من أرشيف الكاتب أحمد حسن الزعبي .. قرّرتُ الكتابة إليك
تاريخ النشر: 2nd, January 2025 GMT
قرّرتُ الكتابة إليك
من أرشيف الكاتب أحمد حسن الزعبي
نشر بتاريخ .. 22 / 4 / 2017
لأنني أعرف جيّداً لهفة الأمهات وأعرف رقصة القلب بين الضلوع عندما تصل الرسالة من الابن المغترب، قررتُ الكتابة إليكَ.. كان في قريتنا بريد صغير مكوّن من غرفتين، وله مدخنة مرتفعة لمدفأة “البواري” كان المكتب يقع في أعلى التلّة، ودخان الاحتراق منارة تطمئن القلوب التائهة، تُرى بالعين المجرّدة من نوافذ كل البيوت.
تـُفتح الستائر قليلاً فإذا شوهد الدخان الأبيض من سطح البريد تطمئن الأمهات بأن الموظفين على رأس عملهم رغم برودة الطقس، كان حديث القلوب الذي يوشوش الشوق: لو وصلت الرسائل من المركز لتوزّعت على البيوت فوراً.. ليس من مصلحتهم تأخيرها.. فثمة مقايضة سرّية وعرفية تتم بمنتهى الحب.. الحلوى مقابل الشوق.. الرسالة مقابل “الحلوان” لساعي البريد.. ما أجمل اغتراب الأمس.. وما أقسى تهجير اليوم!
لا أدري لم ذهبت إلى ذاك الاتجاه، هذا ليس موضوعنا، كنت قد اقتطعت ورقة من دفتر “المعلّم” الذي يكتبُ عليه مقاسات الزبائن وبعض الحسابات لأكتب إليك.. لا أدري لماذا قررت الكتابة إليكَ الآن تحديداً، رغم أنني قد فارقتك منذ خمس سنوات.. منذ أن حملت ملابس أولادي وأغطيتهم وغادرتك ليلاً.. كنا خائفين من الموت السريع، القذائف لم تجعلنا نفكر حتى في وداعك أو إلقاء النظرة الأخيرة على أرضك، كل ما أخذناه من البيت، قارورة ماء، وبعض أدوية الحرارة للصغار والأغطية التي قلت لك عنها..
أنا أحزن على الصغار حتى لو كانت صغار الخراف.. لماذا يموتون هؤلاء بهذه السرعة! هل تصدقني؟ لم أنم طوال الليل الذي شاهدت به أطفال “خان شيخون” تخيّلتهم جميعاً أولادي.
مررنا بحواكير الزيتون ليلاً، كانت الأشجار مثل الأشباح لها صفير موحش وتمضغ العتمة على مهل.. كنا نركض ونسقط، لا أدري كيف استطعت أن أحمل طفليّ وأمتعتنا البالية كل تلك المسافات، لم يكن أمامي خيار لأن أتعب.. التعب أمام الموت ترف لا يمكن التفكير به.. وصلنا “الشيك” أخيراً.. آخر نقلة لقدمي كانت من أرضك لأرض اللجوء أحسست أني أجرّ جبلاً كاملاً خلفي، كانت الخطوة ثقيلة وبطيئة ومؤلمة، اعتقدت للوهلة الأولى أن أحداً ما أمسك بي.. بصعوبة حاولت تخليصها من جذابيتك المضاعفة، ارتميت وبكيت.. حتى اللحظة لا أدري لماذا بكيت؟ فرحاً بالنجاة من الموت.. أو حزنا لهجرك.. أو خوفاً بأن لا نعود إليك.. المهم أني بكيت.. لا أعتقد أن الوقت كان مناسباً لفرز سبب البكاء.. البكاء ليس خياراً أيضا.. هو ليس مثل عصير الأطفال متعدد النكهات.. بكاء الفرح بكاء الخوف.. بكاء الحزن.. هو بكاء وحسب.. هو نزف ما لجرح ما.. ولستُ معنياً بالإفصاح عن جراحي أمام أحد.. حتى أمامك!
لقد أنسيتني لماذا قررت الكتابة إليك! صحيح أنا وأولادي الآن بخير.. نعيش في غرفة صغيرة تحت الأرض كانت مستودعاً لإطارات “الكاوشوك” المستعملة.. أفرغه صاحبه من محتواه واستصلحه بيتا لنا، صحيح أن إيجاره يساوي إيجار شقة محترمة، لكن كلما تذكّرت الموت هناك ورحلة الهروب دفعت له الأجرة صاغراً.. أولادي يدرسون في مدرسة مسائية.. يصلون البيت بعيد المغرب لكنّهم يتعلّمون.. صحيح أنهم يتعلّمون ببطء ودفاترهم نصفها بيضاء لكنّهم يتعلّمون.. أنا أعمل الآن “فرواتياً”، لست “فرواتياً” بمعنى الكلمة، وإنما “صبي الفرواتي”، أنظف الجلود، أنثر الملحَ فوقها، أقوم بنشرها حتى تجف.. ثم أفعل ما يؤمرني به المعلم، أنظف المحل أزيّت الماكنة وأكافح الدود على الجلود الطرية..
