قرّرتُ الكتابة إليك

من أرشيف الكاتب أحمد حسن الزعبي

نشر بتاريخ .. 22 / 4 / 2017

لأنني أعرف جيّداً لهفة الأمهات وأعرف رقصة القلب بين الضلوع عندما تصل الرسالة من الابن المغترب، قررتُ الكتابة إليكَ.. كان في قريتنا بريد صغير مكوّن من غرفتين، وله مدخنة مرتفعة لمدفأة “البواري” كان المكتب يقع في أعلى التلّة، ودخان الاحتراق منارة تطمئن القلوب التائهة، تُرى بالعين المجرّدة من نوافذ كل البيوت.

.

مقالات ذات صلة خبير إسرائيلي: العملية العسكرية في غزة لم تحقق هدفها و”حماس لن تنقرض” 2025/01/02

تـُفتح الستائر قليلاً فإذا شوهد الدخان الأبيض من سطح البريد تطمئن الأمهات بأن الموظفين على رأس عملهم رغم برودة الطقس، كان حديث القلوب الذي يوشوش الشوق: لو وصلت الرسائل من المركز لتوزّعت على البيوت فوراً.. ليس من مصلحتهم تأخيرها.. فثمة مقايضة سرّية وعرفية تتم بمنتهى الحب.. الحلوى مقابل الشوق.. الرسالة مقابل “الحلوان” لساعي البريد.. ما أجمل اغتراب الأمس.. وما أقسى تهجير اليوم!

لا أدري لم ذهبت إلى ذاك الاتجاه، هذا ليس موضوعنا، كنت قد اقتطعت ورقة من دفتر “المعلّم” الذي يكتبُ عليه مقاسات الزبائن وبعض الحسابات لأكتب إليك.. لا أدري لماذا قررت الكتابة إليكَ الآن تحديداً، رغم أنني قد فارقتك منذ خمس سنوات.. منذ أن حملت ملابس أولادي وأغطيتهم وغادرتك ليلاً.. كنا خائفين من الموت السريع، القذائف لم تجعلنا نفكر حتى في وداعك أو إلقاء النظرة الأخيرة على أرضك، كل ما أخذناه من البيت، قارورة ماء، وبعض أدوية الحرارة للصغار والأغطية التي قلت لك عنها..

أنا أحزن على الصغار حتى لو كانت صغار الخراف.. لماذا يموتون هؤلاء بهذه السرعة! هل تصدقني؟ لم أنم طوال الليل الذي شاهدت به أطفال “خان شيخون” تخيّلتهم جميعاً أولادي.
مررنا بحواكير الزيتون ليلاً، كانت الأشجار مثل الأشباح لها صفير موحش وتمضغ العتمة على مهل.. كنا نركض ونسقط، لا أدري كيف استطعت أن أحمل طفليّ وأمتعتنا البالية كل تلك المسافات، لم يكن أمامي خيار لأن أتعب.. التعب أمام الموت ترف لا يمكن التفكير به.. وصلنا “الشيك” أخيراً.. آخر نقلة لقدمي كانت من أرضك لأرض اللجوء أحسست أني أجرّ جبلاً كاملاً خلفي، كانت الخطوة ثقيلة وبطيئة ومؤلمة، اعتقدت للوهلة الأولى أن أحداً ما أمسك بي.. بصعوبة حاولت تخليصها من جذابيتك المضاعفة، ارتميت وبكيت.. حتى اللحظة لا أدري لماذا بكيت؟ فرحاً بالنجاة من الموت.. أو حزنا لهجرك.. أو خوفاً بأن لا نعود إليك.. المهم أني بكيت.. لا أعتقد أن الوقت كان مناسباً لفرز سبب البكاء.. البكاء ليس خياراً أيضا.. هو ليس مثل عصير الأطفال متعدد النكهات.. بكاء الفرح بكاء الخوف.. بكاء الحزن.. هو بكاء وحسب.. هو نزف ما لجرح ما.. ولستُ معنياً بالإفصاح عن جراحي أمام أحد.. حتى أمامك!

