طريق التغيير في اليمن...أحلام كبيرة وعقبات أكبر
تاريخ النشر: 2nd, January 2025 GMT
عندما انطلقت شرارة الثورة في اليمن، كانت التوقعات تتجاوز الحُلم الفردي لكل يمني، بل امتدت لتلامس مستقبل بلد بأكمله. اليمن هذا البلد العريق كان على موعد مع التغيير، ووجد نفسه في قلب عاصفة من الآمال والإرادات المتناقضة، التي صهرت تطلعات الملايين في بوتقة من التحولات والتحديات الكبرى. كان الخروج إلى الشوارع من صنعاء الى تعز وعدن يحمل رسالة عميقة وواضحة: "لن نعود إلى الوراء.
في تلك اللحظة، بدا وكأن اليمن على مشارف حقبة جديدة، عنوانها العدل والديمقراطية والكرامة، لكن سرعان ما اصطدمت هذه التطلعات بواقع سياسي وأمني واقتصادي عسير، كاد أن يُفقد اليمنيين إيمانهم بقدرة الثورة على تغيير مسار حياتهم. ومع ذلك، بقيت بذور الأمل مزروعة، وإن كان غبار الصراع يحجب رؤيتها أحياناً.
الجذور.. لماذا تحرك الشعب؟
لنعد إلى اللحظة التي أشعلت فتيل الثورة، حيث كان اليمن يعيش ظروفاً صعبة اقتصادياً وسياسياً، فالفساد استشرى في المؤسسات، والنظام الحاكم غدا عبئاً على مستقبل البلاد، والشباب الذي يشكل غالبية السكان وجد نفسه محاصراً بين بطالة مرعبة ومستقبل مبهم. لم تكن مشاعر الإحباط والحرمان مستحدثة، بل كانت تتراكم منذ عقود، وتفاقمت حتى وجدت طريقها إلى الشوارع والساحات العامة.
سعت إيران إلى استغلال الأوضاع في اليمن لتعزيز نفوذها في المنطقة، حيث دعمت الحوثيين ووفرت لهم المساعدات العسكرية والسياسية، مما ساهم في تعزيز قوتهم وتوسيع رقعة نفوذهم في الشمال، خاصة في العاصمة صنعاء. كما أن هذا الدعم مكّن الحوثيين من التمسك بموقفهم تجاه التحالف السعودي، وزاد من قدرتهم على الصمود في وجه العمليات العسكرية.حين رأى الشباب اليمني صور الثورات في تونس ومصر، تجددت لديهم الرغبة في كسر القيود وتحقيق العدالة. وللمرة الأولى منذ عقود، أحس اليمنيون أن بإمكانهم صياغة مستقبلهم بأنفسهم. قاد الشباب الاحتجاجات وهم يحلمون بغدٍ أكثر إشراقاً، غير مدركين حجم المعوقات التي ستعترض طريقهم، ومدى صعوبة تحويل الشعارات إلى واقع ملموس.
أحد هؤلاء الشباب، واسمه علي، كان في مقتبل العشرينيات من عمره، وكان يحلم بإكمال دراسته في الهندسة والعمل في شركة محلية، ربما تساعده على مساعدة أسرته. يقول علي: "كنتُ أعمل في مقهى صغير لصاحب الحي لأوفر بعض المال لدراستي، لكن كنت أشعر أنني أضيع وقتي على شيء لن يحدث. سمعتُ عن أصدقائي ممن تخرجوا وهم لا يزالون يبحثون عن عمل. حتى صديقي الذي تفوق في الجامعة لم يجد وظيفة، فكان الوضع يدفعنا نحو اليأس.".
عندما اندلعت أولى المظاهرات، انضم علي للمتظاهرين في ساحة التغيير، وكان يُردد شعارات تعبر عن رفضه لهذا الواقع الصعب. "كنت أردد: ’يا نعيش بكرامة، يا نموت بشرف". لأول مرة في حياتي، شعرت أنني لست وحيداً، وأن هناك كثيرين يتشاركون نفس الحلم.
