فوكوياما يراجع أطروحاته بشأن الإسلام والعرب.. قراءة في كتاب
تاريخ النشر: 19th, August 2023 GMT
الكتاب: الإسلام والحداثة والربيع العربي
الكاتب فرانسيس فوكوياما، حوار دكتور رضوان زيادة
الناشر: المركز الثقافي العربي الدار البيضاء المغرب، ط1 2015
عدد الصفحات 269 صفحة.
يمثل هذا الأثر حوارا أجراه الدكتور رضوان زيادة (وآخران) مع المفكر الأكاديمي الأمريكي ذي الأصول اليابانية المختص في فلسفة السياسة والاقتصاد فرانسيس فوكوياما الذي يعد من أهم منظري المحافظين الجدد.
1 ـ مفهوم الدولة
يعرف الدولة بكونها بيروقراطية عمادها الجدارة والإدارة الموضوعية. ويجد مسارها متشابها في مختلف الحضارات. فقد عرفت مختلف المجتمعات بتجربة الحكم القبلي أو التنظيم الذي يعتمد النسب والقرابة قبل الارتقاء إلى تنظيم الدولة. ويحدد شرطين لتحققها: قابلية المساءلة وتحقق حكم القانون.
أ ـ الحكومة القابلة للمساءلة:
تنزع الدولة باستمرار إلى المركزية، إلى تجميع أكبر قدر من السلطات حتى تكون أقوى. ولكن المفارقة أنّ قوتها هذه قد تتحوّل إلى مصدر وهن. فقوتها يجعلها تنخر من الدّاخل . فلا تقوى على مقاومة الفساد داخلها.ولهذا العجز تبعاتكعدم القدرة على تحقيق تنمية اقتصادية بصورة جيدة.ويضرب على ذلك مثلا فرنسا ما قبل الثورة. فقد كانت توصف بالعظمة وتتسم المركزية القوية. ولكنها كانت أكثر المجتمعات فسادا على الأرض،على المستوى الرسمي خاصة، فالملك كان يبيع المناصب السياسية إلى الأثرياء في ما يشبه المزاد العلني.
لئن وجد السلفيون الديمقراطية مناهضة للدين فإنّ ذلك لا ينفي وجود فهم للدين أكثر ليبرالية وتسامحا.. القول بأن الإسلام دين ودنيا هو تفسير ما للدين وليس الدين بالضرورة.وكثيرا ما يؤدي هذا الفساد إلى تفكيك أي تجمع معارض بأن يُشترى بعض أفراده كأن يمنح مكاسب معتبرة كالحق في جمع ضريبة ما. وقد يُورّث هذا الحق لنسله لاحقا. ولا يجد الوضع القائم حاليا في دول أمريكا اللاتينية بعيدا عن هذه الحالة، رغم أنها توصف بالديمقراطية. فكثيرا ما لا تقوى الدولة على فرض بعض القوانين.
ولكن لهذه المعادلة وجه الآخر يستدعيه من تاريخ انجلترا حين وُجد برلمان قوي جدا لم تتمكن الدولة من فرض الضرائب عليه ويستدعيه من هنغاريا في القرن الخامس عشر. فمن شأن وجود نخبة متماسكة لا تستطيع الدول مواجهاتها أن يقوّض الدولة "فإذا تماديت في ذلك بطريقة معينة، وأصبحت ترفض تماما أن تدفع أي ضرائب ولا تريد أي حكومة مركزية إطلاقا، فعند نقطة ما لن يكون لديك دولة، ولن يكون لديك عمل جماعي، وهذا ما حدث لهنغاريا في أوائل القرن السادس عشر، ثم غزاهم الأتراك وفقدوا بلادهم". وعليه فوجود حكومة دستورية و مقاومة قوية من المجتمع المدني غير كافيين لإنتاج ديمقراطية حديثة وإنما وجود دولة قوية ومجتمع قوي في الآن نفسه. فلابد من التوازن بين القوتين المتعارضتين. فـ"ـيبقى كل منهما تحت المساءلة من قبل الطرف الآخر. وإذا كان لديك مجتمع قوي ودولة ضعيفة، أو دولة قوية ومجتمع ضعيف، فإن أحدهما سيكون لاغيا."
ب ـ حكم القانون
حكم القانون مفهوم من نحت الباحث يشير إلى نوع من التقييد أعلى من الحاكم السياسي. ولا يتحقق إلا بضمان إنفاذ القانون على الأقوياء وعلى النحب خاصة حتى لا تحصل تجاوزات، فتطبيق القانون على الضعفاء فحسب لن يجسد فكرة العدالة. وعامة لا يمتثل المواطنون للقانون إلا بتوفر شرطين: أن يكون عادلا أولا وأن يعكس شيئا من قيم مجتمعاتهم ومن تطلعاتهم للمستقبل وفق رؤاهم الخاصة ثانيا. "لأن أحدا لن يتبع مجموعة من المعايير تملي عليه كيف يتصرف" فـ"ـرغم وجود مجموعة رسمية من القوانين في أفريقيا والتي لها أصل استعماري، إلا أنّ حكم القانون ضعيف لأنه لا يتماشى مع القيم أو التقاليد التي يحافظ عليها المجتمع". ولتوضيح المفهوم يشير إلى تجربة كمال أتاتورك في تركيا. فقد تخلص نظامه من الشريعة متأثرا بالنموذج الغربي فقوض الفهم المحلي للعدالة، وفي الآن نفسه لم يخلق هذا النظام مؤسسات تحل محّله بفعل نزعته المفرطة إلى التغريب.
