في الذكرى التاسعة والستين لاستقلاله، لا يحتاج واقع الحال في السودان إلى كثير من التوصيف في ظل المعاناة الهائلة التي سببتها الحرب، والانقسام الحاد بين النخب السياسية، ولغة الإقصاء التي تعمق الأزمة وتعقد الحلول، لنبقى ندور في حلقة مفرغة بحثاً عن استقرار مفقود، ونهضة معطلة في بلد الفرص الضائعة بسبب صراعات النخب التي تأبى أن تنتهي.
منذ فجر الاستقلال في مطلع يناير (كانون الثاني) من عام 1956، شكلت النخب السياسية والعسكرية والمدنية والاقتصادية، حجر الزاوية في تشكيل مساره، وكانت خلافاتها وصراعاتها وإخفاقاتها، العقبة الكؤود أمام استقراره وتقدمه، وسبباً رئيسياً في استمرار أزماته ومعاناته، وتبديد ثرواته وإضاعة فرص تحقيق تنمية مستدامة رغم كل الإمكانات والموارد الهائلة المتوفرة للبلد.
قد يبحث الناس عن أعذار وأسباب أخرى مثل هشاشة الدولة، والانقسامات الموروثة منذ الاستقلال في بلد متعدد الهويات والثقافات، إضافة إلى التدخلات الخارجية، والنزاعات المسلحة، والفقر، وضعف البنية التحتية، وضعف الاستثمارات، وعدم الاستقرار في ظل متلازمة التناوب بين دورات حكم عسكري طويلة، وفترات حكم مدني ديمقراطي قصيرة.
كل هذه عوامل لعبت دوراً بلا شك، لكن فشل النخب يبقى عاملاً أساسياً في تعثر السودان. وأي محاولة أمنية لتحليل هذا الفشل وأسبابه، ستجد نمطاً متكرراً من الخلافات والصراعات المزمنة على حساب بناء الدولة، وعلى حساب تغليب الرؤية الوطنية المشتركة لبناء مؤسسات قوية، ولإدارة التنوع بما يجعله عامل قوة لا سبباً من أسباب الضعف والحروب المزمنة.
وسط كل ذلك يبرز الإقصاء بوصفه من أبرز السمات والأمراض التي طبعت أداء النخب السودانية منذ الاستقلال وحتى اليوم، ولعبت دوراً رئيسياً في تعميق أزماته ومشاكله. لم يقتصر الإقصاء على محاولات إبعاد الخصوم عن المشاركة السياسية، بل امتد إلى نواحٍ أخرى.
اجتماعياً؛ ظهر الإقصاء في التمييز على أسس قبلية وعرقية وجهوية ودينية، وفي سياسات التهميش للأطراف التي خلقت فجوة بين المركز والمناطق الأخرى ما أسهم في تأجيج الغضب المكبوت، واستغلته بعض الأطراف كورقة سياسية أو لإشعال الحروب، والمطالبة بالانفصال مثلما حدث في حالة الجنوب. اقتصادياً؛ عانى البلد من غياب التنمية المتوازنة، ما أدى إلى تركيز الاستثمارات والخدمات في دائرة ضيقة محورها العاصمة والمناطق القريبة منها، بينما أُهملت التنمية في الأقاليم، وبقيت المجتمعات الريفية تشكو من التهميش وتشعر بأنها لم تستفد من عائدات الموارد الطبيعية والثروات، وكثير منها متركز في مناطقها.
مع غياب رؤية وطنية جامعة، وفشل النخب في التوافق على مشروع جامع يعكس تنوع البلد، ويقود إلى تطوير رؤية توافقية حول كيفية الحكم وآلياته، بقيت الصراعات هي السمة السائدة، واستخدم الإقصاء أداة إما للوصول إلى السلطة، أو لإحكام القبضة عليها، بعزل وإضعاف المكونات الأخرى.
وظهر التأثير السلبي لذلك عندما أدت الصراعات السياسية إلى تسليم الحكم إلى العسكر بقيادة الفريق إبراهيم عبود في أول انقلاب يشهده البلد بعد عامين فقط من استقلاله لم يعرف خلالهما طعم الهدوء من المشاحنات السياسية.
