عربي21:
2025-03-06@14:50:56 GMT

أزمة السودان وخطاب الإقصاء

تاريخ النشر: 2nd, January 2025 GMT

في الذكرى التاسعة والستين لاستقلاله، لا يحتاج واقع الحال في السودان إلى كثير من التوصيف في ظل المعاناة الهائلة التي سببتها الحرب، والانقسام الحاد بين النخب السياسية، ولغة الإقصاء التي تعمق الأزمة وتعقد الحلول، لنبقى ندور في حلقة مفرغة بحثاً عن استقرار مفقود، ونهضة معطلة في بلد الفرص الضائعة بسبب صراعات النخب التي تأبى أن تنتهي.



منذ فجر الاستقلال في مطلع يناير (كانون الثاني) من عام 1956، شكلت النخب السياسية والعسكرية والمدنية والاقتصادية، حجر الزاوية في تشكيل مساره، وكانت خلافاتها وصراعاتها وإخفاقاتها، العقبة الكؤود أمام استقراره وتقدمه، وسبباً رئيسياً في استمرار أزماته ومعاناته، وتبديد ثرواته وإضاعة فرص تحقيق تنمية مستدامة رغم كل الإمكانات والموارد الهائلة المتوفرة للبلد.

قد يبحث الناس عن أعذار وأسباب أخرى مثل هشاشة الدولة، والانقسامات الموروثة منذ الاستقلال في بلد متعدد الهويات والثقافات، إضافة إلى التدخلات الخارجية، والنزاعات المسلحة، والفقر، وضعف البنية التحتية، وضعف الاستثمارات، وعدم الاستقرار في ظل متلازمة التناوب بين دورات حكم عسكري طويلة، وفترات حكم مدني ديمقراطي قصيرة.

كل هذه عوامل لعبت دوراً بلا شك، لكن فشل النخب يبقى عاملاً أساسياً في تعثر السودان. وأي محاولة أمنية لتحليل هذا الفشل وأسبابه، ستجد نمطاً متكرراً من الخلافات والصراعات المزمنة على حساب بناء الدولة، وعلى حساب تغليب الرؤية الوطنية المشتركة لبناء مؤسسات قوية، ولإدارة التنوع بما يجعله عامل قوة لا سبباً من أسباب الضعف والحروب المزمنة.

وسط كل ذلك يبرز الإقصاء بوصفه من أبرز السمات والأمراض التي طبعت أداء النخب السودانية منذ الاستقلال وحتى اليوم، ولعبت دوراً رئيسياً في تعميق أزماته ومشاكله. لم يقتصر الإقصاء على محاولات إبعاد الخصوم عن المشاركة السياسية، بل امتد إلى نواحٍ أخرى.

اجتماعياً؛ ظهر الإقصاء في التمييز على أسس قبلية وعرقية وجهوية ودينية، وفي سياسات التهميش للأطراف التي خلقت فجوة بين المركز والمناطق الأخرى ما أسهم في تأجيج الغضب المكبوت، واستغلته بعض الأطراف كورقة سياسية أو لإشعال الحروب، والمطالبة بالانفصال مثلما حدث في حالة الجنوب. اقتصادياً؛ عانى البلد من غياب التنمية المتوازنة، ما أدى إلى تركيز الاستثمارات والخدمات في دائرة ضيقة محورها العاصمة والمناطق القريبة منها، بينما أُهملت التنمية في الأقاليم، وبقيت المجتمعات الريفية تشكو من التهميش وتشعر بأنها لم تستفد من عائدات الموارد الطبيعية والثروات، وكثير منها متركز في مناطقها.

مع غياب رؤية وطنية جامعة، وفشل النخب في التوافق على مشروع جامع يعكس تنوع البلد، ويقود إلى تطوير رؤية توافقية حول كيفية الحكم وآلياته، بقيت الصراعات هي السمة السائدة، واستخدم الإقصاء أداة إما للوصول إلى السلطة، أو لإحكام القبضة عليها، بعزل وإضعاف المكونات الأخرى.

وظهر التأثير السلبي لذلك عندما أدت الصراعات السياسية إلى تسليم الحكم إلى العسكر بقيادة الفريق إبراهيم عبود في أول انقلاب يشهده البلد بعد عامين فقط من استقلاله لم يعرف خلالهما طعم الهدوء من المشاحنات السياسية.

استمرت هذه الدوامة ولم تفرز فترات حكم مدني قصيرة تعقبها فترات حكم عسكري طويلة فحسب، بل إنها أحبطت حتى الفترات الانتقالية التي أعقبت ثلاث ثورات شعبية حملت آمالاً عريضة أجهضتها صراعات النخب، ومناورات الإقصاء. وحتى لا نغوص عميقاً في التاريخ يمكننا النظر إلى مآلات الأمور منذ ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، وكيف أجهضت صراعات النخب وخطاب الإقصاء آمال الثورة وقوضت الفترة الانتقالية، واشتركت في تأجيج الأجواء بالشكل الذي أدى إلى الحرب، ويسهم الآن في تأجيجها.