3 ـ خلفيات معارضته للحرب على العراق
يأخذه الحوار إلى الحرب على العراق وقد كان معارضا لها. فيعلن بوضوح أنه لم يرفضها لأسباب أخلاقية وإنما لإيمانه بأنها لن تضمن التخلص من صدام حسين بشكل سريع وبخسائر أقل ولن تكفل عبور العراق السريع لنظام حكم مستقر. فالولايات المتحدة الأمريكية لم تستعد الاستعداد الجيّد لهذا التحدي وتقديرات إدارة بوش لمجريات الحرب كانت خاطئة وورطتها اليوم هناك تؤكد صواب موقفه. ويردّ سوء التقدير هذا إلى قصور في الإلمام بخصوصيات المنطقة الثقافية. فالأمريكيون كانوا يعتقدون أن الحرب ستكرر تجربة أوروبا الشرقية 1989. فصدام كان مكروها من قبل شعبه وحالما يتم إزاحته من على رأس السلطة سيندفع الجميع إلى إرساء تجربة ديمقراطية على المنوال الغربي. ولكن اتضح لاحقا أنّ المشهد مركب. فزوال حكم صدام حسين كشف الاختلافات الكبيرة بين السنة والشيعة والعرب والأكراد، وقد زادت مشاعر الريبة من الوجود الأمريكي،بسبب الصراع العربي الإسرائيلي، في تعقيد الأمر.
وينفي فوكوياما أن يكون دافع الولايات المتحدة الاستيلاء على النفط العراقي واحتكار استغلاله لأن صدام حسين كان سيسعد بترتيبات تنقذ حكمه مقابل تسوية عنوانها جلب الاستثمارات الأمريكية للعراق، مؤكدا أنّ مسألة أسلحة الدمار الشامل كانت الدافع الرئيسي وأن الولايات المتحدة لم تحسن تقدير الموقف مرّة أخرى، وأنّ الجميع كان يقع تحت تأثير الصدمة النفسية إثر هجمات 11 سبتمبر. فقد طُرح السؤال بشدة، ماذا سيفعل هؤلاء الإرهابيون بالأسلحة النووية تقع بين أيديهم؟ وما الضامن لعدم وجود تنسيق بينهم وبين صدّام. واعتقد هو بدوره أن "الجهاد الإسلاموي" يمثل تهديدا حقيقيا للولايات المتحدة. أما اليوم فقد بات يعتقد أنه يعسر على هؤلاء الجهاديين الوصول إلى مثل هذه الأسئلة وأن غزو أفغانستان والعراق قاد إلى الأسوإ: فقد تشجع على تكتل الجهاديين من كل أنحاء العالم.
عوائق تحقق الديمقراطية في الشرق الأوسط
في إطار حديثة عن التناقض بين تبني الولايات المتحدة الأمريكية لنشر الديمقراطية في العالم النامي ودعمها الدكتاتوريات في هذه البلدان يميل إلى التملص من الإجابات المباشرة، فيقدر أن النفط والصراع مع إسرائيل عاملان أعاقا التنمية الديمقراطية في الشرق الأوسط. فقد غدا النفط نقمة أكثر مما هو نعمة. وانطلاقا من تصوره الليبرالي اليميني يقدّر أن فرض الضرائب يصنع رأيا عاما مسائلا للدولة حول كيفية إنفاق الأموال.
يقدر أن النفط والصراع مع إسرائيل عاملان أعاقا التنمية الديمقراطية في الشرق الأوسط. فقد غدا النفط نقمة أكثر مما هو نعمة. وانطلاقا من تصوره الليبرالي اليميني يقدّر أن فرض الضرائب يصنع رأيا عاما مسائلا للدولة حول كيفية إنفاق الأموال.أما في الاقتصاد الريعي القائم على تصدير النفط، فلا تفرض الضرائب ولا يسهم المواطن في موارد الدولة ومن ثمة يشعر بأنه غير معني بكيفية صرف الدولة لأموالها، فلا يتشكل رأي عام مراقب للدولة فيهدم أسّ عميق من أسس الديمقراطية. ومثل الصراع مع إسرائيل تعلة جيدة لترمي الدولة كل مظاهر فشلها أو تقصيرها على ذلك الصراع.
4 ـ في العلاقة بين الإسلام والديمقراطية
يميل العلمانيون في الشرق الأوسط، منذ تجربة الكماليين في تركيا، إلى تبني الفهم الفرنسي الذي يفصل بعمق بين الكنيسة والدولة ويعتقد أن الدين عدو للديمقراطية. فهذا الاعتقاد ناشئ عن معارضة الكنيسة الكاثوليكية للثورة. وعلى خلاف التجربة الفرنسية لم يقع الصدام الكبير بين الكنيسة والمجتمع الحديث في الدول الأنغلوساكسونية. ولهذا كانت حداثة الولايات المتحدة أكثر تسامحا مع التدين حيث تكون الدولة محايدة ويسود اعتقاد بإمكانية قيام نظام ديمقراطي يؤمنه أشخاص متدينون.
تفسر الأنظمة الدينية الظواهر بطرق عديدة. ولئن وجد السلفيون الديمقراطية مناهضة للدين فإنّ ذلك لا ينفي وجود فهم للدين أكثر ليبرالية وتسامحا.. القول بأن الإسلام دين ودنيا هو تفسير ما للدين وليس الدين بالضرورة.
