الأثر الرجعي لطبقات ود ضيف الله: دورها في تقييد الفكر وتجذير الخرافة
تاريخ النشر: 2nd, January 2025 GMT
إبراهيم برسي
20 أكتوبر 2020
كتاب “طبقات ود ضيف الله” يُعتبر واحدًا من أبرز الأعمال الأدبية والتاريخية في التراث السوداني، حيث يُقدم لنا نافذة على الحياة الدينية والاجتماعية في السودان خلال فترة السلطنة الزرقاء. ومع ذلك، فإن القراءة النقدية لهذا الكتاب تكشف عن إشكاليات جوهرية في مضمونه وأهدافه، تجعل من الضروري إعادة تقييم دوره وتأثيره، خصوصًا في السياق المعاصر.
يعتمد كتاب “طبقات ود ضيف الله” على سرد الكرامات والخوارق التي يُنسبها إلى الأولياء والصالحين الذين وثق لسيرهم. هذا التركيز على الكرامات، مثل إحياء الموتى أو التنبؤ بالمستقبل، يضعف القيمة التاريخية للكتاب ويجعله أقرب إلى سجل شعبي مدفوع بالعاطفة الدينية، أكثر من كونه مصدرًا تاريخيًا موضوعيًا.
من الواضح أن ود ضيف الله تبنى رؤية تقديسية للأولياء، حيث غابت تمامًا محاولات تحليل الظواهر المرتبطة بهم بشكل نقدي، مثل استغلال النفوذ الديني أو التشدد. بدلاً من ذلك، اكتفى بتقديمهم كرموز مثالية خالية من العيوب، مما يجعل الكتاب أشبه بسجل للتبجيل لا يعكس الواقع المعقد الذي عاشته هذه الشخصيات.
إحدى الإشكاليات الكبرى في الكتاب هي تكريسه لثقافة الخرافة والغيبيات. من خلال تسليط الضوء على الكرامات والخوارق، يُعزز الكتاب نظرة تعتمد على الاتكال على القدرات الخارقة للأولياء، بدلًا من تعزيز قيم العمل والاجتهاد والعقلانية. مثل هذا السرد لا يخدم سوى تكريس التصورات الشعبية غير العلمية، مما يؤدي إلى تعزيز الجمود الفكري والابتعاد عن التفكير النقدي.
الأثر السلبي يظهر بشكل أكبر عندما يُستخلص الكتاب كمرجع يُعتمد عليه في تشكيل الهوية الدينية والثقافية، مما يؤدي إلى اعتماد تصورات مغلوطة وغير عقلانية عن الدين والحياة. الاعتماد على مثل هذه النصوص كمصدر رئيسي يُسهم في تغذية التخلف الفكري والثقافي، ويجعل المجتمع أكثر هشاشة أمام التحديات الفكرية الحديثة.
كما أن للمستعمر دوراً غير مباشر في تكريس هذه المرجعيات، إذ استغل البنى الثقافية والدينية التقليدية كوسيلة لضمان السيطرة على المجتمع السوداني. عبر إبقاء الخلاوي والمؤسسات التقليدية المصدر الوحيد للتعليم، وتحجيم التعليم النظامي الحداثي، عزز المستعمر من هيمنة الطرق الصوفية والمراجع القائمة على الخرافة، ما جعل المجتمع أكثر عرضة للتبعية الفكرية.
من خلال هذه الأدوات الناعمة، غُرس الجمود الفكري بطريقة طويلة النفس، جعلت المثقف وغير المثقف عرضة لغسيل المخ الجمعي الذي يُرسخ هذه المرجعيات كحقائق مطلقة لا يمكن التشكيك فيها.
ولعلَّ التحذير هنا واجبٌ على المثقفين السودانيين، الذين قد يقعون دون وعي في حبائل هذه الأدوات الناعمة التي تخدم تكريس التخلف. المثقف، بصفته طليعة المجتمع، يقع على عاتقه مسؤولية تفكيك هذه الموروثات ونقدها بوعي عميق، دون أن يُغرق نفسه أو مجتمعه في تقديسها.
كما قال عالم النفس إدوارد بيرنيز (Edward Bernays): “عندما تتحكم الموروثات الثقافية والعاطفة في عقول الناس دون نقد أو تمحيص، يصبح من السهل قيادتهم كما يُقاد القطيع”. هذا التحذير ورد في كتابه “Propaganda”، الذي يُبرز كيف يمكن للأفكار والموروثات أن تُستخدم كأداة للسيطرة على الجماهير.
هذا التحذير ينطبق تمامًا على مرجعيات مثل “طبقات ود ضيف الله”، التي قد تبدو بريئة أو إيجابية، لكنها في الواقع أداة لإبقاء المجتمع في حالة من الجمود.
يقدم الكتاب الدين من منظور صوفي يغلب عليه الطابع العاطفي، وهو منظور قد يكون مفهومًا في سياق عصر ود ضيف الله، لكنه يُبعد الكتاب عن الجوانب الإصلاحية أو الفكرية للدين.
