حكم توزيع الصدقات عند زيارة المقابر
تاريخ النشر: 2nd, January 2025 GMT
قالت دار الإفتاء المصرية إن الصدقة عن الميِّت جائزة ومستحبة شرعًا ويصل ثوابها له، سواء أكان التصدق عن الميت في شهر رجب، أم في غيره من الشهور، وهي في رجب وغيره من الأوقات الفاضلة أرجى ثوابا.
وأوضحت الإفتاء أنه لا يوجد حرج في توزيع هذه الصدقات عند القبر أو في أي مكان يتوارد عليه المساكين والفقراء وذوو الحاجة؛ لأن الجواز يعمُّ جميع الأزمنة والأحوال والأماكن متى روعيت الضوابط والآداب، وليس ثمة دليلٍ شرعي يدل على تخصيص هذا الجواز، فقصره على زمن دون زمن، أو على حال دون حال، أو على مكان دون مكان يعدُّ تضييقًا لما وسَّعَه الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
أضافت الإفتاء أن من المقرَّر شرعًا جواز الصدقة عن الميت ووصول ثوابها إليه؛ وقد وردت جملة من الأحاديث النبوية الشريفة تدلُّ على ذلك؛ منها: ما ورد عن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها: أنَّ رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا وَأُرَاهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ تَصَدَّقْ عَنْهَا» متفق عليه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ سعد بن عبادة رضي الله عنه توفِّيت أمه وهو غائب عنها، فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا، أَيَنْفَعُهَا شَيْءٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ» أخرجه البخاري.
يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (5/ 390، ط. دار المعرفة): [وفي حديث الباب من الفوائد: جواز الصدقة عن الميت، وأن ذلك ينفعه بوصول ثواب الصدقة إليه ولا سيما إن كان من الولد، وهو مخصص لعموم قوله تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم: 39]] اهـ.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إِنَّ أَبِي مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا، وَلَمْ يُوصِ، فَهَلْ يُكَفِّرُ عَنْهُ أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ» أخرجه مسلم.
يقول الإمام النووي -عند شرحه للحديث- في "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" (11/ 84، ط. دار إحياء التراث العربي): [وفي هذا الحديث: جواز الصدقة عن الميت، واستحبابها، وأن ثوابها يصله وينفعه، وينفع المتصدق أيضًا، وهذا كله أجمع عليه المسلمون] اهـ.
وقد أجمع الفقهاء على جواز الصدقة عن الميت ووصول ثوابها للمتوفَّى ولم يُعرف بينهم خلاف فيه.
قال الإمام ابن عبد البر في "التمهيد" (20/ 27، ط. أوقاف المغرب): [أمَّا الصدقة عن الميت فمجتمع على جوازها لا خلاف بين العلماء فيها] اهـ.
وقال الإمام النووي في "المجموع" (5/ 323، ط. دار الفكر): [أجمع المسلمون على أنَّ الصدقة عن الميِّت تنفعه وتصله] اهـ.
وقال الإمام الزيلعي في "تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق" (2/ 83، ط. الأميرية): [الإنسان له أن يجعل ثواب عمله لغيره عند أهل السنة والجماعة؛ صلاة كان أو صوما أو حجًّا أو صدقة أو قراءة قرآن أو الأذكار، إلى غير ذلك من جميع أنواع البر، ويصل ذلك إلى الميت وينفعه] اهـ.
حكم توزيع الصدقات عند زيارة المقابر على روح المتوفين في شهر رجب
أما بالنسبة لعادة بعض الناس في إخراج تلك الصدقة في زمان معين أو مكان محدد؛ وذلك نحو ما يفعله البعض من توزيع الصدقات في شهر رجب عند زيارة قبور الأقارب المتوفّين، وذلك بنية وهب ثواب إخراج الصدقة عند الميت، فهذا لا حرج فيه شرعًا، بشرط وصول ثواب هذه الصدقة إلى المقصودين.
والصدقة في الأيام والشهور الفاضلة مستحبة شرعًا، فقد روي عن محمد بن مَسْلَمَةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ لِرَبِّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ، فَتَعَرَّضُوا لَهَا، لَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ تُصِيبَهُ مِنْهَا نَفْحَةٌ لَا يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا» أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط".