ولعل مأتى الاحتراز حول الديمقراطية أن يرتبط بسعي من تبنوها من المسلمين إلى استيراد النموذج الغربي دون أن يأخذوا بعين الاعتبار العناصر الثقافية المحلية أو أن يرتبط بعملها على فرض أفكارها في عديد المسائل الثقافية (حقوق المرأة، دور الدين في المجتمع). أضف إلى ذلك أنّ التهديدات المسلطة على العالم الإسلامي كانت كبيرة. ومن ثمة فإن العودة إلى الدين والتمسك بالهوية مثلا ضربا من الآلية الدفاعية. ولا يعود هذا القلق حول الهوية إلى التهديدات الخارجية دائما يقدر ما يمثل ردة فعل على فشل التحديث في المجتمعات الإسلامية. فمن أسبابه الشكل السيئ للحكم في هذه البلدان. فلو وجدت صين عربية: بمعنى دولة تحقق نموا سنويا يقدر بعشرة في المائة لاهتم الناس بتنمية الثروة قبل أن يهتموا بالقلق على الهوية.
و"بالتالي لا أعتقد، يقول فوكوياما، أنّ هنالك عائقا مركزيا في الإسلام أمام الديمقراطية أو غيرها من جوانب التنمية السياسية الحديثة". فجوهر الديمقراطية هو أن يكون القادة مسؤولين أمام شعوبهم.
5 ـ فوكوياما والسؤال المأزق
على هذا النحو شرح فهمه للتنمية السياسية وحكم القانون مستندا إلى خلفيته اليمينية، فيبدو الباحث كمن يتراجع خطوة إلى الوراء مقارنة بما جاء في أثره "نهاية التاريخ" بعد أن زال انبهاره بفكرة العولمة ويبدو واعيا بذلك تماما، فيقدر أن مفاهيمه هذه إعادة كتابة لأثر "نهاية التاريخ" بشكل ما بعد أن أضحى أكثر معرفة أكبر بالتاريخ وأضحى على وعي بأن فرض المؤسسات دون توفر العوامل الموضوعية لنجاحها يولد ديمقراطية شكلية. لكن هذا المفكّر لم يكن واضحا دائما. فقد كان يعمل على تعويم الأسئلة المحرجة شأن دعم الولايات المتحدة للدكتاتوريات حين تزعم عملها على نشر الديمقراطية. أو شأن شرحه لمفهوم حكم القانون الذي يدعو إليه. فالمفهوم يمثل تراجعا مهما عن أطروحته في كتابه نهاية التاريخ، ودعوة إلى أن يتم أخذ الثقافة المحلية بعين الاعتبار عند سن القوانين حتى تكتسب قابليتها للتجسد على أرض الواقع بدل الحماسة المفرطة للعولمة التي تضرب التنوع الثقافي.
ولكن محاوريه ظلوا يلحون على موقفه من المساواة بين المرأة والرجل في ظل اختلاف التصورات والخلفيات الثقافية. وسؤالهم يجمع بين قيمتين متنافستين، احترام القيم الكونية مثل حقوق المساواة التي لا يمكن لفوكوياما أن يتنصّل منها أولا وجعل ما هو مقبول في مجتمع ما أساسا للقانون وكثيرة هي الثقافات التي تؤمن بالمساواة التامة بين الجنسين، يرتبك الباحث حينئذ ويكتفي ب: "إذا أنا أتخيل فقط ما الذي سيحدث" وعندما طُرح عليه السؤال ثانية بصيغة مغايرة، أساسها أن الدولة، في بعض المجتمعات الإسلامية، من حقق تقدما في قضية حقوق المرأة فيما كان الفاعلون الاجتماعيون غير الحكوميين ضد التوسع في هذه الحقوق.
أجاب بأنّ حكم القانون المثالي هو أن يعكس القانون الإجماع الاجتماعي. ولكن هذا لا يوفر في عديد المجتمعات. فثمة موضوعات مختلف فيها ومتنازع عليها سياسيا وحقوق المرأة أحدها. في تلك الحالة لابد أن نستند إلى المعايير الدولية (الغربية أساسا) يضرب مثالا: فالمعايير التي اشترطها الاتحاد الأوروبي على دول أوروبا الوسطى لإجبارها على تغيير معاييرها. ونظام حقوق الإنسان الدولي يفعل ذلك في كل مكان.
المعضلة أن هذا الفرض سيخلق صراعا حادا ويجعل المهمة شاقة. فلم يوضح تصوّره بقدر ما نسف المفهوم "حكم القانون" الذي ترتكز عليه كل مراجعاته لأطروحاته السابقة.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب العربي المفكر امريكا كتاب مواقف عرب مفكر كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الولایات المتحدة حکم القانون
إقرأ أيضاً:
المداخل الثلاثة للتكامل المعرفي.. قراءة نقدية في المنهج والتطبيق
تستأثر قضية التكامل المعرفي باهتمام كبير لدى العديد من الباحثين، لاسيما منهم المعنيين بتجسير العلاقة بين العلوم الشرعية وبين العلوم الاجتماعية، أو المعنيين بالوصل بين علوم الكون وعلوم الوحي.
البعض يفضل أن يصطلح على هذه العملية المعرفية والمنهجية بالجمع بين القراءتين، والبعض الآخر، يفضل أن يستعمل مفهوم التأصيل، فيما حمل تيار مهم من الباحثين المتغربين مشروع "أسلمة المعرفة"، واعتقدوا أن تحرير المناهج الغربية من التحيز، ووصلها بالرؤية الإسلامية من شأنه أن يقيم الجسر الضروري بين معارف الوحي ومعارف الكون أو بين العلوم الشرعية وبين العلوم الاجتماعية.
