قصص من نوع خاص مثيرة فكريا ونفسيا، تدفع القارئ نحو التفكير، فتراه يعيد قراءة أكثر القصص، خصوصا نهايات جزء منها؛ حين ينتابه أنه لربما كان قاصرا عن فهم مضمونها، فيكتشف أن ثمة قصدية واضحة في عدم حسم النهاية، وتركها لمنطلقات القارئ. وما يثير الاهتمام هنا أن روافع المضامين عالية المستوى من لغة وتقنية كتابة، متقنة الأسلوب، ومسيطرة على المضمون بدلالاته الملتبسة أحيانا.

من كان يبحث عن تيمة، فالكاتبة امرأة، جعلت النساء شخصياتها، منطلقة من خبراتها الإنسانية، فامتلكت مصداقية بعيدا عن التكلف، وعبرت عن تمكن النساء؛ فصورت النساء الممكنات لأنفسهن، بما اكتسبن من جلد ذاتي وموضوعي معا، حين جاء ذلك من البيئة الاجتماعية.

وتيمة المرأة وأدوارها الجندرية هنا، جاء من كونها إنسانة، أكثر من كون ذلك مصطنعا ومتكلفا، وهو كشف لما هو موجود في حياتنا العربية، حتى في البيئة الريفية لا الحضرية، حيث نكتشف أن الصورة النمطية عن النساء ليست مطلقة، هذا من جانب، وأن المرأة اكتسبت عوامل القوة من عصرها، من جانب آخر. وهنا يمكن لمن أراد الجدل في الموضوع أن يستكشف النص من هذا المنطلق، ليحكم على اتجاهات أدوار النساء.

بتفحص القصص بعد الانتهاء، فإن 9 من أصل 12، كانت المرأة هي بطلة القصص، وهي ليست بطلة، من حيث كونها شخصية رئيسية فقط، بل من كونها ذات ظهور خاص. وتفوق هذا الحضور من حيث الندية، والاكتشاف لنقسها ولنفسه. أما الأربع الأخرى، فاثنتان منها عن المشاعر الوطنية من خلال قصة رمزية وواقعية، والتحولات السياسية، والثالثة، فهي قصة عن الأمل الإنساني، والرابعة عن شعور الوحدة.

لقد تجلت الندية، (بمعنى المرأة إنسانة، لا مجرد أنثى فقط) في عدة قصص؛ أبرزها قصة "كش بنت"، التي يكون لها دور اجتماعي، تجلى من خلال رمزية وجودها مكان الشاغر في لعبة "ورق الشدة"، بحيث يهرب منها زوجها ليلة الدخلة، خشية منها، كونها تستطيع ملء مكان الرجال في اللعبة، هكذا برر هربه، كأنه يخاف ممارسة صبحة لدورها العادي والطبيعيّ.

أما في قصة "للكلاب ذاكرة جيدة" لا تستسلم الزوجة لقدرها، بعد أن زهد بها زوجه بعد إنجابها، وها هي حماتها تصارحها: "لقد أنجب وريثه أي حاجة له عندك؟" ثم لتكشف الزوجة أن شخصيته مسلوبة، حيث بالغت في ذلك بجرأة حين صورت أمه تخرج "القمل من شعر عانته والقمل لا ينتهي يتكاثر هناك".

في قصة "لا يعرف أن اليقين توأمه"؛ هو وهي، بسطوة هو، لكن بصمود هي وتعاملها النديّ. صورت الكاتبة تسارع امتلاكها لشخصيتها، التي تجعلها تساءل زوجها كما يسائلها.

أما في "شيء بهذا الحجم"، جرأة السيدة حِسن، ومفارقة "شيؤه بهذا الحجم"، وعجز صاحب هذا الشيء (الذكر)، بعد ثلاث زيجات فاشلة، يتزوج امرأة شقراء معها ثلاثة أطفال. هنا تقوم المرأة بتزويج الابن، لنكتشف عجزه، وارتباطه فيما بعد بامرأة شقراء معها ثلاثة أطفال.

وفي "فإنما اللذات في الدهر لقط"، فإن الكاتبة تعبر عن رغبة الأرملة، التي تصير أقوى حين تتصالح مع حاجتها.