لم تكن مشاعر الغضب مجرد مشاهد غريبة؛ بل كانت تراكمات جروح قديمة زادت من قوة اللهب الذي اشتعل في الساحات استيقظ الأمل الكامن لدى الشباب اليمني في إمكانية كسر القيود، وتحقيق العدالة، وتغيير الواقع. شعر اليمنيون، وللمرة الأولى، أن بإمكانهم صياغة مستقبلهم بأنفسهم. نزلوا إلى الشوارع حالمين بغد أكثر إشراقاً، ومؤمنين أن لديهم الحق في حياة كريمة ومستقبل مشرق.
التحديات الكبرى.. ما الذي وقف في وجه التغيير؟
ورغم أن الحلم كان واعداً، إلا أن الطريق نحو بناء دولة ديمقراطية كانت مليئة بالأشواك، حيث اصطدمت الأماني بعراقيل ضخمة تجسدت في تداخلات معقدة بين التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية، إلى جانب التدخلات الخارجية. هذه التحديات لم تترك للثورة مساراً مفتوحاً، بل كانت كالحواجز التي تحول دون تحقيق الحلم المنشود.
قد يكون وصف اليمن في هذه الفترة كـ"ساحة للحسابات السياسية" أمراً واقعياً، حيث وجد اليمنيون أنفسهم محاصرين بين توجهات سياسية متضاربة، ورؤى متعارضة بين مختلف الأطراف. كانت هذه الانقسامات امتداداً لصراعات أيديولوجية وجغرافية قديمة، حيث اشتد الصراع بين فصائل الشمال والجنوب، وبين القوى التقليدية والقوى الصاعدة بعد الثورة.
رغم اتفاقيات التسوية التي تمت برعاية إقليمية، إلا أن الهوة بين الفرقاء السياسيين ظلت عميقة، وغلبت المصالح الحزبية على المصلحة الوطنية. وكلما اقتربت الأطراف من نقطة وفاق، ظهر خلاف جديد يعيق التقدم، مما أثقل كاهل الدولة وجعل الطريق نحو الديمقراطية أكثر تعقيداً.
أملٌ محاصر بالخوف
لم يكن اليمن وحيداً في مواجهة هذا التحدي، بل أصبح الأمن هو العائق الأساسي الذي يمنع التحول السلمي. مع تزايد نشاط الجماعات المتطرفة، مثل تنظيم القاعدة وحركة أنصار الله (الحوثيين)، تراجعت أحلام الاستقرار، وأصبح المواطنون يخشون على حياتهم بشكل يومي. انفجر العنف في مختلف أنحاء البلاد، وتحولت الصراعات المسلحة إلى أمر يومي، يُضاف إلى معاناة المواطنين.
شباب الثورة وجدوا أنفسهم في وجه العنف، فبدلاً من أن يروا الدولة الديمقراطية التي نادوا بها، وجدوا أنفسهم بين نيران النزاعات المسلحة، ما جعل عملية بناء الدولة مستحيلاً في ظل الخوف والقلق.
كان الوضع الاقتصادي المتردي أيضا أحد المحفزات الأساسية للثورة، ولكن بعد مرور سنوات على انطلاق الربيع العربي، ازداد هذا التحدي تعقيداً. يعيش اليمنيون واقعاً اقتصادياً يزداد سوءاً يوماً بعد يوم، حيث البطالة في ارتفاع، ومعدلات الفقر تجاوزت الخطوط الحمراء، وبات الحصول على قوت اليوم تحدياً كبيراً أمام كثير من الأسر.
في كل بيت، هناك قصة من معاناة البسطاء. فتاة كانت تحلم بإكمال دراستها، وشابٌ كان يرنو إلى فرصة عمل كريمة، وأبٌ يكافح لتوفير احتياجات أسرته الأساسية. لم يكن انهيار الاقتصاد مجرد رقم أو إحصائية، بل كان واقعاً يومياً يعاني منه الجميع. ومع استمرار النزاعات المسلحة، بات تحقيق الاستقرار الاقتصادي أقرب إلى الحلم منه إلى الواقع.