لقد أنسيتني لماذا قررت الكتابة إليك! صحيح أنا وأولادي الآن بخير.. نعيش في غرفة صغيرة تحت الأرض كانت مستودعاً لإطارات “الكاوشوك” المستعملة.. أفرغه صاحبه من محتواه واستصلحه بيتا لنا، صحيح أن إيجاره يساوي إيجار شقة محترمة، لكن كلما تذكّرت الموت هناك ورحلة الهروب دفعت له الأجرة صاغراً.. أولادي يدرسون في مدرسة مسائية.. يصلون البيت بعيد المغرب لكنّهم يتعلّمون.. صحيح أنهم يتعلّمون ببطء ودفاترهم نصفها بيضاء لكنّهم يتعلّمون.. أنا أعمل الآن “فرواتياً”، لست “فرواتياً” بمعنى الكلمة، وإنما “صبي الفرواتي”، أنظف الجلود، أنثر الملحَ فوقها، أقوم بنشرها حتى تجف.. ثم أفعل ما يؤمرني به المعلم، أنظف المحل أزيّت الماكنة وأكافح الدود على الجلود الطرية..

أرأيت صبياً في الأربعين؟؟ أنا هو.. في اللجوء تتحرر الأعمار وينقشع الوقار.. في اللجوء لا يمكن أن تصبح رجلاً.. قد تبقى صبياً عند معلّمك حتى لو بلغت التسعين! لا بأس.. العمل ليس عيباً.. المهم أنني أقوم بعملي كما يجب لا أخون ولا أتهاون.. رغم أنني لا أحب مهنتي.. لا ليس تعجرفاً ولا فوقية.. لكنّي أحزن على الخراف! تذبح، تسلخ، تكوّم جلودها.. لنشبع وندفأ ونتفاخر بأجسادها…

اشتقت لصورة أمي وأبي التي على الجدار.. وأردت الكتابة إليك.. لأسألك أما زالت الصورة موجودة؟ أما زال الجدار واقفاً؟ أما زالت دارنا تحمل ملامح دارنا؟
ماذا نفرق عن جزّاري السياسة؟ أنا وهم ننثر الملح على الجرح أليس كذلك؟ تمرّ عليّ أحيانا جلوداً صغيرة إنها لخراف صغيرة، يعني بعمر أولادي.. ذُبحت سُلخت وها أنا أقوم بتنظيف جلدها تمهيداً لصناعة “فروة”.. أنا أحزن على الصغار حتى لو كانت صغار الخراف.. لماذا يموتون هؤلاء بهذه السرعة! هل تصدقني؟ لم أنم طوال الليل الذي شاهدت به أطفال “خان شيخون” تخيّلتهم جميعاً أولادي.. وكنت أبكي في المحل دون أن يراني المعلم.. والحمد لله أن صوت الماكنة كان أعلى من نحيبي بكثير.. ولكثرة ما بكيت لم أنتبه أن الماكنة قد عضت يدي وأحدثت جرحاً ما زال إلى الآن.. لا يهم.

لقد نسيت لماذا قررت الكتابة إليك.. صحيح! أنا اشتقت للدالية فقط.. اشتقت للأرض الوعرة التي تقودني إلى الدار.. اشتقت لجلسة الغروب أمام بيتنا.. ولصوت شجرات الصنوبر وهي تتبارز مع الريح فتسقط أكوازها اليابسة.. اشتقت لصورة أمي وأبي التي على الجدار.. وأردت الكتابة إليك.. لأسألك أما زالت الصورة موجودة؟ أما زال الجدار واقفاً؟ أما زالت دارنا تحمل ملامح دارنا؟ خطئي الوحيد أني خرجت من البيت ولم آخذ صورة أمي وأبي.. كنت أظن أني سأعود بعد أيام.. بصراحة أخاف أن أنسى مع مرور الوقت ملامحهما.. كما أخاف أن أنسى ملامحك أنت أيضاَ يا وطني.. أكتب أليك.. لأنني أحبك.. وأشتاقك.. وأحب أن… لن أكمل لقد غلبني الدمع.. على كل لا أعرف لماذا قررت الكتابة إليك..