أرأيت صبياً في الأربعين؟؟ أنا هو.. في اللجوء تتحرر الأعمار وينقشع الوقار.. في اللجوء لا يمكن أن تصبح رجلاً.. قد تبقى صبياً عند معلّمك حتى لو بلغت التسعين! لا بأس.. العمل ليس عيباً.. المهم أنني أقوم بعملي كما يجب لا أخون ولا أتهاون.. رغم أنني لا أحب مهنتي.. لا ليس تعجرفاً ولا فوقية.. لكنّي أحزن على الخراف! تذبح، تسلخ، تكوّم جلودها.. لنشبع وندفأ ونتفاخر بأجسادها…
اشتقت لصورة أمي وأبي التي على الجدار.. وأردت الكتابة إليك.. لأسألك أما زالت الصورة موجودة؟ أما زال الجدار واقفاً؟ أما زالت دارنا تحمل ملامح دارنا؟
ماذا نفرق عن جزّاري السياسة؟ أنا وهم ننثر الملح على الجرح أليس كذلك؟ تمرّ عليّ أحيانا جلوداً صغيرة إنها لخراف صغيرة، يعني بعمر أولادي.. ذُبحت سُلخت وها أنا أقوم بتنظيف جلدها تمهيداً لصناعة “فروة”.. أنا أحزن على الصغار حتى لو كانت صغار الخراف.. لماذا يموتون هؤلاء بهذه السرعة! هل تصدقني؟ لم أنم طوال الليل الذي شاهدت به أطفال “خان شيخون” تخيّلتهم جميعاً أولادي.. وكنت أبكي في المحل دون أن يراني المعلم.. والحمد لله أن صوت الماكنة كان أعلى من نحيبي بكثير.. ولكثرة ما بكيت لم أنتبه أن الماكنة قد عضت يدي وأحدثت جرحاً ما زال إلى الآن.. لا يهم.
لقد نسيت لماذا قررت الكتابة إليك.. صحيح! أنا اشتقت للدالية فقط.. اشتقت للأرض الوعرة التي تقودني إلى الدار.. اشتقت لجلسة الغروب أمام بيتنا.. ولصوت شجرات الصنوبر وهي تتبارز مع الريح فتسقط أكوازها اليابسة.. اشتقت لصورة أمي وأبي التي على الجدار.. وأردت الكتابة إليك.. لأسألك أما زالت الصورة موجودة؟ أما زال الجدار واقفاً؟ أما زالت دارنا تحمل ملامح دارنا؟ خطئي الوحيد أني خرجت من البيت ولم آخذ صورة أمي وأبي.. كنت أظن أني سأعود بعد أيام.. بصراحة أخاف أن أنسى مع مرور الوقت ملامحهما.. كما أخاف أن أنسى ملامحك أنت أيضاَ يا وطني.. أكتب أليك.. لأنني أحبك.. وأشتاقك.. وأحب أن… لن أكمل لقد غلبني الدمع.. على كل لا أعرف لماذا قررت الكتابة إليك..
كيف سأوصل رسالتي هذه إليك لا أعرف.. فلا بريد ولا طيران بيننا، حتى المكتب الذي كان في أعلى التلّة.. صار نقطة عسكرية! حسنا ً سأرمي رسالتي هذه للريح.. الريح هي سفيرة المشتاقين.. وهي زفير اللاجئين!
ثم أرخى أصابعه وترك الورقة تطير وتتدحرج بين بيوت الشوق والشوك..
احمد حسن الزعبي
ahmedalzoubi@hotmail.com
مضى #185يوما … بقي #91يوما
#الحريه_لاحمد_حسن_الزعبي
#سجين_الوطن
#متضامن_مع_أحمد_حسن_الزعبي
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: سجين الوطن حسن الزعبی لا أدری
إقرأ أيضاً:
إهداء من الفنان عمر عدنان العبداللات لأحرار العالم و للكاتب الزعبي
#سواليف
#كاريكاتير عمر عدنان العبداللات
ولا بُدَّ لِلَّيْلِ أنْ يَنجَلِي، ولا بُدَّ لِلقَيْدِ أنْ يَنْكَسِرْ.
ندعو الله أن يكون عام 2025 عام #السلام والأمان لأوطاننا،
مقالات ذات صلة د. بني سلامة .. زيادة الرواتب: مطلب وطني لاستعادة التوازن المعيشي 2025/01/02الحرية لأهلنا في #غزة،
والحرية لأهلنا في #سوريا.
هذا العمل إهداء لأحرار العالم، ولصديقي الكاتب الوطني #أحمد_حسن_الزعبي.