بقلم : سمير السعد ..

شاعر الاغتراب والحنين الذي صوّر وجعه على وتر الحياة و في زوايا مدينة الناصرية، تلك الأرض الخصبة بالإبداع والموشومة بحكايات العشق والخيبات، وُلد الشاعر جبار الغزي. شابٌ حمل في قلبه روحًا حساسة عكست وجدان الجنوب الجريح. لم تكن مسيرته إلا سلسلة من محطات الألم والاغتراب، حفرها الزمن بيدٍ قاسية في ملامحه وروحه.

في مطلع شبابه، وقع الغزي في حب فتاة جميلة أخلاقًا وشكلاً، ارتبطت مشاعرها به تأثرًا بعذوبة كلماته ودفء روحه الشاعرية. كان يخطّ لها قصائد تشبه ندى الصباح، ويرسلها كرسائل حب تفيض بالعاطفة. لكنها، كأغلب قصص العشق المأساوية، انتهت برفض قاطع من أهلها، تاركين جبارًا في مواجهة الفراغ العاطفي والخذلان.
لم يستطع أن يجتاز هذه النكسة بسهولة. هرب إلى بغداد، محاولًا دفن جرحه بين دروبها الصاخبة، ولكنه لم يجد في شوارعها وأزقتها سوى غربته التي صارت رفيقة ليله ونهاره. هناك كتب واحدة من أعذب قصائده، “غريبة الروح”، التي أظهرت عذابه الداخلي وصراعه مع الذكريات !

“غريبة الروح لا طيفك يمر بيها
ولا ديره التلفيها
صفت وي ليل هجرانك ترد وتروح
عذبها الجفه وتاهت حمامة دوح”

وسط هذا التيه، حملت بغداد له لقاءً يعيد دفءًا مؤقتًا لروحه، حين التقى أمه تحت نصب الحرية بعد سنوات طويلة من الفراق. كان المشهد أشبه بمسرحية حزينة، حيث اجتمع العناق بين دموع الفقد وشوق اللقاء. عكست هذه اللحظة جبار الإنسان، الذي حمل أوجاع الوطن وفقد الأحبة في آنٍ واحد.
مع مرور الوقت، تحوّل الحنين إلى حالة مستديمة في حياة الغزي. كان يتمنى عودة محبوبته، ولو كغريبة تعبر دروب بغداد. حمل في داخله شوقًا مكابرًا، كالعطش للماء الذي لا يرتوي أبدًا ! .

“تحن مثل العطش للماي تحن
ويلفها المكابر
ويطويها وانت ولا يجي ببالك
تمر مرة غرب بيها واهيسك جرح بجروحي
يمرمرني وتحن روحي”

حين كتب “غريبة الروح”، لم تكن مجرد كلمات على ورق؛ بل كانت هوية شعرية تحمل توقيعه الأبدي. جسّد الفنان حسين نعمة هذه المشاعر بصوته، مانحًا النص حياة جديدة تتخطى حدود الكلمات. أضاف الموسيقار فرحان محسن لحنًا يمزج بين الحزن والشجن، ليصبح العمل مرآةً صادقة لروح الغزي.

رغم محاولات الغزي لتجاوز خساراته، بقيت روحه غريبة في هذا العالم. استمر وجعه كشاعر يعكس معاناة كل من عاش الغربة والفقد. ربما لم ينصفه الزمن، لكن أعماله ستظل شاهدة على شاعر جعل من الحزن إبداعًا، ومن الألم قصيدة خالدة.
هكذا، يبقى جبار الغزي رمزًا إنسانيًا يحمل تفاصيل حكاية وطن بأكمله، حيث الحب والخذلان، الغربة والحنين، والشعر الذي يخلد الأرواح المتعبة.

رحلة الغزي لم تكن رحلة فردية، بل كانت انعكاسًا لمأساة جيلٍ بأكمله. جيل عاش تحت وطأة الظروف القاسية التي مزجت بين الحروب والخذلان والهجرة القسرية. في كل بيت شعري كتبه، كان ينطق بلسان المحبين المحطمين، وبصوت كل غريب حمل قلبه عبء الذكريات.
قصائده لم تكن مجرد كلمات عابرة، بل صور شعرية مؤثرة عكست شعوره بالضياع والخذلان، وجعلت مستمعيه يشعرون وكأنهم جزء من قصته. كان الحزن حاضراً في كل حرف، كأن روحه نُقشت على الورق. لم يكن الغزي شاعرًا تقليديًا يكتب فقط للتسلية أو الوصف، بل كان شاعر القلب الجريح الذي استمد إلهامه من تجربة عاطفية وإنسانية عميقة.