وبعيدا عن المناخ الذي تأسست فيه هذه الاصطلاحات، وبررت وجودها، وأخذا بعين الاعتبار، مسار التقييم والنقد هذه الاصطلاحات، وما ترتب عنها من مشاريع بحثية، وإسهامات منهجية، بل وتراكمات معرفية أيضا، فإن المفهوم نفسه، أضحى يطرح التباسات كثيرة، تحتاج إلى جهود لتبديدها، ومن ذلك ما يرتبط بتداخل المعرفة والمنهج في هذا المفهوم، وهل يقصد بالتكامل المعرفي، تكامل المعارف التي تنطلق من نسق ثقافي مرجعي واحد، كما هو الشأن في تكامل علم اللغة بعلم الأصول، أو تكامل المنطق بهذا العلم، أو تكامل علم أصول الدين بعلم أصول الفقه، أو تكامل الأصول مع الفقه، مما يوصف عادة بالتداخل المعرفي، أم يقصد به تكامل المعارف التي تصدر عن أنساق ثقافية مرجعية متغايرة؟
ثلاثة مداخل مؤسسة للتكامل المعرفي
فإذا كان الأمر يخص النوع الأول، فهذا التكامل المعرفي لا يترتب عنه أي إشكال، بحكم أن النسق الثقافي والمرجعي الذي تتحرك فيه المعارف موحد، ولا تتباين الرؤى داخله إلا عبر آلية التأويل. أما إن كان يخص النوع الثاني، فالأمر يتطلب بعض التفصيل، وهل يراد بالتكامل المعرفي عملية إدماج المناهج الدارسة، ومحاولة فك ارتباطها وتحيزاتها بغية الإفادة منها وتشغيلها في سياق ثقافي آخر، أم يقصد بها تحقيق التكامل بين المعارف المنتجة باعتبارها مفاهيم وقيم وأنماط ثقافية؟
ربما كان من التواطؤ المعرفي غير المقصود، أن الذين يدعون إلى التكامل المعرفي، أو التداخل المعرفي، أو التأصيل، أو أسلمة المعارف، لا يختلفون في مسعاهم للوصل بين علوم الوحي وعلوم الإنسان، أو في تحقيق الجمع بين القراءتين، في استهداف إدماج المناهج لا تبيئة وتوطين المعارف، وذلك تقديرا منهم، بأن المعارف حمالة مفاهيم ومنظومات قيمة مرتبطة بأنساقها الثقافية، وهي ليست محل توافق أو مهادنة، إذ الجميع، ينطلق من قاعدة أن المشكلة ليست في القيم والمفاهيم، فهي تكتسب صفة الثبات والخلود وغير القابلية للتغيير، وإنما المشكلة في التصورات ومناهج الفهم التي تأثرت بفعل واقع الجمود الحضاري، وأيضا بفعل الهيمنة الثقافية الغربية.
البعض يفضل أن يصطلح على هذه العملية المعرفية والمنهجية بالجمع بين القراءتين، والبعض الآخر، يفضل أن يستعمل مفهوم التأصيل، فيما حمل تيار مهم من الباحثين المتغربين مشروع "أسلمة المعرفة"، واعتقدوا أن تحرير المناهج الغربية من التحيز، ووصلها بالرؤية الإسلامية من شأنه أن يقيم الجسر الضروري بين معارف الوحي ومعارف الكون أو بين العلوم الشرعية وبين العلوم الاجتماعية.ولذلك، تسعى هذه القراءة النقدية إلى توضيح هذه المقدمة الأساسية حتى تنضبط الأفكار، وتتحرر من الالتباس والغموض، ويكون هذا الإسهام مشروطا بخلفيته المفهومية. وهي تضم محورين: استعراض موجز لثلاث دراسات تندرج ضمن جهود تشغيل منهجية التكامل المعرفي، ثم تسجيل خلاصة الخبرة المحصلة من هذه التجربة، والنتائج التي أفسر عنها الاستعمال الوظيفي لمناهج العلوم الاجتماعية، سواء في دراسة نماذج من التراث الفكري للأمة، أو في دراسة ونقد بعض النماذج المعرفية الغربية، أو في تحليل بنية ونظام تفكير بعض الحركات الإصلاحية.
دراسات في اختبار ثلاثة مداخل للتكامل المعرفي
نختار عرض مختصر لثلاث دراسات كتبتها في سياقات مختلفة، تختلف من حيث زاوية التعاطي مع التكامل المعرفي. فالأولى، تأصيلية، تنطلق من نموذج تراثي في دراسة جماعة دينية (دراسة الإمام الغزالي لجماعة شيعية سرية هي الإسماعيلية)، حاول الباحث من خلالها التأصيل لبعض مفردات علم الاجتماع الديني التي سبق الإمام الغزالي إلى اعتمادها قبل أن تستقر النماذج الدارسة للحركات الدينية.
والثانية، نقدية تأسيسية (نموذج تفسيري لقياس تطور الديمقراطية في العالم العربي)، تنطلق من تقييم النمط الغربي في دراسة تطور الديمقراطية في العالم العربي، ونقد أسسه كما استقرت في نماذج دراسة التحولات الديمقراطية، واقتراح نمط آخر، ينطلق من السياق المخصوص لواقع الديمقراطية في العالم العربي، ويميز بين حركية المؤسسات وتطورها، وبين دينامية المجتمع في علاقته بهيمنة النمط الاستبدادي، ودراسة ثالثة إدماجية:"مراجعات الإسلاميين"، حاولت استثمار بعض المناهج الغربية وتوظيفها في دراسة ظواهر تنتمي إلى الحقل السوسيولوجي العربي.
