راني السماني ١ يناير ٢٠٢٥ الفن هو أحد أعظم أشكال التعبير الإنساني، لكنه أيضاً قد يتحول إلى مصيدة للنرجسية إذا لم يُفهم في سياقه الصحيح. في هذا المقال، أسعى لتوضيح كيف يمكن للفنان السوداني، كجزء من مجتمع إنساني متكامل، أن يفهم ذاته دون الوقوع في فخ الغرور. الفن ليس تفرداً مطلقاً أولاً، يحتاج بعض الفنانين إلى إدراك أن كونك فناناً لا يعني أنك متفرد أو مميز بشكل مطلق عن بقية البشر.

فالفنان، مثل أي إنسان آخر، يملك مجموعة من القدرات التي يمكن أن تنشط بفعل التجربة، التعلم، أو الموهبة الفطرية. قد تمكنه هذه القدرات من العزف، التأليف، الرسم، الكتابة، أو تقديم أي مادة إبداعية أخرى، لكنها لا ترفعه فوق الآخرين.  فالموهبة الفنية هي نتيجة لتفاعل معقد بين عدة مناطق في الدماغ تعمل معاً لتحفيز الإبداع وتحويل الأفكار إلى أعمال فنية. من بين هذه المناطق: • الفص الجبهي، المسؤول عن التفكير الإبداعي وتنظيم الأفكار. • الفص الصدغي، الذي يعالج الصوت والموسيقى. • الجهاز الحوفي، الذي يستدعي العواطف ويحولها إلى إبداع. •بالإضافة إلى الاتصال بين نصفي الدماغ، حيث يختص النصف الأيمن بالإبداع والأيسر بالتحليل. هذا النشاط الدماغي يمكن أن يوجد لدى أي إنسان، لكنه يظهر بشكل أوضح لدى من يمتلك استعداداً وراثياً أو بيئة محفزة. ومع ذلك، هذه القدرات ليست حصرية على الفنانين فقط أو كما يعتقد البعض، فيمكن لأي شخص تنميتها بالتعلم والممارسة. من رواد الفن الإنساني في السودان، برزت أمثلة عديدة لفنانين استخدموا مواهبهم لتقديم فنٍ إنساني يعبر عن المجتمع ويتفاعل معه.  أ. مصطفي سيد أحمد، على سبيل المثال، قدم أعمالاً خالدة تحمل هموم الوطن وقضاياه، بينما أظهر أ. محجوب شريف التزاماً واضحاً باستخدام الشعر كوسيلة للدفاع عن الكرامة والعدالة. وفي المقابل، نجد حالات أخرى لفنانين وقعوا في فخ النرجسية، ما حجم من تأثيرهم الفني، سوف نتطرق اليهم في مقالات أخرى. النرجسية مقابل الإنسانية النرجسية الفنية، وهي اعتقاد زائف بأن الفنان متفوق على الآخرين بسبب موهبته، ما قد يدفعه في بعض الأحيان إلى فقدان البصيرة والإحساس بالآخرين. لكن الحقيقة أن الفن، في جوهره، هو لغة تعبير عن الإنسانية المشتركة، و وسيلة لربط الإنسان بالإنسان، وليس سبباً للانعزال أو التعالي. فالفنان لا يعمل في عزلة، وكل لوحة، لحن، أو عمل فني في الغالب يستمد من التجارب البشرية والمجتمع. فالإبداع ليس عملاً فردياً خالصاً، بل انعكاس للحياة المشتركة أو التفاعل الصادق بين الذات والمحيط الذي يجمع الفنان مع الآخرين. لهذا، الفنان الحقيقي يدرك أن دوره ليس فرض نفسه، بل تمثيل الإنسانية بكل ما فيها من تعقيدات وجمال. و أن قدراته هبة تُضاف إلى مجموعة لا نهائية من الإمكانيات البشرية. و بدلاً من أن ينغمس في وهم التفرد، يمكنه أن يستخدم موهبته لخلق الجمال، الإلهام، والتواصل مع الآخرين بكل تواضع، و التواضع هنا ليس ضعفاً، بل هو مفتاح لتحويل الفن إلى جسر بين الناس. و عليه أن لا يغفل أنه إنسان أولاً وأخيراً، له قيمته مثل كل شخص آخر. في الختام كونك فناناً يعني أنك تملك فرصة لتكون جزءاً من شيء أكبر: وهي الإنسانية بكل تنوعها وجمالها. فالموهبة ليست دعوة للتعالي و ليست تاجاً للغرور، بل رسالة و مسؤولية للمساهمة في تقوية الروابط بينك وبين مجتمعك يا (فنان/ة)، وكي تبقى أعمالك خالدة و شاهدة على جمال الإنسانية، لا على تفردك. . . هذه المقالة هي جزء من سلسلة كتابات عن نرجسية الفنان السوداني ودوره في المجتمع. الوسومراني السماني

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

إقرأ أيضاً:

هل يشكل ترامب خطرًا على العالم بسبب مرض النرجسية الخبيثة؟

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

تزايد قلق علماء النفس والإجتماع عند سماع الخطاب الرئاسي لترامب، فقد بدا منه حالة من التضخم الشديد للذات، وتحدث بنبرة شديدة التعالي والتهديد لكل من يقف في طريقه، والسخرية اللاذعة والسب لكل من اختلفوا معه، وبدا واضحا أن ترامب في هذه الدورة يختلف عن ترامب في دورته الرئاسية الأولى، وربما يكون وراء ذلك عدة أسباب منها ماحدث له في السنوات الماضية من اتهامات وإهانات أثناء عرضه على الجهات القضائية فأصابه جرح نرجسي قاس وهو يريد أن يقتص من الجميع، ومنها أنه فاز في الإنتخابات بشكل كاسح وساحق على الحزب الديموقراطي المنافس، ومنها أنه يمتلك الأغلبية في الكونجرس ومجلس الشيوخ، وأخيرا كونه مر بتجربة رئاسية قبل ذلك ويدخل هذه المرة البيت الأبيض ومعه خبرة سابقة بإدارة عجلة الحكم، ويضاف إلى ذلك طبيعة شخصيته التي باتت تزعج الجميع وتهدد استقرار العالم.

ولم يعد الحديث في أمريكا قاصرا فقط على تطرف ترامب أو عنصريته على المستوى السياسي، فقد دخل على الخط  علماء نفس من الوزن الثقيل يتحدثون صراحة عن أن الرئيس مريض نفسيا وأنه يندرج تحت تشخيص "النرجسية الخبيثة"Malignant Narcicism، وقد صرح بذلك أحد أعلام علم النفس في جامعة جونز هوبكنز وهو البروفيسير جون جارتنرJohn D. Gartner ، وكان التصريح لـUS News، وقد كسر بذلك هذا العالم قاعدة مهنية تسمى  Goldwater Rule  وهي تقضي بعدم إطلاق تشخيص طبي على شخصية عامة دون فحص هذه الشخصية بشكل مباشر وبإقرار منه، وقد وضعت هذه القاعدة بواسطة الجمعية الأمريكية للطب النفسي عام 1964م حين تقدم للترشح للرئاسة مرشح يدعى Goldwater ورأى المتخصصون في الطب النفسي أن هذا الشخص مضطرب نفسيا ولا يصلح لمنصب الرئاسة، ولكن يبدو أن البروفيسور جون جارتنر خالف القاعدة المهنية نظرا لما استشعر من خطورة في سلوك دونالد ترامب وأيضا لما ظهر من علامات اضطرابه في أحاديثه وتصرفاته ومن تاريخه الملئ بالأحداث التي تؤكد ذلك الإضطراب. وكان من المعتاد أن يعلق علماء النفس والأطباء النفسيين على السمات الشخصية والتوجهات السلوكية لبعض الشخصيات العامة من خلال اللغة اللفظية ولغة الجسد بهدف توقع توجهاته وأدائه حين يتقلد منصبا مهما ولكن دون وصم الشخصية بتشخيص مرضي محدد وهذا التزام بالقاعدة السابقة. 

وقد ذكر جارتنر أن النرجسية الخبيثة لدى ترامب غير قابلة للشفاء، وأنها تختلف عن اضطراب الشخصية النرجسية، وطبقا لوصفه فإن ترامب مضطرب نفسيا وأن طباعه وحالاته المزاجية لا يسمحان له بأن يكون رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، فسلوكه يظهر إحساس مرضي بالعظمة Grandiosity، وساديةSadism ، وعدوانية Aggressiveness    وبارانويهParanoia ، ونمط سلوكي مضاد للمجتمعAntisocial behavior pattern. 

وقد كتب كاري بارون Carrie Barron  عن النرجسية الخبيثة في مجلة وموقع  Psychology today  وذكر أن المصابين بهذا المرض لا يصلحون في منصب قيادي خطير مثل منصب رئيس الجمهورية فهم يشكلون خطورة كبيرة حين تكون بيدهم مقاليد الأمور، وذكر كاري بارون الخصائص التشخيصية للنرجسية الخبيثة كالتالي: 