على الرغم من النجاح الكبير الذي حققته قصائده، ظل الغزي أسير الحزن. لم تشفِ الشهرة جراحه ولم تملأ الفراغ الذي تركه حبّه الأول. حياته انتهت بمأساة لم تكن غريبة على مسيرته المليئة بالألم. ترك هذا العالم وهو لا يزال غريب الروح، باحثًا عن طيف محبوبته، وعن مدينته التي لم تلتئم جراحها في قلبه.
اليوم، وبعد عقود من رحيله، ما زالت كلماته تُتلى كأنها صلوات على أرواح المتعبين. “غريبة الروح” ليست مجرد قصيدة ، إنها مرآة لروحه ولأرواح كل من فقد شيئًا أو شخصًا أحبّه.
حمل الناصرية في قلبه وبغداد في غربته، ترك بصمة لا تمحى في تاريخ الشعر الشعبي العراقي. لم يكن مجرّد شاعر كتب عن الحب والفقد، بل كان صوتًا للروح العراقية المعذّبة، وصورة حيّة لصراع الإنسان مع أقداره.

ويبقى السؤال الذي تركه وراءه معلقًا في وجداننا ..
“هل يمكن للغريب أن يجد وطنًا لروحه، أم أن الغربة قدرٌ لا فرار منه؟”

سمير السعد

المصدر: شبكة انباء العراق

كلمات دلالية: احتجاجات الانتخابات البرلمانية الجيش الروسي الصدر الكرملين اوكرانيا ايران تشرين تشكيل الحكومة تظاهرات ايران رئيس الوزراء المكلف روسيا غضب الشارع مصطفى الكاظمي مظاهرات وقفات لم تکن جبار ا شاعر ا بل کان

إقرأ أيضاً:

حسن المطروشي ... معلّقة عمانيّة

تعود معرفتي بالصديق الشاعر حسن المطروشي الذي توّج فائزًا بالمركز الأول في برنامج «المعلّقة» في الشعر الفصيح، إلى قبل أكثر من ربع قرن، عندما استمعت إلى شعره في أمسية أقيمت بنادي (سداب) وأبهرتني ألفاظه التي يبرع في انتقائها، ورسم صور فنية مدهشة، مستدعيًا رموزًا من التاريخ العام والشخصي، ليصبّها في قالب تعبيري جديد، وبعد انتهاء الأمسية، أحببتُ أن أحيي الشاعر، الذي وجدت نفسي مشدودا إلى فضائه الشعري، فانتظرته، عند باب النادي، ولم يطل انتظاري، فقد جاء بصحبة الصديق الشاعر محمد البريكي الذي كان من بين المشاركين، وقد لفت نظري نصّه أيضا، فصافحتهما، وعلى الفور اتفقنا على لقاء قريب، وفيه طلبت الاطلاع على المزيد من شعره، فأهداني نسخة من ديوانه (قَسَم)، وهو الثاني له بعد ديوانه الأول (فاطمة)، وحين قرأت (قَسَم) وجدتُ أن طاقته الشعريّة أكبر منه، فالموضوعات لم تخرج عن السائد، إلّا في التعبير، والبناء المحكم، والانضباط العروضي، وكنتُ حريصًا على توضيح ذلك في لقائنا الجديد، ولكنني لم أكن أعرف كيف ستكون ردّة فعله، وحين التقينا، ودار حديث حول الديوان، قلت له رأيي بصراحة، وفوجئت بردّة فعله، فقد ضحك طويلا، وشاركني الرأي، وعلمت أن المناخ الشعري التقليدي السائد يملي، أحيانًا، على الشاعر مسايرته، فارتحت كثيرا لردّة فعله، وتقبّله الملاحظات، وإن كانت قاسية، هذا التقبل يعني أنه يمتلك ذائقة شعرية ونقدية عالية، وقد لاحظت أنه حين جمع أعماله الشعرية عام 2022م رفع ديوانيه الأول (فاطمة) والثاني( قَسَم) منه، وفي ذلك اللقاء، أسمعني نصوصا جديدة لم يكن قد دفعها للنشر بعد، فعاد انبهاري الأول به، وكانت تلك النصوص عربون صداقة بقيت مستمرّة لليوم، وأذكر أنني كنت يومها مراسلًا لأكثر من مطبوع عربي من بينها: مجلّة (الصدى) الإماراتية، و(الفينيق) الأردنيّة، و(الزمان) اللندنيّة، فأخذت عددًا من تلك النصوص، وبعثتها لتلك المطبوعات، ونشرت، وحين أقيم مهرجان (المربد) الشعري عام 2000م كان اسمه في مقدّمة الأسماء التي رشّحتها للمشاركة، إلى جانب الصديق البريكي والشاعر الراحل يحيى الإزكي والشاعر السوري هاني نديم، وفي بغداد التي احتضنت فعاليات المهرجان، حقّق المطروشي مع زملائه الحضور الذي كان متوقّعا، وعاد من بغداد بدعوة جديدة لبيت الشعر في الأردن من الشاعر الراحل حبيب الزيّودي -رحمه الله- وكان الزيّودي من المشاركين في المهرجان، ووجد في صوت المطروشي الشعري ما يعزّز المهرجان، ثم شارك المطروشي، في مسابقة مجلة الصدى الإماراتية، ونال المركز الثاني، وفي (دبي) التقى بالفائزين الذين يشكّلون اليوم علامات واضحة في المشهد الشعري العربي، ومن بينهم: جاسم الصحيح وعارف الساعدي، وأحمد بخيت، وعماد جبار، وعامر عاصي، وتوالت مشاركاته خارج سلطنة عمان، ومن بينها مشاركته في ملتقى الشارقة الثالث للشعر العربي، الذي أقيم في الفترة ٦- ٨ أكتوبر ٢٠٠٣م، وأكّد تميّزه، ولم يتوقّف عند ذلك، فقد بذل جهودًا في القراءة، وخاض تجارب حياتية، وزاد احتكاكه بالتجارب الشعرية العربية المتحقّقة، فنضجت تجربته، وأصدر مجموعة من الدواوين من بينها: (وحيدًا .. كقبر أبي)، و(على السفح إيّاه)، و(لَدَيَّ ما أنسى)، و(مكتفيا بالليل)، و(ليس في غرفتي شبح)، و(أحدّق باتّجاه الريح)، وأنجزت عن شعره أطروحة ماجستير بعنوان (الصورة الفنية في شعر حسن المطروشي) للباحث راشد السمري، وأخرى بعنوان (التناص في مجموعة «وحيدا .. كقبر أبي») للباحثة فتحية السيابية، وترجمت أعماله الشعرية إلى عدّة لغات، منها النصوص التي ترجمها الشاعر الفلسطيني نزار سرطاوي إلى الإنجليزيّة، وترجمت مجموعته الشعرية (لديّ ما أنسى) إلى الفرنسية، حيث قامت بترجمتها الشاعرة المغربية عزيزة رحموني، وصدرت ترجمة إسبانية لمختارات من شعره بعنوان (أطلّ عليكم من هذه الكوة) عن وزارة الثقافة بكوستاريكا.