1 ـ الدراسة الأولى:
فضائح الباطنية للإمام الغزالي: تم اختيار دراسة هذا المنتوج التراثي، لكونه يمثل نموذجا من نماذج علم الاجتماع الديني، حاول الإمام الغزالي فيه أن يقدم معطيات ومعلومات عن جماعة دينية ـ الباطنية ـ وأهم مقولاتها، وأساليبها في الحركة، وطرقها في الاستقطاب، مع تقديم نموذج تفسيري لأسباب توسع هذه الجماعة بالقياس إلى محدودية الخطاب الذي تتنباه. وقد كان المبرر الأساسي للاشتغال على هذه الدراسة الفرضية المفارقة التي طرحها الإمام الغزالي في هذا الكتاب، بين الخطاب الذي تتبناه هذه الجماعة، والذي لا يتمتع بأدنى شروط الانسجام المنطقي والتأصيل الشرعي والانضباط لأحكام العقل، وبين توسع الجماعة وانتشارها، إذ حاول أن يختبر مبكرا، العلاقة بين مكونات الخطاب وبنيته وبين عناصر التأثير والجاذبية الجماهيرية.
2 ـ الدراسة الثانية:
من أجل بناء نموذج مستقل لقياس تطور العالم العربي نحو الديمقراطية: وقد اندرجت في سياق متابعة زخم علوم السياسة في دراسة تجارب بالانتقال إلى الديمقراطية، والاشتغال الكثيف على نظريات الانتقال الديمقراطي، وفي ظل أي شروط يتم، والاجتهاد في تقديم نموذج تفسيري لهذه الظاهرة.
ما برر الاشتغال على هذه الدراسة أمران: الأول زخم الدراسات الذي طالت الدول التي انتقلت إلى الديمقراطية، وذلك ضمن موجات ثلاث، وكيف تم الاجتهاد في تفسيرها بمحددات مختلفة، سواء بالتركيز على الشروط السياسية الخاصة بكل بلد، أو بالاهتمام بوضعية الثروة ومستوى الدخل ومسار التحديث وأثر ذلك في تسريع وتيرة الانتقال، أو بالتركيز على أولوية الثقافة السياسية السائدة، أو بالشروط الاقتصادية والاجتماعية التي يعرفها، أو بالوضع الإقليمي الذي يتاخمه، أو بأثر السياسات الدولية عليه ومدى تأثر البلد برياح الدمقرطة الآتية من الخارج.
وأما الثاني، فيرتبط بموجة الدراسات التي حاولت تفسير أسباب تعثر انتقال العالم العربي إلى الديمقراطية، وكيف أخطأت هذه الدول تجربتها في التأسيس لموجة رابعة من الانتقال إلى الديمقراطية مع ربيع الشعوب، وكيف تباين تفسير ذلك بسبب من تحكيم نماذج نظرية اعتمدت في دراسة الموجات الثلاث للانتقال الديمقراطي، ومحاولة إسقاطها على العالم العربي دون فهم سياقاتها الخاصة.
وهكذا اتجهت هذه الدراسة لنقد منهجية اعتماد التصانيف الدولية لقياس مؤشرات الديمقراطية في العالم العربي في تفسير الحالة الديمقراطية العربية، وكيف تساهم منهجية التمييز بين الأقطار الحرة عن شبه الحرة، والأقطار شبه الحرة عن غير الحرة، في إضفاء صورة ظاهرية شكلية عن التطور الحاصل في اتجاه الديمقراطية في عدد من البلدان، وتخفي في المقابل تطورات مهمة قد تحصل في تقليص بعض العوامل المعيقة للديمقراطية، دون أن تكون مندرجة بالضرورة ضمن مصفوفات قياس الديمقراطية ومؤشراتها، إذ كان منطلق النقد في هذه الدراسة، محاولة لطرح سؤال بناء نموذج تفسيري عربي، يبحث تطور الديمقراطية في العالم العربي بالتركيز على حركة الشعوب نحو الديمقراطية، ويرصد تحول أو استقرار العوامل المعيقة للديمقراطية، ويتحرر من أقانيم مؤشرات قياس الديمقراطية كما استقرت في المقاربات الغربية، ويتحرى أهم المؤشرات التي تنبئ عن حصول تقدم نوعي في اتجاه الديمقراطية بغض النظر عن تقدم وضعها المؤسساتي أو مشمولاتها التقليدية.
الدراسة الثالثة: في النموذج التفسيري لمراجعات الإسلاميين: إذ تقدم نموذجا لتشغيل بعض مناهج العلوم الاجتماعية لدراسة مراجعات الإسلاميين في مستوياتها الثلاثة: (الانتقال من العمل المسلح إلى العمل السلمي، والانتقال من العمل الثوري إلى المشاركة السياسية، والتحولات داخل منطق المشاركة السياسية)، فقد استعانت الدراسة بنموذجين: النمط المثالي لماكس فيبر، الخلل الوظيفي لميرتون.