ويبرز التعبير عن الرغبة أيضا في "جارات الهناء"؛ فسارة العاملة في دار مسنين، تخبئ حقيبة اشترتها عند رقية جارتها خشية لوم زوجها. تكتشف رقية أن الحقيبة المنتفخة بورق جرايد ومجلات، تحوي صورا جنسية، توقظ رغبتها، خصوصا مع زوجها شبه العاجز، الذي يبدو تدب به الحياة، وحتى يظل بهذه الحيوية تترك له بعض الصور تحت المخدة. ثم ليأتي الدور على صاحبة الحقيبة حين تأخذها، فيدبّ بها ما دبّ في الجارات الست اللواتي تبادلن الحقيبة، مكررة الكاتبة عبارة وصف شعار محل الملابس الذي اقتنت منه الحقيبة: "طفل شبه عار بجناحي ملاك وسهم يصوبه نحو المارة"، لما للإيراد العبارة وتكرارها من أثر في تصوير الإغراء.

أما اكتشافات النساء، لأنفسهن وللآخرين، ومن الرجل، فقد تجلى ذلك في نصين، الأول قصة "الحياة خارج نفسه"، حيث تكتشف الزوجة، حين تختفي ملابسها وترجع مرة أخرى، بأن زوجها يتخفى في زي امرأة في ملهى، يكون دوره تمثيل دور من تغني وهي ترتدي ملابس إغراء، حيث تتقبل الزوجة عمل زوجها، بل وتشجعه حين تلتقي به.

أما اكتشاف الرجال للنساء، فكان في قصة "حين ينجلي الغبار"، الذي صور صالون فادية للتجميل. يقوم الزوج بتخمين شخصيات النساء بعد التجميل، على ضوء ما عرفهن قبل ذلك. حين استضافت فادية مجموعة من السيدات العاملات في مجال التجميل، يقوم الزوج بتصويرهن وبعث الصور لزوجته، ولا يبقي إلا صورة واحدة يتأملها مع شعور بالذنب، كمن خان الزوجة. وتكون المفارقة حين يكتشف أن تلك الأربعينية الجميلة زوجته. "تعرف عليهن جميعا الا امرأة في الأربعين من عمرها التقط لها صورا أكثر من غيرها..ترن زوجته فتظهر صورة زوجته، "الصورة التي كان يتأملها خلسة وفوقها اسم المتصل كما يحتفظ به "زوجتي الحبيبة".

خارج تيمة المرأة وداخلها

الحق أن قصة للموت تغدو الوالدات سخالها"، قامت على شخصية المرأة، لكننا فصلناها شكليا، بسبب كون القصة ذات مضمون وطني، خلال القصة الرمزية والواقعية. هي قصة المرأة التي لا تتزوج خشية سطو الزوج على ميراثها، لكنها تضطر لذلك، من أجل ضمان تخصيب عنزاتها من خلال اختلاطهن بعنزات الزوج، لكن ذلك لا يتم ل "ثنية السعد". "ظلت تتزوج في موسم الشيق وتتطلق في موسم العفة"، ولم تيأس حتى بعدما صارت ثمانينية، من خلال حمل عنزتها الأخيرة للبحث لها عن تيس، لتلقي بقنبلتها ضد الذكور (رجال العرب): "عنزتي ما زال فيها الخير ولكن ما العمل إذا كان ذكوركم تيوسا". إنه نقد حاد يستحق التيوس!

أما في "فجوة لا تطاق" التي تجلت فيها التحولات سياسية، فلا نعرف منطلق الكاتبة في اختيار ذلك، وهي التي تعيش في فلسطين المحتلة عام 1948، تحت حكم كولنيالي ديمقراطي غربي. بيد أنها نجحت في التعبير عن هذا المضمون. تناولت تحولا اجتماعيا في الزهد بوظيفة المعلم للعمل كنحات يعمل منحوتات للقادة يزينون بها قصورهم، وتحولا سياسية مع قيام انقلاب سياسي طوح بالنخبة، لكن المفارقة في عودة تلك النخبة، وبالتالي الإفراج عن الفنان، الذي أصبح فنان الشعب.

ونختتم بقصتين الأولى "سوف تغزو العالم"، التي تصور فردة صندل ذات لمعة تثير الجار كلما نظر الى البيت المجاور، يكون مصيرها الطيران بعد تعليق البالونات بها. لعلها قصة الأمل الإنساني. "في الليالي التالية كنت أنظر الى السماء من المربعات الخشبية أبحث عن لمعة فضية".