اللافت في شعر المطروشي أنه يستقي رؤاه ولغته ورموزه من التراث العربي كونه تسلّح بثقافة تراثية قبل أن يفتح تجربته على هواء الحداثة:

«ما ليلةُ القدرِ؟

كانَ حمامكِ يهدلُ في مدخلِ الغارِ

حتى دنا مطلعُ الفجرِ

ثم تساءلتُ:

هل بلغتْ هِـجرتي سدرةَ المُـنتهى؟

كانت ظباؤكِ مَـذعورةً .. يا لها !»

يقول الدكتور إبراهيم السعافين: «شعر حسن المطروشي يضرب بجذوره في تراث الشعر العربي، ولكنه لا يقلد ولا يحاكي، بل يهضم ويمثّل، ثم يبدع ويجدّد، ويَمْضي شوطًا بعيدًا في دروب الحداثة، في الرؤية وَفي اللغة، من حيث المعجم والصورة والإيقاع»، ويستعين بالسرد، والحوار، والسؤال موظّفا تقنيّات القصيدة الحديثة في رسم المشهد الشعري:

«بلا شجرٍ أو حَمائمْ

وحيدًا كقبرِ أبي

تتقاسمني الليلَ عينان ِ نضَّـاختان ِ

ويهتفُ بي ناسِـكُ الرمل ِ:

( يا حاديَ العيس ِعـِّرج ... )

ولكنني حائرٌ،

أين ألقي بهذي الهزائمْ ؟

وحتى الغموض الذي نجده في بعض نصوصه سرعان ما يكشف عن رؤى عميقة، وفي ذلك يقول الشاعر الراحل محمد علي شمس الدين: إن المطروشي يكتب «قصائده بضبابية موحية، والضبابية في الشعر تقدّم منطق الاحتمالات الخصب على منطق اليقين المحدد».

وقد جاء تتويجه بجائزة (المعلّقة) تعزيزا لرحلة مع الكتابة الشعرية التي سلكها سائرا على هذا الطريق الصعب والطويل.

مقالات مشابهة

  • نجم العقرب
  • مسلسل الكابتن.. الزفة خطة المدرب أكرم حسني لتلبية طلب الروح الأولى
  • نائب رئيس جامعة الأزهر: النبي علّمنا الاعتدال بين مطالب الروح والجسد
  • نجم فم الحوت
  • حسن المطروشي ... معلّقة عمانيّة
  • كلمات رديئة لميثم راضي.. أن تكون شاعرًا عراقيًا
  • نجم العيوق
  • دفعوا بها لـ «الأمم المتحدة» .. «التغيير» تنشر مذكرة كُتّاب و أدباء و نشطاء سودانيين بشأن وقف الحرب
  • الغريب عبد الله قاضي… حين يموت الكبار في صمت الصغار
  • شعر عن يوم المرأة العالمي 2025