التدخلات الإقليمية والدولية.. لعبة الأيادي الخفية
اليمن، الذي يقع في قلب المنطقة العربية ويتمتع بموقع استراتيجي يطل على أحد أهم الممرات المائية، وجد نفسه ضحية لصراع نفوذ قوى إقليمية ودولية، ساهمت في تعميق الأزمات الداخلية وأشعلت الفتن بين الأطراف المختلفة. فبمجرد اندلاع الصراع الداخلي في اليمن، بدأت دول مثل السعودية وإيران تنخرط في الصراع بدوافع تتجاوز حدود اليمن ذاته.
تمثل السعودية وإيران القوتين الرئيسيتين اللتين تتنافسان على بسط نفوذهما في اليمن، وذلك ضمن نزاعهما الإقليمي الأكبر. السعودية، التي ترى اليمن كعمق استراتيجي لأمنها القومي، لم تتوانَ عن التدخل لدعم الحكومة الشرعية ومواجهة حركة الحوثيين التي تتلقى دعماً من إيران. وجدت السعودية في هذا الصراع ضرورة لحماية حدودها الجنوبية من أي تهديد محتمل قد يأتي من حلفاء إيران في اليمن، مما دفعها إلى تشكيل تحالف عسكري وشن عمليات عسكرية كبيرة بهدف منع الحوثيين من السيطرة على البلاد.
من جانب آخر، سعت إيران إلى استغلال الأوضاع في اليمن لتعزيز نفوذها في المنطقة، حيث دعمت الحوثيين ووفرت لهم المساعدات العسكرية والسياسية، مما ساهم في تعزيز قوتهم وتوسيع رقعة نفوذهم في الشمال، خاصة في العاصمة صنعاء. كما أن هذا الدعم مكّن الحوثيين من التمسك بموقفهم تجاه التحالف السعودي، وزاد من قدرتهم على الصمود في وجه العمليات العسكرية.
لم تقتصر التدخلات الخارجية في اليمن على القوى الإقليمية، بل كان للدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، دور بارز في الصراع. فباعتبار اليمن موقعاً حيوياً يؤثر على أمن الملاحة الدولية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، تدخلت الولايات المتحدة لاعتبارات أمنية وسياسية، حيث شنت عمليات ضد الجماعات المتطرفة مثل تنظيم القاعدة، كما دعمت التحالف الذي تقوده السعودية. ورغم أن هذه التدخلات جاءت بحجة مكافحة الإرهاب، إلا أنها أدت إلى تعقيد الوضع الأمني، وزادت من معاناة المدنيين.
إضافة إلى ذلك، كانت الدول الأوروبية تتخذ موقفاً حذراً، حيث حاولت التوفيق بين مصالحها الاقتصادية المتمثلة في بيع الأسلحة إلى دول التحالف، وبين الضغوط الإنسانية التي تطالب بوقف الحرب ومعالجة الأزمة الإنسانية. أدى هذا الموقف المتناقض إلى المزيد من التعقيد في المشهد السياسي اليمني.
الأطراف المحلية.. أدوار تتغير تحت الضغط الخارجي
أصبحت الأطراف اليمنية المحلية مجرد أدوات في لعبة الصراع الإقليمي والدولي، حيث وجدت الفصائل المتنازعة نفسها تعتمد على دعم من قوى خارجية لضمان بقائها في ميدان الصراع. وبدلاً من التركيز على بناء الدولة وتحقيق استقرار اليمن، باتت هذه الفصائل غارقة في تحالفات معقدة ومتقلبة تحكمها مصالح القوى الخارجية.
النتيجة.. اليمن كضحية لحروب بالوكالة
أدى هذا التدخل الإقليمي والدولي إلى تحويل اليمن إلى ساحة لصراع نفوذ أكبر من قضاياه الداخلية، حيث غدت القوى المتنازعة منشغلة بموازين القوى الخارجية على حساب طموحات الشعب اليمني في السلام والاستقرار. تفاقمت الأزمة الإنسانية وانتشرت المجاعة والأوبئة، في حين تراجعت فرص الحلول السلمية.
أصبح المشهد في اليمن وكأنه رقعة شطرنج سياسية تحركها أصابع قوى كبرى، بينما يتحمل المواطنون اليمنيون العبء الأكبر من المعاناة. إن خروج اليمن من هذا الصراع يتطلب تحييد هذه التدخلات، والتركيز على بناء دولة مستقلة ذات سيادة، تحمي مصالح شعبها وتضمن له الحياة الكريمة.