هذا التوجه يغذي بناء مجتمع يعتمد على العاطفة أكثر من العقل، حيث يتم التعامل مع القضايا الدينية والاجتماعية من منطلقات وجدانية بدلًا من أسس عقلانية وعلمية. والنتيجة هي أن الكتاب يُساهم، بطريقة غير مباشرة، في إدامة ثقافة تعتمد على التلقين والتقديس بدل الحوار والنقد.
من الجوانب الأخرى التي تستدعي النقد في كتاب “طبقات ود ضيف الله” هو تجاهله التام للنقد الذاتي. لا يُشير الكاتب إلى أي سلبيات أو انحرافات في المجتمع الديني أو الشخصيات التي تناولها، مما يجعل الكتاب أحادي الجانب.
لا شك أن الشخصيات الدينية التي يتناولها الكتاب لها مكانتها في التاريخ السوداني، لكن تقديمها كرموز مثالية لا تخلو من العيوب يُفقد الكتاب مصداقيته ويجعله بعيدًا عن تقديم صورة واقعية متوازنة.
كما أن الكتاب يغفل تمامًا دور المرأة في الحياة الدينية والاجتماعية. في مجتمع كانت المرأة فيه جزءًا أساسيًا من النسيج الاجتماعي، فإن غيابها شبه الكامل عن الكتاب يُظهر تحيزًا واضحًا وتجاهلًا لمساهماتها. هذا الإقصاء يُعمق الصورة النمطية التي تُصور المرأة كمجرد تابع في المشهد الديني، مما يُعزز رؤية ذكورية تُهمش دورها الحيوي.
أثر الكتاب يمتد إلى السياق الثقافي المعاصر، حيث لا يزال يُستخدم كمرجع للهوية الدينية والثقافية في السودان. ومع ذلك، فإن تأثيره السلبي يظهر في تعميقه للانقسام بين العلمانية والتقليدية، حيث يُستخدم كأداة لتبرير الفكر الصوفي التقليدي الذي يرفض التحديث والإصلاح.
الاعتماد عليه كمرجع رئيسي يعيق التجديد الديني ويُرسخ الجمود، مما يجعل السودان أكثر تأخرًا في مواجهة التحولات الفكرية والثقافية التي تتطلب خطابًا متزنًا ومرنًا.
في رأيي، كتاب “طبقات ود ضيف الله” يُعد وثيقة اجتماعية مهمة تعكس ملامح عصره، لكنه ليس مرجعًا متزنًا يمكن الاعتماد عليه بشكل موضوعي. قيمته الحقيقية تكمن في كونه سجلًا تاريخيًا يعكس تصورات مجتمع غارق في العاطفة الدينية، لكنه يفتقر إلى الحيادية والنقد الذاتي.
الجوانب الإيجابية التي يقدمها، مثل توثيق تاريخ الأولياء ودور التصوف، لا تعوض عن تأثيره السلبي في تعزيز الخرافة والجمود الفكري.
الكتاب يجب أن يُقرأ بحذر شديد، مع فهم واضح لسياقه التاريخي والاجتماعي. لا يمكن استخدامه كمرجع لبناء هوية دينية أو ثقافية في العصر الحديث دون الانتباه إلى أوجه القصور التي يحتويها.
السودان اليوم بحاجة إلى خطاب ديني وثقافي أكثر عقلانية وتحررًا من تأثيرات الماضي، خطاب يستند إلى التفكير النقدي والتجديد، وليس إلى سجلات التبجيل والخرافة.
zoolsaay@yahoo.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
مصادر فلسطينية: مقتل 6 في غارة إسرائيلية على مقر وزارة الداخلية التي تديرها حماس في خان يونس بقطاع غزة
أعلنت مصادر فلسطينية، مقتل 6 في غارة إسرائيلية على مقر وزارة الداخلية التي تديرها حماس في خان يونس بقطاع غزة.
وأعلنت إسرائيل، موافقتها رسميًا على الخطة التي اقترحتها الولايات المتحدة الأمريكية، لوقف إطلاق النار بين حزب الله وتل أبيب والذي دخل حيز التنفيذ في الساعة العاشرة من صباح يوم الأربعاء بتوقيت العاصمة اللبنانية بيروت.
وفي وقت سابق، بدأ جيش الاحتلال الإسرائيلي، عملية برية محدودة في جنوب لبنان تستهدف البني التحتية لحزب الله، وسط تحليق مكثف للطيران وقصف مكثف بالمدرعات والدبابات على مناطق الجنوب.
وقد شهدت لبنان حادثة مؤلمة بعد انفجار المئات من أجهزة الاتصال "البيجر" المستخدمة من قبل عناصر حزب الله، ما أسفر عن مقتل 11 أشخاص وإصابة نحو 3000 آخرين.
هذه الحادثة أثارت اهتمامًا دوليًا واسعًا، حيث كانت الأجهزة المنفجرة تُستخدم للتواصل بين عناصر الحزب.