أما في قصة "يأتي قبل أوانه دائما"، التي انتهت بعبارة "امهلني صيفا آخر"، عنوان المجموعة القصصية، للكاتبة شيخة حليوي، فقد أبدعت في التعبير عن الشعور بالوحدة والزمن.

وأخيرا فقد ظهر المجتمع الكولينيالي لمحا، كالإشارة الى المستوطنة في قصة "شيء بهذا الحجم"، وقصة "كش بنت"، في نقد تصرفات صاحب العمل زيف اليهودي. فثمة علاقة ربما بين الاسم والدلالة.

في الشكل الفني:

كانت لغة المجموعة من روافع النصوص، بما اختارته الكاتبة من لغة منسابة متدفقة، مبتكرة أحيانا كما في "الأصوات المزعجة تمر عبر حلقها"، تخلصت فيها من الثقل الجمالي، حيث استعاضت عن ذلك ببلاغة الموقف، حين لم تحسم ما التبس من دلالات ومقاصد خاصة في خواتم القصص، التي أعادتنا الرمزية السحرية الى القراءة من جديد. مثل خاتمة القصة بانتقاد الطفلة ابنة ال 14 عاما لأحلام أبويها، والطلب منهما بالاحتشام بالأحلام. ولنا مثلا يمكن تأويل التجسس على الأحلام في قصة "لا يعرف أن اليقين توأمه"، بالتجسس على السوشيال ميديا. أما في قصة "شيء بهذا الحجم"، ثمة منحى رمزي في تقييد حِسن ذراعيها خلف ظهرها، وكيف أن "يد تتأبط الكنة ويد مشنوقة بشال مطرزة الى عنقها"، في إشارة أنها ربما أصبحت بدون دور في ظل عجز الابن.

أما عنصر التشويق فظهر بشكل خاص في قصتي "الحياة خارج نفسه"، و"حين ينجلي الغبار". وهذا يدل على تمكن الكاتبة من السرد والتشويق، والذي يمكن أن نقول إنه ظهر بشكل متفاوت حسب مضامين ما تم سرده.

وفي مجال "نفس الكاتبة السرديّ"، فقد دلتنا قصة "فإنما اللذات في الدهر لقط"، على الإمكانيات الأدبية لدى الكاتبة في كتابة الروايات.

تميزت الكاتبة بعناوين القصص من خلال جمل خبرية، تمنح أفكارا ومشاعر، وهي تدفع القارئ للتفكير بها، لما لها من أثر تشويقيّ.

صدر للكاتبة "سيدات العتمة" 2015. و"خارج الفصول تعلمت الطيران" 2016 و"النوافذ كتب الرديئة" 2016

و"الطلبية C342" 2018.

*صدرت عن دار أثر للنشر والتوزيع، الدمام-المملكة العربية السعودية، ووقعت في 64 صفحة.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: بهذا الحجم من خلال أما فی فی قصة

إقرأ أيضاً:

خبراء أتراك:د تراجع الكتابة اليدوية خطر يهدد اللغة والذاكرة

في عالم يتحول فيه القلم والورقة إلى ذكريات من الماضي، يحذر خبراء أتراك من أن تراجع دور الكتابة اليدوية قد يكون أكثر من مجرد تبدل في العادات، بل قد يتحول إلى خطر يهدد عمق اللغة والذاكرة الإنسانية ليعيد تشكيل العلاقة بين العقل والإبداع.

ويشير الخبراء إلى أن تزايد الاعتماد على التكنولوجيا في حياتنا اليومية، وما يرافقه من تراجع في استخدام الكتابة اليدوية، قد يؤدي إلى إضعاف مهارات اللغة والذاكرة لدى الأفراد.

على مدى قرون، كانت الورقة والقلم من أساسيات التواصل البشري، قبل أن تبدء الأدوات الرقمية اليوم بالحلول محلها وبشكل متسارع، فيما غدت الرسائل والملاحظات تُكتب الآن عبر شاشات اللمس، أو باستخدام لوحات المفاتيح، وحتى عبر الأوامر الصوتية.

وبالتوازي مع ذلك، يحذر الخبراء من أن هذا التحول في أدوات الكتابة يساهم في تراجع القدرات اللغوية والفكرية للأفراد بشكل ملحوظ.

كما أن هذا التراجع لا يقتصر على زيادة السطحية في استخدام اللغة، بل يؤدي أيضًا إلى تأثيرات عصبية سلبية على عمليات التعلم والذاكرة.