استمرت هذه الدوامة ولم تفرز فترات حكم مدني قصيرة تعقبها فترات حكم عسكري طويلة فحسب، بل إنها أحبطت حتى الفترات الانتقالية التي أعقبت ثلاث ثورات شعبية حملت آمالاً عريضة أجهضتها صراعات النخب، ومناورات الإقصاء. وحتى لا نغوص عميقاً في التاريخ يمكننا النظر إلى مآلات الأمور منذ ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، وكيف أجهضت صراعات النخب وخطاب الإقصاء آمال الثورة وقوضت الفترة الانتقالية، واشتركت في تأجيج الأجواء بالشكل الذي أدى إلى الحرب، ويسهم الآن في تأجيجها.
وبينما يدفع المواطن المغلوب على أمره أبهظ الأثمان، تستمر الخلافات وتعاني الساحة السودانية من استقطاب حاد، ومن خطاب إقصائي ينذر باستمرار الأزمات حتى عندما تنتهي الحرب. فالحديث المتكرر الذي نسمعه عن حوار وطني شامل للخروج بالسودان من أزمته الراهنة، ومشاكله المعقدة، يبقى في الواقع أسير الخطاب الإقصائي. فليس خافياً على أحد أنه في لب هذا الصراع هناك من يرى أنه لا بد من إقصاء الإسلاميين (أو الكيزان) وتحجيم الجيش، بينما يرد الإسلاميون برؤية ترى في الحرب الفرصة للعودة إلى المشهد والتصدي لمحاولة إقصائهم عنه.
ما يحتاجه السودانيون الذين يتوقون لانتهاء الحرب وعودة الأمن والاستقرار هو وفاق شامل وحوار لا يستثني أحداً، بدلاً من المعادلات الإقصائية الصفرية التي قادت إلى مهلكة الحرب وتسهم في إطالة أمدها.
من دون هذا التوافق لن يتحقق للسودان الاستقرار المطلوب حتى لو توقفت الحرب؛ لأن جبلاً من التحديات سينتظره لإعادة الإعمار بعد الدمار الهائل الذي حدث. المصلحة الوطنية في هذا المفترق الحرج تقتضي تغليب لغة الوفاق، أما الإقصاء السياسي فينبغي أن يكون أمره للشعب عبر صناديق الانتخاب، إذا عرفنا كيف نصل إليها.
الشرق الأوسط
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه السودان الحرب الجيش السودان الجيش الحرب الدعم السريع سياسة مقالات صحافة سياسة سياسة من هنا وهناك اقتصاد سياسة صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
جنوب السودان على شفا الحرب الأهلية
ينسب للدكتور فرنسيس دينق، المثقف والدبلوماسي السوداني - الجنوب سوداني المعروف، أنه مَن اقترح فكرة «دولة واحدة بنظامين»... حلاً لإنهاء النزاع في السودان قبل انفصال جنوب السودان. ينتمي فرنسيس دينق إلى منطقة آبيي الحدودية المتنازع عليها بين الدولتين؛ ولأن أبناء هذه المنطقة نشأوا في أجواء التداخل بين البلدين، فقد كان حريصاً على بقاء السودان موحداً؛ لهذا طرح صيغة دولة واحدة كونفدرالية تُحكَم بنظامين لكل جزء من البلاد. وعندما انفصل جنوب السودان وصار دولة مستقلة تحمل كل أدواء الدولة السودانية القديمة من فساد ونزاعات وحرب أهلية، صار الشعار الجديد الذي يصف الأوضاع في البلدين... «دولتان بنظام واحد».
الآن، وبينما تمزّق الحرب الدولة السودانية، فإن دولة جنوب السودان تسير في الطريق نفسها، وتقف على شفا الحرب الأهلية بعد اعتقال الرئيس سلفا كير ميارديت نائبه الدكتور رياك مشار ومعه عدد من قادة حركته، بعد تجدد النزاع المسلح في منطقة الناصر.
الحقيقة أنه ومنذ استقلال دولة جنوب السودان في عام 2011، لم تتوقف النزاعات بين الرجلين، فقد بدأت مبكراً في عام 2013 باتهام الرئيس سلفا كير نائبه مشار بتدبير محاولة انقلاب ضده، وخرج مشار ليكوّن انشقاقاً من التنظيم الذي كان يجمعهما، الحركة الشعبية لتحرير السودان (SPLM)، وكوّن مشار تنظيم الحركة الشعبية في المعارضة (SPLM-IO).