الأمل في بناء دولة ديمقراطية
اليمنيون يدركون اليوم أن بناء دولة ديمقراطية يتطلب أكثر من مجرد شعارات؛ يتطلب إرادةً حقيقية من جميع الأطراف. إنهم يحلمون بدولة تضمن حرية التعبير والمشاركة السياسية، دولة تكفل العدالة الاجتماعية وتعزز سيادة القانون، ويستطيع المواطن فيها أن يشعر بالأمان والاستقرار.
اليمنيون يدركون اليوم أن بناء دولة ديمقراطية يتطلب أكثر من مجرد شعارات؛ يتطلب إرادةً حقيقية من جميع الأطراف. إنهم يحلمون بدولة تضمن حرية التعبير والمشاركة السياسية، دولة تكفل العدالة الاجتماعية وتعزز سيادة القانون، ويستطيع المواطن فيها أن يشعر بالأمان والاستقرار.في بلد يواجه أزمة اقتصادية خانقة، يبقى الأمل في تحقيق تنمية حقيقية هو الباعث لكثيرين للاستمرار. يعلم اليمنيون أن التنمية الاقتصادية ليست رفاهية، بل هي حاجة ملحة لاستقرار المجتمع. من خلال جهود محلية ودولية من الممكن تحسين الاقتصاد وخلق فرص عمل، وإعادة بناء البنية التحتية، مما سيسهم في تحسين مستوى المعيشة ويخفف من معاناتهم اليومية.
دور الشباب.. الأمل الذي لا يموت
الشباب الذين بدأوا الحراك لم يفقدوا إيمانهم في التغيير. هم عماد هذا الوطن، وقوته التي لا تنضب من رحم المعاناة، يستمر الشباب في رفع أصواتهم، في الدفاع عن حقوقهم وحقوق وطنهم. هم يعتقدون أن التغيير ممكن، وأن بناء اليمن الجديد يتطلب إرادة وعملاً مستمراً، فمهما كانت التحديات، يبقى الأمل قائماً في نفوسهم، ليكونوا جزءاً من التغيير الذي نادوا به منذ اللحظة الأولى.
خاتمة.. اليمن وطن الصمود وأرض الآمال المتجددة
رغم المحن والجراح العميقة التي أثخنت جسد اليمن، يظل هذا الوطن رمزاً للصمود والكرامة، حياً بنبض أهله وصبرهم العجيب على المآسي، ومستعداً لمواجهة أعتى التحديات. على مدار سنواتٍ طويلة، واجه اليمنيون حرباً من الأزمات، تضافرت فيها العوامل الداخلية مع التدخلات الخارجية، ومع ذلك لم تفقدهم الأزمات إيمانهم بوطنهم ولا تلاشت تطلعاتهم إلى العدل والسلام.
يمضي اليمن اليوم نحو مستقبلٍ مثقلٍ بالاختبارات، لكنّ الأمل يظل وقود هذا الشعب الطامح إلى حياة أفضل، والذي لا يزال يؤمن بأن تحقيق الديمقراطية والكرامة والحرية هو هدف يستحق النضال، مهما بدا بعيد المنال. كل لحظة تمر على اليمنيين تبني في نفوسهم طبقات جديدة من الصبر والإرادة، وكأن هذه السنوات العصيبة تعمل على تشكيل ملامحهم بصلابة نادرة. إنهم يعلمون أن الوصول إلى الديمقراطية ليس طريقاً سهلاً، بل ميدان يختبر فيه الشعب قدرته على التغيير والبقاء.
يرى اليمنيون أن أحلامهم قد تكون مؤجلة، لكنها لم تمت، وأن بناء دولة حديثة تعبر عن إرادة الشعب، وتحمي حقوق الأجيال القادمة، هو حلم يستحق التمسك به. ولعلّ ما يميز هذا الطموح هو إدراكهم لضرورة استيعاب الدروس، من التجارب المريرة التي خاضوها، سواء في الوحدة الوطنية أو في مواجهة الفساد والاستبداد. فهم يعرفون اليوم أن المصالحة الداخلية، وتجاوز الخلافات، وترسيخ العدالة، هي الطريق الأمثل لاستعادة اليمن مكانته، وتجنب دوامة الصراع.