اقرأ أيضا

تركيا.. “الصناعات الدفاعية” تعلن الشركات الأكثر…

الأحد 02 فبراير 2025** تغير أدوات الكتابة

وفي هذا السياق، قال البروفيسور حياتي دوه لي، أستاذ قسم اللغويات بكلية الآداب في جامعة إسطنبول التركية، للأناضول، إن تغير أدوات الكتابة التقليدية بات يؤثر بشكل ملحوظ على عالم الفكر والإبداع.

وفي معرض وصفه لأهمية الكتابة في تاريخ البشرية، قال دوه لي: “في الواقع، عملية الكتابة لا تنتهي، بل تتغير أدواتها فقط”.

وتابع الأكاديمي التركي: “منذ اختراع الكتابة، بدأ الإنسان باستخدام وسائل منها النحت على الحجارة أو الكتابة على الألواح الطينية، ثم انتقل إلى الكتابة باستخدام القصب وريش الطيور”.

وأضاف: “لاحقًا، تطورت الأدوات إلى الآلات الكاتبة. ومؤخرًا، أصبحنا نستخدم لوحة المفاتيح. الشباب يكتبون، ونحن جميعًا نكتب، ولكن بأدوات مختلفة”.

وشدد على ضرورة التركيز على تأثير هذه الأدوات على مهاراتنا في الكتابة والكفاءة اللغوية.

وأوضح أن الدراسات في مجال علم اللغة العصبي (يعنى بدراسة العلاقات بين اللغة والدماغ) أظهرت أن الكتابة باستخدام القلم تعد أكثر فاعلية وفائدة خلال فترة التعلم والتحصيل العلمي.

و”تشير الأبحاث إلى أن التمارين الكتابية التي يجري حلها باستخدام القلم والكتابة اليدوية منذ المراحل المبكرة للتعليم، تجلب فوائد كبيرة للتعلم والذاكرة، حتى في مراحل العمر المتقدمة. في المقابل، فإن الكتابة الرقمية، لا سيما عبر وسائل التواصل الاجتماعي السريعة، لها تأثير محدود في تعزيز المهارات اللغوية”، بحسب دوه لي.

كما لفت الأكاديمي التركي إلى العلاقة المباشرة بين تراجع عادات الكتابة وضعف المهارات اللغوية.

وأوضح أن “الأشخاص الذين لا يمارسون الكتابة باستخدام الوسائل التقليدية بانتظام، يفقدون تدريجيًا القدرة على استغلال مهارات اللغة”.

وأشار إلى أن “الكتابة تتيح استخدام اللغة بشكل أكثر كفاءة، لكن إذا تجنبنا الكتابة، فسنكتفي بمهارات لغوية تقتصر على التواصل اليومي البسيط. وإذا كان هذا كافيًا بالنسبة للبعض، فهو خيارهم. لكن تحقيق ثقافة عالية، أو أدب رفيع، أو علم متقدم يتطلب ممارسة الكتابة بشكل أكبر”.

** ضعف الكتابة والإملاء

وخلص أستاذ اللغويات إلى أن تراجع استخدام الكتابة اليدوية يؤثر سلبًا على الإلمام بقواعد الكتابة والإملاء.

مقالات مشابهة

  • شيخة بنت سيف تعتمد نتائج جائزة حصة بنت محمد للقرآن
  • شيخة بنت سيف تعتمد نتائج جائزة حصة بنت محمد للقرآن الكريم
  • الكاتبة ريم بسيوني ضيفة على القاعة الدولية في معرض القاهرة الدولي للكتاب
  • إطلاق طبعة جديدة من إبداعات الكاتبة صفاء النجار في معرض القاهرة للكتاب 2025
  • شيخة الجابري تكتب: الأسرة في عام المجتمع
  • مؤلف العتاولة: كنت أتمنى الكتابة لـ أحمد زكى وفريد شوقي
  • خبراء أتراك:د تراجع الكتابة اليدوية خطر يهدد اللغة والذاكرة
  • ماجدة إبراهيم تشارك بمجموعتها القصصية «الرقصة ‏الأخيرة» في معرض الكتاب
  • الكاتبة المغربية إشراق حرود تصدر كتابها الأول (بين ثنايا الليل)
  • بيل غيتس يكشف عن سر العلاقة بين «حصاد المليارات» و«الكتابة»