كيف سأوصل رسالتي هذه إليك لا أعرف.. فلا بريد ولا طيران بيننا، حتى المكتب الذي كان في أعلى التلّة.. صار نقطة عسكرية! حسنا ً سأرمي رسالتي هذه للريح.. الريح هي سفيرة المشتاقين.. وهي زفير اللاجئين!

ثم أرخى أصابعه وترك الورقة تطير وتتدحرج بين بيوت الشوق والشوك..

احمد حسن الزعبي

ahmedalzoubi@hotmail.com

مضى #185يوما … بقي #91يوما

#الحريه_لاحمد_حسن_الزعبي

#سجين_الوطن

#متضامن_مع_أحمد_حسن_الزعبي

المصدر: سواليف

كلمات دلالية: سجين الوطن حسن الزعبی لا أدری

إقرأ أيضاً:

إليك مع التحية

يمر أناس من خلال ممرات الحياة العديدة ولا يتركون أثراً موضع لا أقدامهم، وهناك آخرون أينما وضعوا أقدامهم يتركون أثراً جميلاً قبيل عدة أيام، رافقت ابنتي إلى أحد الصالونات النسائية، ومن واقع تجاربي غير القليلة بهذا الصدد، فقد رأيت الكثير من صنوف البشر ممن يعملن بتلك الأماكن أو غيرها. أحيانًا يصنفون بصفات التعالي غير المبرر والبرستيج العالي والمبالغ فيه، سواء في طريقة الكلام أو الردود المقتضبة عند السؤال عن الخدمات أو خلاف ذلك، إلا من رحم ربي.

خلال زيارتي لذلك الصالون، رأيت شيئًا مغايرًا عن كل ما كنت أراه سابقًا في بعض الصالونات.

حين وصولي للصالون، وبعدما طلبت ابنتي الخدمة التي أرادتها، جلست في بهو الصالون أنتظرها. وأثناء ذلك، دخلت شخصية مهذبة للغاية، ألقت التحية بأدب بالغ. رفعت رأسي لأرد التحية، ووجدت أنها الأستاذة سنا بن سعد، وهي ميك أب أرتست مهنية رائعة أعرفها منذ سنوات. شخصية محترمة وفوق كل ذلك وقبله إنسانة ذات خُلُق رفيع، أسعدني القدر بلقائها مرة أخرى.

تميزت بالالتزام والطيبة والتواضع الجم والوجه البشوش والقلب الأبيض. لا أتذكرها إلا مبتسمة، بشوشة، بهية الطلعة. نموذج لا يختلف على أخلاقها العالية وسمتها الطيبة وسلوكها المتحضر في حسن المعاملة مع الجميع وبدون استثناء. تعاملاتها مع الجميع تتسم بمنتهى الأريحية. إنها شخصية ثرية، ولها من الثروة الأخلاقية ما يؤهلها للسبق في حال المنافسة في ماراثون الأخلاق الحسنة والسمت الطيب بلا شك.

هناك أشخاص يمرون في هذه الحياة، فيتبع مرورهم عطرٌ لا يمكن تجاهله. فهو عطر فواح بكل طيب وجميل، ووقع أقدامهم لا يُنبت إلا خيرًا. فالأصل دائمًا يغلب على صاحبه، مهما تغيرت وتشكلت الظروف، لكن يبقى الأصل الطيب هو المرجعية التي تصب فيها كل المعاملات.
فإذا فتشت في قواميس الأخلاق العالية والأصل الطيب، فستجد هذا الشخص حاضرًا وبقوة.