وفي قلب كل هذه التطلعات، يدرك الشباب الذين بدأوا الاحتجاجات الأولى أن مسؤوليتهم لا تنتهي بالتعبير عن الآمال، بل تمتد إلى تحمل المسؤولية، وبناء جسور التفاهم، والسعي لمستقبل يُعلي مصلحة اليمن فوق أي مصلحة شخصية أو خارجية. هؤلاء الشباب، بروحهم الطموحة، هم بمثابة الشعلة التي ستضيء الطريق نحو التغيير، حين تتحقق الظروف المواتية، وحين تستعيد اليمن عافيتها السياسية والاقتصادية.
في النهاية، يبقى اليمن أكبر من أن يضعف تحت وطأة الاستبداد، وأقوى من أن ينكسر أمام محاولات الهيمنة والاستغلال. إنها قضية شعب آمن منذ القدم بقيم الحرية والاستقلال، ويعلم اليوم أن وطنه يحتاج لكل ذرةٍ من إرادته، ولكل قطرة من عزيمته. ومع كل هذه التحديات، يظل السؤال الكبير مفتوحاً: هل يستجيب القدر يوماً لإرادة هذا الشعب؟ هل يرى اليمنيون الحلم الذي طال انتظاره وقد صار حقيقة؟
ربما لن تكون الإجابة واضحة قريباً، لكن إيمان اليمنيين بوطنهم يجعل هذا الحلم ممكناً، مهما طال الزمن.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الثورة اليمن اليمن ثورة سياسة رأي تداعيات مقالات مقالات مقالات مقالات صحافة سياسة سياسة صحافة من هنا وهناك اقتصاد سياسة صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة بناء دولة دیمقراطیة الیمنیون أن الیوم أن فی الیمن أن بناء فی وجه بل کان
إقرأ أيضاً:
الإصلاح العلماني والعلمنة.. مشاتل التغيير (7)
ضمن فكرة الإصلاح الديني (الغربية) ومن جراء خبرة الكنيسة، وُلدت الفكرة العلمانية أو اللائكية، في سياق مركزية الغرب الذي أنشأ مفاتيح حضارته، وواحد من أهم تلك المفاتيح هي المسألة العلمانية، والتي أرادت الحضارة الغالبة أن تجعلها محكا فاصلا فربطت العلمانية بالحداثة، وكل معاني التقدم، بينما جعلت من الدين أمرا متروكا أو هامشيا فحددت مكانة الدين ضمن المسألة الحضارية الأوسع. وكعادة كل المفاتيح لهذه الحضارة الغالبة تنطلق في البداية للترويج للمصدر، ثم تنتقل إلى المذهبية (ism) ثم تتحول إلى العملية في سياق نشرها والترويج لها ضمن نمط الحياة فمن "Secularity" إلى "Secularism" إلى "Secularization". إنها خطة الغلبة ضمن مفاهيمها الحضارية لتشكيل نمط الحياة للحياة الإنسانية قاطبة، وفي سياق تعميم الحالة العولمية.
تطرح العلاقة بين "الإصلاح الديني والعلمانية" ثلاثة أسئلة ضمنية وأساسية، الأول "حول جوهر الإصلاح الديني: عن أي "إصلاح ديني" نتحدث؟ وقد عالجنا ذلك في مقالنا السابق والثاني حول مفهوم "العلمانية": ما العلماني؟ والثالث حول العلاقة بينهما: هل ثمة علاقة تلازم بين "الإصلاح الديني" و"العلمانية"؟ معالجة هذه الأسئلة الثلاثة هو المسلك الصواب في إرساء قواعد منهج النظر ومناهج التناول والبحث فحصا ودرسا ومناهج التعامل مع الواقع والميدان الفعلي. معالجة ذلك يمكن أن يتم من خلال ثلاثة محاور رئيسة، حيث تناول المحور الأول مفهوم العلمانية، في حين تناول المحور الثاني الإصلاح الديني، وخصصنا المحور الثالث لبحث العلاقة بينهما. وهي معالجة استلزمت على صعيد المنهج، إعادة التفكير نقديا في مفاهيم "الديني" و"العلماني"، واستصحاب المراجعات الجذرية التي تم إنجازها في حقل دراسات "ما بعد العلمانية" بهذا الخصوص.