وترى الدراسة أن النمط المثالي (الفيبري)، يفترض أن التنظيم الإسلامي، يتبنى خطاطةً سياسيةً تحدد منطلقاته وأهدافه وأداته لتحقيق هذه الأهداف ونظرية العمل التي يحدد فيها مواقفه من الفاعلين وأشكال إدارته للتفاعلات معهم، وأن وظائفه تتخلص في استقطاب أفرادٍ جددٍ للتنظيم بناء على الخطوط الكبرى للمشروع الرسالي الإسلامي (الخطوٍ الأولى)وتنشئتهم على مفردات الخطاطة السياسية (الخطوة الثانية)، حتى يتأهل ليصير أداةً في الفعل (الخطوة الثالثة). وحيث إن التنظيم يفترض دائماً أنماطاً من سلوك الفاعلين اتجاه فعله، فإن الوظيفة الرابعة، تركز على التبرير في مستويين: تبرير الفعل من حيث ارتباطه بالخطاطة السياسية (الأهداف التي يفترض أنه تم الاقتناع بها ضمن عملية التنشئة السياسية)، ثم تغطية الفضاء الداخلي بما يكفي من المواقف التي تجيب عن كافة التفاعلات التي أثارها هذا الفعل. ثم تأتي الوظيفة الأخيرة، والتي تتمثل في تمتين التنظيم وتعزيز وحدته وامتصاص بعض الآثار السلبية التي يمكن أن تلحق بنيته الداخلية من جراء فعله وما أثاره من تفاعلات.
وحتى تكتمل الصورة التمثيلية ضمن هذا النموذج التمثيلي، ركزت الدراسة على الدور الذي تقوم به الخطاطة المعرفية. فإذا كانت الخطاطة السياسية تحدد الأهداف والرهانات، وترسم الخطوط الكبرى لاستراتجية الفاعل الإسلامي، فإن الخطاطة المعرفية تقوم بمهمة، التبرير بمستوييه، وتقديم ما يكفي من الحجج لتغطية الفضاء الداخلي للتنظيم، والحفاظ على النمط القائم، ولو اقتضى ذلك إنتاجَ مواقفٍ جديدةٍ مساندة للخطاطة السياسية الأصلية.
تعتبر الدراسة هذا النموذج، إنما هو الصورة المثالية التي يفترض أن التنظيم يشتغل وفقها، بما في ذلك توقعاته لأنماط سلوك بقية الفاعلين ونسق التفاعلات المفترض. أما الصورة الواقعية، وردود الفعل الحقيقية التي يتلقاها، والاستراتيجيات والرهانات التي ينتجها الفاعلون الآخرون، وأثر كل ذلك على بنيته الداخلية، فهو شيءٌ آخر مختلفٌ عن هذه الصورة المثالية. فأين يقع الاختلال داخل هذا النمط المثالي؟ هل يحدث في مجموع الوظائف؟ أم في وظيفة بعينها؟ وكيف يحصل هذا الاختلال؟ وماذا يترتب عنه؟ وما البدائل التي ينتجها هذا الفاعل لمواجهة هذا الاختلال؟ وهل يتأثر النسق تبعاً لذلك، كلياً أو جزئياً؟
تقدم تجربة "الإسلاميين" خبرة مهمة تثبت بأن الاختلال الوظيفي يمس التنظيم في اللحظة التي ينخرط فيها في نسق التفاعلات الملموس، أي بعد أن تكون خطاطته السياسية خرجت من الأذهان إلى الأعيان، وتحولت إلى فعلٍ قاصدٍ يرمي تحقيقَ رهانٍ سياسيٍ محددٍ. فعند اشتباك الرهانات وتفاعلها، أي لحظةَ تأسيس العلاقة بين المدخلات والمخرجات، تختبر فعالية وظائف النسق، وهل هي قادرةٌ على تقديم البدائل الوظيفية عن الاختلالات الحاصلة، لاسيما إذا لم يقع التطابق بين استجابات الأفراد للأهداف المحددة في الخطاطة السياسية وبين الوسائل المتاحة لتحقيق هذه الأهداف.
تستعين الدراسة بمفهوم الاختلال الوظيفي (المقترب البنائي) لتفسير مراجعات الإسلاميين، فتسجل، من منطلق الاستقراء، أن العدول كليةً عن النسق السابق، أو تعديله، بما يسمح بإخراج بعض العناصر المفصلية من الخطاطة السياسية السابقة، وإدخال عناصرَ جديدةٍ إليها، يتطلب التعديل الكلي للخطاطة المعرفية، ذلك أن هناك دائماً إمكانيةٌ لتعديل الرهانات السياسية إذا كانت حديةً. لكن، النسق المعرفي الحدي، لا يمكن تعديله إلا بالانتظام في نسقٍ معرفٍي آخرَ، يتمتع بالأسس والقواعد التي تكسبه قدرةً على تبرير وتسويغ تحولات الموقف عند لحظة التفاعلات مع رهانات بقية الفاعلين السياسيين.
خلاصات خبرة الانتظام المعرفي في تجربة التكامل المعرفي:
تقدم هذه الدراسات ثلاثة مداخل للتكامل المعرفي، يخص الأول البحث في التراث الإسلامي عن أصول وجذور العلوم الاجتماعية، بمفرداتها وقواعدها ومنهجية بحثها (التأصيل). ويخص الثاني، نقد محدودية تشغيل بعض النماذج المعرفية الغربية في دراسة السياقات العربية الإسلامية مع محاولة التأسيس لنموذج عربي مستقل (النقد والتأسيس) وذلك بالإفادة من التراكم الحاصل في تنوع هذه النماذج وأعطاب إسقاطها على دراسة السياقات غير الغربية، فيما يعرض الثالث لمحاولة الإفادة الوظيفية من العلوم الاجتماعية (منهجية الإدماج المعرفي)، ونماذجها ومفاهيمها في دراسة بعض الظواهر الاجتماعية والسياسية المتصلة بالسياق العربي الإسلامي (دراسة وتفسير الكيفية التي تتم بها مراجعات الإسلاميين).