وبينما يدفع المواطن المغلوب على أمره أبهظ الأثمان، تستمر الخلافات وتعاني الساحة السودانية من استقطاب حاد، ومن خطاب إقصائي ينذر باستمرار الأزمات حتى عندما تنتهي الحرب. فالحديث المتكرر الذي نسمعه عن حوار وطني شامل للخروج بالسودان من أزمته الراهنة، ومشاكله المعقدة، يبقى في الواقع أسير الخطاب الإقصائي. فليس خافياً على أحد أنه في لب هذا الصراع هناك من يرى أنه لا بد من إقصاء الإسلاميين (أو الكيزان) وتحجيم الجيش، بينما يرد الإسلاميون برؤية ترى في الحرب الفرصة للعودة إلى المشهد والتصدي لمحاولة إقصائهم عنه.

ما يحتاجه السودانيون الذين يتوقون لانتهاء الحرب وعودة الأمن والاستقرار هو وفاق شامل وحوار لا يستثني أحداً، بدلاً من المعادلات الإقصائية الصفرية التي قادت إلى مهلكة الحرب وتسهم في إطالة أمدها.

من دون هذا التوافق لن يتحقق للسودان الاستقرار المطلوب حتى لو توقفت الحرب؛ لأن جبلاً من التحديات سينتظره لإعادة الإعمار بعد الدمار الهائل الذي حدث. المصلحة الوطنية في هذا المفترق الحرج تقتضي تغليب لغة الوفاق، أما الإقصاء السياسي فينبغي أن يكون أمره للشعب عبر صناديق الانتخاب، إذا عرفنا كيف نصل إليها.

الشرق الأوسط

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه السودان الحرب الجيش السودان الجيش الحرب الدعم السريع سياسة مقالات صحافة سياسة سياسة من هنا وهناك اقتصاد سياسة صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة

إقرأ أيضاً:

إشتعال حرب في جنوب السودان سينعكس سلبا على السودان

كما لاحظ البعض، إشتعال حرب في جنوب السودان سينعكس سلبا على السودان. آخر ما تحتاجه الآن هو عدم وجود دولة على حدودك الجنوبية. ستكون بيئة خصبة مفتوحة لأعداءك، سيزداد تجنيد المرتزقة لمليشيا الجنجويد في حلفها الجديد، ولن تستطيع أن تشتكي لحكومة الجنوب ولا أن تشتكيها.

إذا كان لهب الحرب التي اشتعلت في الخرطوم قد انتقل إلى الجنوب كما يقول البعض وبفرح أحمق، فإن الحرب التي ستشتعل في الجنوب سترتد علينا مرة أخرى في شكل موجات لاجئين ومرتزقة وبيئة خصبة لمليشيا الدعم السريع المدعومة أماراتيا للتمدد والزحف من جديد إلى النيل الأزرق والنيل الأبيض وربما الجزيرة والخرطوم.
ليس لنا أي مصلحة في اشتعال الجنوب، العكس هو الصحيح.

نحن الآن مع التحرير المتسارع للأرض ودحر التمرد نتجه نحو الاستقرار والسلام، ولا نحتاج إلى حرب جديدة في حدودنا الجنوبية. لذلك، أضم صوتي إلى من ينادون بمساعدة الجنوب على احتواء أزماته الداخلية قبل أن تنفجر فينا جميعا؛ يجب أن نساعد الإخوة الجنوبيين للحفاظ على استقرار الجنوب. المرتزقة الجنوبيين الذين يحاربون حتى الآن مع الجنجويد في الخرطوم ليسوا سوى إفراز من إفرازات الحروب السابقة وعدم الاستقرار في جنوب السودان.

حليم عباس

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • «عرمان» يكشف تفاصيل توقيفه في نيروبي ويصف الاتهامات الموجهة إليه بـ«السياسية»
  • إشتعال حرب في جنوب السودان سينعكس سلبا على السودان
  • أزمة جديدة بجنوب السودان.. صراع عسكري واحتقان سياسي يهددان البلاد
  • الخطة القادمة اسوأ من الحرب!!
  • ما هي الرسائل السياسية التي تحملها زيارة الرئيس اللبناني إلى السعودية اليوم؟
  • هكذا تفاعل إسرائيليون مع جلسة الكنيست العاصفة وخطاب نتنياهو
  • ثلاثة قوانين جدلية جديدة.. أزمة قد تطفو على الساحة السياسية العراقية
  • محللون: جلسة الكنيست كشفت حدة أزمة نتنياهو واتساع هوة الخلاف الداخلي
  • ما هي الدول الأوروبية التي ستشارك في "تحالف الراغبين" من أجل أوكرانيا؟
  • ما هي الأسباب التي تعزز فرص الهجوم الإسرائيلي على إيران؟