هذا الشخص لا يهمه إلا تحقيق أهدافه الشخصية ويذهب في ذلك إلى أبعد مدى، وقد يتمتع بالذكاء، وقد يكون أداؤه عاليا وقد يتقلد منصبا رفيعا، وحديثه ناعم ودافئ ظاهريا، وساحر، وقد يبدي تأثرا عاطفيا أو حتى يبكي، وهو يبدو متأنقا، وقد يبدو طيبا في ظاهره ودافئا في تعبيراته ويبدي حميمية زائفة وتعاطفا كاذبا، وقد تكون له علاقات واسعة ولكنها غالبا سطحية ومصلحية تنقطع عند أول منحنى تنقضي فيه المصلحة الشخصية. وهذا الشخص يمكن أن يكذب بسهولة، أو يتهم الآخرين زورا، أو يضخم الأشياء في صالحه، أو يخادع، أو يداهن، أو يسرق، أو يتهم، أو يلوم، أو يلوي عنق الحقيقة لكي يصل إلى مآربه ويبرر أفعاله وجرائمه. ولأن هذا الشخص يكون مرموقا سياسيا أو اجتماعيا أو ماديا، ولأنه متمركز حول ذاته ومنفصل عن الآخرين فإنه لا يشعر بخطأ سلوكياته بل يعتبر نفسه ناجحا ومتألقا. وهو لا يهتم إلا بتحقيق أمانيه الشخصية، ولو لم تتحقق يصبح في حالة مرعبة وقد يضحي بأي شئ وأي قيمة في سبيل تحقيق أمانيه ولو على حساب الآخرين مهما كانوا، وهو يعلي رغباته التي تستهلك طاقته، لذلك يكون تفهمه ضئيلا لاحتياجات الآخرين وقد لا يشعر بوجودهم أصلا. والمصاب بهذا المرض يفتقد للشعور بالذنب، ودائما يلقي باللوم على الآخرين أنهم سبب كل المشاكل. وهذا الشخص يميل للتفرقة بين الناس على أسس عنصرية ومذهبية وطائفية، وهذا الميل يؤدي إلى حالات خطرة من الإنقسام المجتمعي، وهو يوظف ذلك لصالحه.

وقد قام بعض علماء النفس في أمريكا بالمقارنة بين ترامب وهتلر ووجدوا أنهما يلتقيان في أمور كثيرة فهتلر استخدم النزعة العنصرية ليصل إلى القوة والسيطرة والتحكم.. وترامب فعل نفس الشئ، وهتلر كان يؤمن بالتطهير العرقي وترامب كذلك، وهتلر وعد بأن تكون ألمانيا عظيمة وسيدة العالم وترامب وعد بأن تكون أمريكا عظيمة وسيدة العالم، وهتلر اعتمد السياسة الفاشية ضد اليهود وترامب اعتمد السياسة الفاشية ضد المهجرين، وهتلر اتهم اليهود بأنهم سبب الشرور في ألمانيا والعالم وترامب اتهم المسلمون بأنهم سبب الشرور في أمريكا والعالم.

والآن تقف أمريكا في مفترق الطرق فإما أن تسلم قيادها لرئيس منتخب على الرغم من ثبوت اضطرابه النفسي بشهادات متزايدة من متخصصين لهم وزنهم في الجامعات الأمريكية فيقود البلاد إلى كارثة، أو أن تبحث عن مخرج دستوري وقانوني لكبح جماح هذا الشخص المضطرب أو إبعاده عن السلطة خاصة وأنه يمتلك مفاتيح أسلحة جبارة ويتحكم في الكثير من القرارات التي قد تسبب كوارث ليس فقط في النطاق الأمريكي ولكن في النطاق العالمي.

وهذا الأمر يعيد إلى الأذهان مرة أخرى الإقتراح الذي قدم منذ سنوات للجمعية الأمريكية للطب النفسي بضرورة الكشف الطبي النفسي على الرؤساء حيث ثبت أن كثيرين من القادة والزعماء والرؤساء على مستوى العالم عانوا من اضطرابات نفسية وكانوا سببا في كوارث محلية ودولية، ولكن السؤال يبقي: ماهي الآلية التي تضمن هذا الكشف الطبي النفسي المحايد والنزية والمستقل عن أي سلطة محلية أو دولية.. هل يكون ذلك تحت إشراف الأمم المتحدة وفي وجود قضاة دوليين، ولجان طبية مختارة بشكل معين بحيث لا تحابي ولا تجامل ولا تخاف.. هذا ما سيتبين في الأيام أو السنوات القادمة.

*أاستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر

مقالات مشابهة

  • سلمى الخمياسية: الفن لغة بلا صوت وبلا حروف وبلا كلمات
  • محمود حميدة: الفن أشرس من قنبلة هيروشيما ونجازاكي
  • محمد فؤاد يوضح سبب غيابه عن الساحة الفنية.. هل المنافسة السبب؟
  • مستقبل الزخرفة الإسلامية بين الأصالة والتطور في ظل التكنولوجيا
  • انطلاق ندوة محمود حميدة بمعرض الكتاب
  • هل يشكل ترامب خطرًا على العالم بسبب مرض النرجسية الخبيثة؟
  • نجوم الفن يساندون مصطفى شعبان في وداع شقيقه!
  • "قضايا الفن التشكيلي المصري" .. مائدة مستديرة بمعرض القاهرة الدولي للكتاب
  • "قضايا الفن التشكيلي المصري" مائدة مستديرة بمعرض القاهرة الدولي للكتاب
  • شاهد بالصور.. حسناء الفن السوداني تحتفل بعيد ميلادها بالقاهرة بطريقة مميزة ووسط أجواء رومانسية