مع إصرار على مفردة العلمانية ضمن التباس يتعلق بحركة الحروف بالفتح أو الكسر، أو التباس يتعلق بالخبرة التاريخية المتعلقة بـ"رجال الدين" وفكرة الوساطة الكهنوتية والتحكم الكنسي؛ بات ذلك يشكل معضلة معرفية، وكذلك معضلة تتعلق بالممارسة الحياتية وتؤشر إلى وضع الدين ومكانته في الحياة إغفالا بالجملة أو تهميشا في مجمل الحياة
وما نؤكد عليه هو ضرورة توخي الحذر في التعاطي مع مصطلحي "الإصلاح الديني" و"العلمانية". فهناك وجهات نظر مختلفة ومتنوعة عن "الإصلاح الديني" وعن "العلمانية" كذلك، ولذلك من الخطأ بمكان، أن يتم التعاطي مع أي منهما بوصفه يمثل مقولة واحدة كلية متجانسة مغلقة ومستقرة دلاليا، فإننا بذلك سنجازف ببساطة بملء مقولة "الإصلاح الديني" أو "العلمانية" بمجموعة من وجهات النظر المتنوعة والمتباينة عن بعضها البعض، وهو مسلك يفضي في النهاية إلى اللبس والخلط والغموض وسوء الفهم". يؤكد ذلك مقال "الإصلاح الديني والعلمانية"؛ للأستاذ حسن مجدي عز الدين.
العَلْمانية والعالَمانية أو اللائكية والدنيوية أو اللادينية على ما يطلق البعض؛ هي المبدأ القائم على فصل الحكومة ومؤسساتها والسّلطة السّياسيّة عن السّلطة الدّينيّة أو الشّخصيّات الدّينيّة. تعرف العلمانية كمبدأ ومنهج فكري يرى أن التفاعل البشري مع الحياة يجب أن يقوم على أساس دنيوي وليس دينيا. ويروج للعلمانية بشكل شائع على أنها فصل الدين عن شؤون الحياة ومنها الدولة، ويمكن توسيعها إلى موقف مماثل فيما يتعلق بالحاجة إلى إزالة أو تقليل دور الدين في أي مجال عام.
تختلف مبادئ العلمانية باختلاف أنواعها، فقد تعني عدم قيام الحكومة أو الدّولة بإجبار أيّ أحدٍ على اعتناق وتبنّي معتقدٍ أو دينٍ أو تقليدٍ معينٍ لأسباب ذاتيّة غير موضوعيّة. كما تكفل الحقّ في عدم اعتناق دينٍ معيّنٍ وعدم تبنّي دينٍ معيّنٍ كدينٍ رسميٍّ للدّولة، وحماية الدولة للأقليات الدينية ومساواتها بباقي المواطنين في الحقوق والواجبات بغض النظر عن الدين أو المذهب. وبمعنى عامّ، فإنّ هذا المصطلح يشير إلى الرّأي القائِل بأنّ الأنشطةَ البشريّة والقراراتِ -وخصوصا السّياسيّة منها- يجب أن تكون غير خاضعة لتأثير المُؤسّسات الدّينيّة.
وقد تضمن كتاب "الأصول التاريخية للعلمانية" أن العَلْمانية في العربيّة منسوبة إلى "عَلْم" على غير قياس بمعنى عالم، كذلك عالمانية مشتقة من "عالم"، مع ذلك "علمانية" هو المصطلح الأكثر رواجا واستخداما في العالم العربي خصوصا من قبل العلمانيين أنفسهم.