وبالنظر إلى ما تحصل في خبرة اعتماد منهجية التكامل المعرفي في هذه الدراسة، يمكن أن نجمل الخلاصات الآتية، وذلك بحسب كل مقاربة على حدة:
1 ـ مقاربة التأصيل:
يتوقف كثير من الباحثين عند عطب أساسي تواجهه هذه المقاربة، وهو الانطلاق من نموذج جاهز يجري محاولة إسقاطه على المنتوج التراثي، وأحيانا كثيرة بتكلف، بغرض إشباع نفسي، للتأكيد على أن مفردات العلوم الاجتماعية قد كانت مكتملة، أو حضر كثير منها في التراث الإسلامي، وأن المشكلة تكمن فقط في الكشف عنها وإبرازها للوجود، وأن علماء الغرب سبقوا إلى هذه العملية، ونسجوا على التراكم الذي تحقق دون الإشارة إليه.
والواقع، أن المهمة المعرفية، ينبغي أن تتحرر كلية من هذه المسبقات النفسية والمعرفية، فالبحث في التراث الإسلامي، يتطلب الوعي بحدود التمايز بين خبرة العلوم في سياق التأليف، وخبرتها بعد ذلك، كما يتطلب التحرر من أسر العلاقة بين الذات والآخر، إذ المطلوب ابتداء دراسة المنتوج في سياقه دونما تكلف أو تعسف في إسقاط نتائج لا يتحملها.
ولذلك تركزت الخلاصات المستفادة من تجربة دراسة الغزالي للباطنية في العناصر الآتية:
ـ أنه قدم نموذجا لدراسة حركة دينية وفقا لبعض آليات علم الاجتماع الديني (المقابلة والعدول عن المقترب الوثائقي) مع استعمال الممكن (الاعتماد على المنشقين من الجماعة عوض المنتمين لها، بسبب تعذر الوصول إليهم لسريتها).
ـ أنه كشف وسائل تواصلها ومكونات خطابها، وتنوعه بحسب مستويات إدراك الشرائح الاجتماعية المستهدفة، كما درس العلائق التي تربط بين مستويات هذا الخطاب والهدف العام الذي يجمعها، ودرجة تأثيره.
ـ أنه حاول الإجابة على فرضيته الأساسية من الكتاب، وهي فهم أسباب توسع الحركة وانتشارها رغم ضعف خطابها ومحدودية بالقياس إلى شروط الانسجام المنطقي، والمقبولية العقلية، والتوافق مع الشرع.
ـ أنه انتقل في مهمته المعرفية من توصيف الحركة وأشكال تحركيها وخطابها وعناصر تواصلها إلى محاورة معتقدها ومحاولة إبطاله اعتمادا على الحجج والبراهين، بما يمهد للوظيفة السياسية للكتاب.
ـ أنه انتقل من الوظيفة المعرفية (توصيف الجماعة ونقد معتقدها) إلى الحكم عليها، وتوفير سند معرفي وشرعي للسلطة السياسية لشرعنة محاربتها والتصدي لها.
ـ أن الجهد الذي بذله الغزالي، في المستوى المعرفي الأول، المعني بتجميع المعطيات عن الجماعة، وبحث أشكال توسعها وانتشارها، ودراسة مستويات خطابها ومكوناته، والعلاقات القائمة بينها، والوظائف التي تخدمها، وتفسير أسباب انتشارها بالقياس إلى ضعف خطابها، يقدم نموذجا مهما في التأصيل لبعض مفردات ومنهجيات علم الاجتماع الديني في تعاطيه مع الحركات الدينية.
2 ـ مقاربة التأسيس:
يكتنف هذا المقترح عطب أساسي، يتمثل في عدم استواء المجهود المعرفي المبذول في النقد مع الجهد المعرفي المبذول في التأسيس لنموذج بديل، والجواب عنه، أن جهد النقد يتوجه إلى نموذج قد أخذ زمنا طويلا في الاستواء، تطلب تواتر التراكم المعرفي، وأن مبرر النقد برز مع محاولات الإسقاط على السياقات غير الغربية، والنتائج غير العلمية التي يتم الانتهاء إليها، أو بالأحرى تكريس تصنيفات تقليدية يتم ترويجها عن حالة العالم العربي، كما ولو كانت مادة لا تقبل النقاش، وأن ما يطلب هو جهد وضع هذه الدولة في هذه الخانة، ووضع تلك في الخانة المقابلة. في حين، لا يستطيع أي باحث لمفرده أن يدعي بعد جهد النقد أن محاولته قد غطت المكان، ووفرت الشروط الضرورية لبناء نموذج مستقل في دراسة ظاهرة من الظواهر الاجتماعية والسياسية.