من الملاحظ، ومع الانتشار الكبير لصالونات التجميل، بات نجاحها مرتبطًا مباشرة بنجاح مديرة الصالون. إذ لا بد أن تكون ذات مهارات عالية، وفريق عمل مؤهل وقادر على تقديم الخدمات للزبائن بمستوى رفيع يرضيهم، فيغادرون وهم عاقدون النية على العودة لتلقي الخدمات من جديد مع أقربائهم وذلك ما حققته سناء.

. فهي دقيقة للغاية وحريصة على إرضاء زبائنها بشكل كبير تحرص على التواصل الدائم، ووفية جدًا بتنفيذ الوعود التي تقطعها لزبائنها. كما تسعى دائمًا إلى تطوير نفسها ومهاراتها بما يؤهلها لقيادة وإدارة الصالون بالطريقة التي تضمن راحة الموظفات في المقام الأول، وتقديم خدمات ذات جودة عالية للزبائن، بما يتوافق مع احتياجاتهم.

الخلق الحسن ليس فقط قيمة دينية أو اجتماعية، بل هو أيضًا مفتاح للنجاح والسعادة في الدنيا والآخرة.

الإنسان الذي يملك لسانًا طيبًا عذبًا، وصدقًا، وإخلاصًا، وتعاملاً إيجابيًا، وصبرًا، وسماحة، وسمعة طيبة، وأمانة، وحرصًا على حق الغير،لا بد أن يحترمه الناس، ويُظهرون له التقدير والإجلال، والثقة والمودة.

للأخلاق الحسنة جاذبية هائلة تجتذب النفوس إليها، فيبقى لها في القلوب عبقٌ لا يُنسى. وكلما فاح عبير أخلاق المرء، زادت مكانته في قلوب من يتعامل معهم..

“ففي سعة الأخلاق كنوز الأرزاق” هذه حقيقة لا تُنكَر، الأرزاق، وإن كان تقديرها بيد الله تعالى، يوسِّعها على من يشاء، ويضيِّقها على من يشاء. فإن الله تعالى جعل السعي سببًا من أسباب سعة الرزق، كما جعل الأخلاق الحسنة سببًا آخر لذلك..

الأخلاق رزقٌ من أرزاق الله أيضًا، يرزقها الله لمن يسعى إليها. ولن يصل أحدنا إلى ما يؤمِّله إلا بخلق حسن. وهو أفضل ما ندخل به قلوب الناس من أبوابها الواسعة. وهذا ما تشهد به التجربة، فإن كل إنسان يجد كيف ينجذب الناس إليه حين يُحسن التعامل معهم، فيرتاحون إليه ويرتاح إليهم. فتتوطد علاقاتهم به، ويتعاملون معه واثقين من صدقه وإخلاصه وإرادته الخير لهم ..
شكرا لك سناء وإليك مع التحية.

مقالات مشابهة

  • السيد الرئيس أحمد الشرع في مقابلة مع تلفزيون سوريا: معركة إسقاط نظام الأسد خلال 11 يوماً كانت نتيجة تخطيط دقيق استمر خمس سنوات في إدلب، وتوحيد الفصائل واستيعاب القوى المختلفة
  • تشييع جنازة الكاتب الراحل مصطفى بيومي من مسجد الحصري.. صور
  • تغيير أسماء 6 مسلسلات في رمضان 2025.. إليك القائمة النهائية
  • مؤلف العتاولة: كنت أتمنى الكتابة لـ أحمد زكى وفريد شوقي
  • إليك مع التحية
  • ممثل النيابة الإدارية أمام المحكمة بقضية طبيبة كفر الدوار: كانت عايزة تركب التريند
  • النيابة في قضية طبيبة كفر الدوار: «كانت عايزة تركب التريند على حساب المرضى»
  • شراكة استراتيجية.. أحمد موسى: مكالمة الرئيس السيسي وترامب كانت حوارا إيجابيا بينهما
  • بيل غيتس يكشف عن سر العلاقة بين «حصاد المليارات» و«الكتابة»
  • من أرشيف الكاتب أحمد حسن الزعبي .. بَرَكَةُ التوقيت