العلمانية: تقرأ وتكتب بفتح العين (العَلمانية) وهي مشتقة من كلمة العالَم بمعنى الدنيا، وليس كما هو شائع بكسر العين من العلم، وهي الترجمة العربية لكلمة "Secularism" التي تعرفها دائرة المعارف البريطانية بأنها حركة تهدف إلى صرف الناس عن الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بالدنيا.. وقد تطورت لتصبح حركة مضادة للدين والمسيحية خاصة.
لم تنشأ العلمانية بهدف العلم، بل ردة فعل على الفكر المسيحي الذي عاشته أوروبا طوال العصور الوسطى منذ سقوط روما عام 476م وحتى بداية عصر النهضة، ونشأتها مرتبطة أساسا بالدين المسيحي والتاريخ الأوروبي الوسيط والحديث. إن العلمانية الأوروبية ظهرت نتيجة تفاعلات دينية وتاريخية عبر قرون طويلة حددت سماتها وما وصلت اليه، فهي بنت الظروف التي ظهرت فيها وتفاعلت معها وليست وصفة جاهزة، وما حاوله العلمانيون العرب ولا زالوا من نقل نتائج العلمانية الأوروبية وإسقاطها على الواقع العربي متجاهلين اختلاف الظروف الموضوعية بين هنا وهناك، هو كمن يقدم وصفة طبية لنفسه وصفها الطبيب لجاره.
وغالبا ما عانت هذه المفاهيم من لبس شديد من جراء ليس فقط وضعها، بل عمليات نقلها في سياق ترجمتها. فهي لدى جمال الدين الأفغاني الدهرية، ثم ربطها من خلال بعض الترجمات بالعلم، أي تصريف الكلمة وارتباطها بالعلم وتنسيبها إلى ذلك، والبعض ينسبها إلى العالم وهو الأصح تنسيبا، حتى أن الدكتور زكي نجيب محمود قد كتب مقالا اتخذ له عنوانا "عين فتحة عا"، وبدا للبعض كذلك استقاء من قصة المفهوم التي تشير إلى الشخص الذي لا يرتدي الملابس الكهنوتية المرتبط بالحياة الدنيا الاعتيادية "الدنيوية" أو لا يرتبط بالدين جوهرا أو طقوسا، فاتخذ لذلك معنى "اللادينية" ضمن إشارات واضحة قد تؤدي ليس عملية رفضها لا تمريرها.
ومع إصرار على مفردة العلمانية ضمن التباس يتعلق بحركة الحروف بالفتح أو الكسر، أو التباس يتعلق بالخبرة التاريخية المتعلقة بـ"رجال الدين" وفكرة الوساطة الكهنوتية والتحكم الكنسي؛ بات ذلك يشكل معضلة معرفية، وكذلك معضلة تتعلق بالممارسة الحياتية وتؤشر إلى وضع الدين ومكانته في الحياة إغفالا بالجملة أو تهميشا في مجمل الحياة. وانتقل مفهوم العلمانية من بعد إلى السياسة ومفهوم الدولة والديموقراطية والمجتمع المدني والأقليات ليضمن عراكا وصراعا مستمرا، وجعل من الغرب قبلته في عالم المفاهيم تلك، وبات الصراع الفكري مدججا بالسلاح يخوض حروبا أهلية فكرية، واتسعت مساحات التربص ولم تعد هناك أي مساحات معتبرة للحوار وفق أصول علمية.
ثم كان التلبيس وحال الغموض في التداول والاستعمال، فكانت واحدة من أهم مساحات الاشتباك الفكري والمعرفي والحضاري في مسألة النهوض تعميما وتنميطا. فالعلمانية صارت في عرف المركزية الغربية محاكاة لموقفها من الدين ومكانته وتأثيراته وفعاليته بالإغفال كلية أو بالتهميش تعمدا، ضمن خطة معهودة في هذا المقام، تتحرك من مسألة المبنى أو اللفظ إلى مساحات المعنى والتأويل، والمغزى الذي تحمله الحضارات في مسيرتها وبنائها الحضاري، وكذلك ضمن التعامل المنظومي للعلمانية وارتباطها بمجموعة من المفاهيم المرتبطة بالمركزية الغربية.