تقدم تجربة "الإسلاميين" خبرة مهمة تثبت بأن الاختلال الوظيفي يمس التنظيم في اللحظة التي ينخرط فيها في نسق التفاعلات الملموس، أي بعد أن تكون خطاطته السياسية خرجت من الأذهان إلى الأعيان، وتحولت إلى فعلٍ قاصدٍ يرمي تحقيقَ رهانٍ سياسيٍ محددٍ. فعند اشتباك الرهانات وتفاعلها، أي لحظةَ تأسيس العلاقة بين المدخلات والمخرجات، تختبر فعالية وظائف النسق، وهل هي قادرةٌ على تقديم البدائل الوظيفية عن الاختلالات الحاصلة، لاسيما إذا لم يقع التطابق بين استجابات الأفراد للأهداف المحددة في الخطاطة السياسية وبين الوسائل المتاحة لتحقيق هذه الأهداف.ولذلك يمكن أن نسجل على هذه المحاولة التي استهدفت دراسة النماذج الغربية في قياس الديمقراطية في العالم العربي وتقديم معالم نموذج مستقل الخلاصات الآتية:
ـ أن جهد النقد لهذه النماذج أثبت محدوديتها، وأثبت رهانها على ثقل الدولة في العملية الديمقراطية، في حين أن مسار الديمقراطية وتجربتها، انطلقت بالأساس من ثقل المجتمع، وأنه وجب بناء على ذلك، عدم وضع البيض كله في سلة التغيرات التي تحدث فقط على بنية الدولة ومؤسساتها وهياكلها ووضعها الدستوري، وإنما ينبغي الانتباه إلى اتجاه حركية المجتمع بكل مستويات تعبيره إلى الانفلات من قبضة الاستبداد وهيمنة الدولة.
ـ أن هذه النماذج انطلقت من معاييرها ومقاييسها من تعريف محدد للديمقراطية اقتصر على البعد السياسي والمؤسسي، وألغى من الحساب عملية الديمقراطية باعتباره مسارا لتنامي الشعور الديمقراطي في المجتمع والتعبير عنه بمختلف الأشكال.
ـ أن عملية الـتأسيس البناء على التراكم النقدي وذلك بالاستعانة بجهود باحثين سابقين يلتمس في محاولتهم النقدية أو المفاهيمية، السيب لبناء النموذج والتأسيس له.
ـ أن بناء النموذج، لا يتطلب ابتداء اكتمال مفاهيميه ومفرداته والانتقال من ذلك إلى تحديد وتحرير المقاييس والمعايير، ثم اختبار فعاليتها ودرجة تمثيلها للتفسيرية، بل شرط البناء، تحرير المفاهيم ابتداء، ووضع المنطلقات الأساسية التي تمكن من وضع خارطة طريق للإسهامات القادمة بالتدقيق في المعايير والمقاييس بما يحقق القصد في الاستقلال بالنموذج التفسيري لدراسة تحولات الديمقراطية في العالم العربي.
3 ـ مقاربة الإدماج:
تعترض هذه المقاربة عادة قضية العلاقة بين المنهج وبين الرؤية الناظمة أو النسق الثقافي الذي خرجت منه، كما تواجهها مشكلة تدخل الذات الباحثة في المنهج، وهل يتم توظيف المنهج بشكل وظيفي إجرائي، أم يتم فرض المنهج بحمولته الثقافية والقيمية والحضارية على الظاهرة المدروسة.
وقد اختارت الدراسة الاعتبار بالقدرة الإجرائية الوظيفية للمنهج (النمط المثالي لماكس فيبر) أو المفهوم المدمج من حقل العلوم الاجتماعية (مفهوم الخلل الوظيفي عند ميرتون)، لأن القصد هو اختبار الإمكان التفسيري، وحل مشكلة معرفية مرتبطة بفهم تحولات الإسلاميين ومراجعاتهم والكيفية العملية التي تتم بها هذه السيرورة من الانتقال من نسق إلى آخر.
وقد نتج عن اعتماد المقترب الإدماجي تحصيل الخلاصات الآتية:
ـ أن الوعي بالمنهج (مفاهيم ومفردات وآليات)، والتحرر من تحيزاته، والقدرة على توظيفه الإجرائي، مع تتبع واقع إسقاطاته، يفيد في تأمين عملية الإدماج من العيوب التي تصاحبها في العادة.
ـ أن عملية اختيار المنهج، لا تبررها فقط الحاجة لحل مشكلة معرفية، بل تبررها بدرجة أكبر، مدى توافق المنهج مع الظاهرة المدروسة، والإمكان الذي يوفره، بحيث لا يكون القصد فقط إثبات مدى قدرة الباحث على توظيف مناهج العلوك الاجتماعية، بل قدرته على اختيار المنهج الذي يضمن تقديم الحل الأمثل للمشكلة المعرفية دون أن ترتب عن عملية الإسقاط تعسفات تفسد منهجية التكامل المعرفي أو تشوهها.
ـ أن التوظيف المتعدد للمناهج أو المفاهيم، يتطلب وضع الإطار النظري الناظم، الذي يجيب عن سؤال الانسجام أولا، ويوضح حدود العلاقة ثانيا، والفائدة العملية المرجوة من ذلك ثالثا، بالشكل الذي يبدو فيه الاختيار غير مؤثر على مادة البحث، ولا مكيف لها بحسب حاجات المنهج، فحل المشكلة المعرفية، يسبق الحاجة إلى اعتماد تعدد المناهج أو المفاهيم، وحصول الاتساق في عملية التكامل المعرفي، تتطلب الوعي بشروط الاستعمال المتعدد، والاقتضاء الوظيفي وحدود ضرورته.
ـ أن سؤال التوظيف يستتبعه سؤال اختبار الفعالية، وأن عملية الإسقاط تتطلب الإجابة عن كل الإشكالات، بعرضها أولا، وتلافي إخفائها، ثم ببسط الجواب عن الاستثناءات الواردة وعدم تأثيرها على النموذج التفسيري، وذلك على الشكل الذي افترضته الدراسة عند تشغيل مفهوم الخلل الوظيفي في دراسة نماذج مختلفة من الأنساق الحركية، تتباين أشكال تعاطيها في لحظة التفاعلات مع مخرجات الفاعل السياسي الخارج عنها.