وتكررت النزاعات أكثر من ثلاث مرات خلال الفترة من 2013 وحتى 2025، ودائماً ما تمر بمرحلة خروج رياك مشار أو عزله من جانب الرئيس، ثم تتوسط دول الجوار والمنظمات الإقليمية والدولية ليوقّع الرجلان على اتفاقية سلام، سرعان ما يتم خرقها. تكرر هذا أكثر من مرة، وتم التوقيع على اتفاق سلام في 2018، وتم تفعيله في عام 2020 وتشكيل الحكومة.
ولأن العامل القبلي هو الأكثر تأثيراً؛ فإن سلفا كير يعتمد على تأييد ودعم الدينكا، أكبر المجموعات القبلية في جنوب السودان، بينما ينتمي مشار إلى قبيلة النوير، ثاني أكبر القبائل التي تملك مقاتلين أشداء.
وقد تفجَّرت الأزمة الأخيرة بصدام عسكري في منطقة الناصر بين وحدات من قوة دفاع شعب جنوب السودان، الجيش الرسمي، ومجموعات من الجيش الأبيض، وهي ميليشيا من قبيلة النوير التي ينتمي إليها رياك مشار، وليست جزءاً من جيش مشار، لكنها تقاتل إلى جانبه في كل صدام مع الحكومة. وقد تصاعد القتال لدرجة اغتيال قائد حامية الناصر اللواء ماجور داك بإسقاط طائرة تابعة للأمم المتحدة كانت تحاول نقله خارج المنطقة المحاصرة.
رأى سلفا كير أن نائبه الأول مشار مسؤول عن هذه الحادثة، وأخضعه لاعتقال منزلي بحراسة مشددة، وقرر تقديمه للمحاكمة. وقد تقاطر الوسطاء من «الإيغاد» والاتحاد الأفريقي على العاصمة جوبا للتوسط لحل النزاع، لكن لم يُسمح لهم بمقابلة نائب الرئيس المعتقل مشار.
تزامن ذلك مع تغييرات أجراها الرئيس سلفا كير في طاقم نوابه الخمسة، المعينين طبقاً لاتفاق تقاسم السلطة في عام 2020؛ إذ أقال النائب الممثل لحزبه الحركة الشعبية، جيمس واني أيقا، وعيَّن مكانه الرجل الغامض والقادم بقوة بنيامين بول ميل، كما أقال حسين عبد الباقي، ممثل أحد فصائل المعارضة وعيَّن مكانه جوزفين لاقو.
ومن الواضح أن هناك ارتباطاً كبيراً بين هذه التعيينات والأوضاع السياسية في البلاد. فالسيد بول ميل الذي تقدم ليشغل منصب نائب الرئيس ليس من القيادات التاريخية المعروفة للحركة الشعبية، ومعظم نشاطه لم يكن سياسياً، وإنما في مجال الاقتصاد والاستثمار، وهو من المقربين للرئيس سلفا كير وموضع ثقته. وهناك اعتقاد شائع في جنوب السودان أن سلفا كير يؤهّله ليخلفه في منصب الرئيس؛ ولهذا فإن قرار إقالة ومحاكمة رياك مشار الغرض منه إزاحته من أي سباق محتمل على الرئاسة. ومشار، رغم أنه يقف في المعارضة، ولا ينتمي إلى قبيلة الدينكا التي غالباً سيأتي الرئيس من صفوفها، فإنه في حال ترشحه للرئاسة قد يضعف حظوظ بول ميل بحكم أنه من القيادات التاريخية للحركة الشعبية وله خبرات طويلة في العمل السياسي والتنفيذي.
يقف الجنوب الآن على شفا حرب أهلية، يبدو ظاهرها الصراع السياسي على السلطة، لكن بحكم الجذر القبلي القوي للسياسة في جنوب السودان فستتحول صراعاً إثنياً دموياً يهدّد وحدة جنوب السودان. وهو صراع لن تتحمله بنية الدولة الوليدة المثقلة بالصراعات والفقر والفساد والمهدَّدة بالمجاعات، وستتقاطع مع الحرب الدائرة في السودان، فتشتعل كل المنطقة.
فيصل محمد صالح
نقلا عن القدس العربي