تتضمن العلمنة العملية التاريخية التي يفقد فيها الدين الأهمية الاجتماعية والثقافية، حيث يصبح دور الدين في المجتمعات الحديثة محدودا كنتيجة للعلمنة؛ في المجتمعات العلمانية، يفقد الإيمان سلطته الثقافية، مع إضعاف القوة الاجتماعية للمنظمات الدينية. وتلقف العلمانيون العرب المفهوم ليرفعوا شعار "علمنة الإسلام"، في مواجهة أخرى تحرك كل نوازع الصراع والحروب الفكرية
فالمفاهيم والكلمات وفقا لما يذكرنا به مصطفى صادق الرافعي كالجيوش لا تأتي أبدا فرادى، بل تأتي بكامل تشكيلاتها ومنظوماتها. إلا أن هذا المفهوم مع حالة الفوضى في التعاطي معه والمستويات المتفاوتة فيه والاستخدام المقيت للعلمانية الفجة التي صارت عملا إلحاديا يفرض نفسه قسرا على كافة مساحات الحياة والمجتمع، على ما يشير إليه الدكتور عبد الوهاب المسيري في مفهومه الذي أطلقه بالعلمانية الشاملة؛ صار مفهوما ليس فقط سيئ السمعة بل حمل حمولة سلبية لا يمكن للعقل المسلم العام تقبله؛ وكان تلونه وتسربه وعمليات ترويجه وتزيينه ضمن عملية التفافية تحرض على نقض الأصول تحت غطاء معرفي زائف بممارسة المنهج النقدي؛ بينما برز المفهوم كأحد مفاهيم المركزية الغربية والتبعية الفجة للمنظومة الغربية. كل ذلك جعل رفضه أمرا سائغا بل مفروضا؛ وصار بالتالي أمرا مرفوضا.
مفهوم العلمانية نموذجا في هذه الحالة يؤشر بوضوح على تلك الحالة المعرفية والفكرية والثقافية وجملة الحالة الحضارية، ضمن أهدافها وتثبيت المركزية الغربية واحتكارها لمفاهيم ذات طبيعة فطرية وإنسانية مثل التعددية وغيرها من مفاهيم، فباتت الفكرة العلمانية ليست مجرد مفهوم، بل هي تعبر في حقيقة أمرها عن مشروع حضاري أو ركن منه وفيه، يتوسل آليات الترويج والتمرير، بل وأحيانا القسر في محاولة التأثير، تحت عنوان العلمنة التي عنت تحول مجتمع ذي هوية وثيقة الصلة بالقيم والمؤسسات الدينية نحو القيم غير الدينية والمؤسسات العلمانية، والاعتقاد بأنه مع تقدم المجتمعات، لا سيما من خلال التحديث أو الترشيد، يفقد الدين سلطته في جميع جوانب الحياة الاجتماعية والحكم الرشيد.
تتضمن العلمنة العملية التاريخية التي يفقد فيها الدين الأهمية الاجتماعية والثقافية، حيث يصبح دور الدين في المجتمعات الحديثة محدودا كنتيجة للعلمنة؛ في المجتمعات العلمانية، يفقد الإيمان سلطته الثقافية، مع إضعاف القوة الاجتماعية للمنظمات الدينية. وتلقف العلمانيون العرب المفهوم ليرفعوا شعار "علمنة الإسلام"، في مواجهة أخرى تحرك كل نوازع الصراع والحروب الفكرية.
بين العلمانية والعلمنة وطبعة الإصلاح العلماني بدت كل تلك الحالة المرضية بأسبابها وأعراضها تعود بذات الأسئلة والمشاكل والقضايا والمفردات، خاصة عندما تلوح فرصة جديدة للتغيير فتسهم بحالة من الإشغال والاشتغال عن قضايا استراتيجية وقضايا حالة تفرض نفسها مثل قضايا المعاش "ٱلَّذِيٓ أَطۡعَمَهُم مِّن جُوعٖ وَءَامَنَهُم مِّنۡ خَوۡفِۭ" (قريش: 4)؛ فتسمم الأجواء وقد توأد الفرصة في مهدها وربما تفوت؛ في مسار إصلاح حقيقي لتغيير إيجابي.. وللحديث بقية.
x.com/Saif_abdelfatah