعكس حجم التحديات التي تواجه الحكومة السورية الجديدة، لكنه يحمل بارقة أمل نحو مستقبل أفضل، ولا سيما إذا تم رفع العقوبات الاقتصادية، والذي قد يكون الخطوة الأولى لتحسين الوضع الصحي.
وخلال الشهر الفائت استقبل مشفى المجتهد 52591 مراجعاً في قسم الإسعاف الخارجي، وفق بياناته الأخيرة.
الدكتورة نعمة القحف من قسم الإسعاف قالت في تصريحها لمراسلة سانا: “منذ اللحظات الأولى للتحرير كان الكادر الطبي متواجد في المشفى يستقبل المرضى رغم النقص الكبير في المستلزمات والمواد الطبية، وحالياً يستقبل المشفى بعض المساعدات من المنظمات الدولية العاملة في سوريا، ولكن مازال هناك نقص كبير في المتطلبات”.
وأوضح رئيس قسم العناية المشددة الدكتور محمد بكري أن مشفى المجتهد يعاني نقصاً في الكادر البشري والفني، حيث يوجد في قسم العناية 6 ممرضين فقط يقدمون الرعاية لـ 12 مريض عناية مشددة، كما أن العمر الافتراضي للأجهزة انتهى ويجب استبدالها، ورغم ذلك الكادر البشري في جميع الأقسام يقوم بعمله ويبذل جهداً كبيراً للعناية بالمرضى.
رئيس قسم التصوير الطبي الدكتور مازن الدغلي استعرض الخدمات التي يقدمها القسم من تصوير شعاعي وإيكو ورنين مغناطيسي بمختلف أنواعه، موضحاً أن بعض هذه الخدمات متوقف بسبب عطل الأجهزة الناتج عن ضغط العمل عليها، وصعوبة تأمين قطع تبديل لها بسبب العقوبات الاقتصادية.
وبين الدغلي أن المشفى يستقبل عدداً كبيراً من المرضى يومياً، ما يشكل ضغطاً على الأجهزة وعمرها التشغيلي، وفي هذا الصدد يتم التعاون مع بعض المنظمات الدولية للمساعدة في تأمين الأجهزة وإصلاح بعضها.