ومن المعلوم أنَّ شهر رجب من الأشهر الحرم التي رغَّب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الناس في الإقبال على الطاعات فيها، وبالأخص ما يكون نفعه متعديًا؛ كالصدقات وإطعام الطعام ونحو ذلك.
فعن نُبَيْشَةَ رضي الله عنه قال: نادى رجل وهو بِمِنًى فقال: يا رسول الله، إنا كنا نَعْتِرُ عَتِيرَةً في الجاهلية في رجب، فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: «اذْبَحُوا فِي أَيِّ شَهْرٍ مَا كَانَ، وَبَرُّوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَأَطْعِمُوا» أخرجه النسائي في "سننه".
وعن لقيط بن عامر رضي الله عنه أنَّه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: إِنَّا كُنَّا نَذْبَحُ ذَبَائِحَ فِي رَجَبٍ فَنُطْعِمُ مَنْ جَاءَنَا، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا بَأْسَ» قال وكيع: لَا أَتْرُكُهَا أَبَدًا. أخرجه الطحاوي في "شرح مشكل الآثار".
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الميت حكم توزيع الصدقات عند زيارة المقابر الصدقات الصدقة صلى الله علیه وآله وسلم رضی الله عنه شهر رجب
إقرأ أيضاً:
الإفتاء: الأحاديث النبوية جاءت صريحةً في استحباب الذبح في رجب
قالت دار الإفتاء المصرية إن الأحاديث النبوية الشريفة جاءت صريحةً في استحباب الذبح تقربًا إلى الله تعالى في شهر رجب، وقال سبحانه: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة: 36].
وأوضحت الإفتاء أن العرب كانت تعظم الأشهر الحرم اتباعًا لملة سيدنا إبراهيم عليه السلام؛ وقد بلغوا من شدة تعظيمهم لها أن اختصُّوها ببعض القربات، كما حرَّموا على أنفُسهم فيها سفك الدماء؛ فكان الرجل منهم يلقى قاتل أبيه في هذه الأشهر ولا يتعرَّض له بالأذى، حتى جاء الإسلام فأقرهم على تعظيمها.
ما ورد في السنة النبوية بخصوص ذبح شيء لله في شهر رجب
ورد عن مِخْنَفِ بن سُلَيمٍ رضي الله عنه قال: كنَّا وقوفًا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعرفة، فقال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُضْحِيَّةً وَعَتِيرَةً، أَتَدْرُونَ مَا الْعَتِيرَةُ؟ هِيَ الَّتِي يُسَمِّيهَا النَّاسُ الرَّجَبِيَّةَ» رواه الأئمة: ابن ماجه والترمذي وأبو داود في "السنن"، والبيهقي في "السنن الكبرى".
وعن حَبيب بن مِخْنَفٍ رضي الله عنه قال: انتهيتُ إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم عرفة، قال: وهو يقول: «هَلْ تَعْرِفُونَهَا؟» قال: فما أدري ما رجعوا عليه، قال: فقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَيْتٍ أَنْ يَذْبَحُوا شَاةً فِي كُلِّ رَجَبٍ، وَكُلِّ أَضْحَى شَاةً» رواه الأئمة: أحمد في "المسند"، وعبد الرزاق في "المصنف"، والطبراني في "المعجم الكبير".
وعن الحارث بن عمرو رضي الله عنه، أنَّ رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع: يا رسول الله، الفرائع والعتائر، قال: «مَنْ شَاءَ فَرَّعَ، وَمَنْ شَاءَ لَمْ يُفَرِّعْ، وَمَنْ شَاءَ عَتَرَ، وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَعْتِرْ، فِي الْغَنَمِ أُضْحِيَّةٌ» رواه الأئمة: أحمد في "المسند"، والنسائي في "السنن"، والحاكم في "المستدرك"، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الحافظ الذهبي.
وعن أبي بكرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ» متفق عليه.
حكم الشرع في "العتيرة" ذبيحة شهر رجب
قالت دار الإفتاء المصرية إن الله سبحانه وتعالى فضل بعض الأزمنة والشهور على بعض؛ فميز الأشهر الحرم على سائر الشهور، ومن رحمته بعباده أن جعل لهم فيها مواسم للخيرات، وحثهم فيها على اغتنام الأوقات والإكثار من الطاعات؛ رجاءَ رحمته، وابتغاءَ ثوابه، كما حذرهم من المعصية وظلم النفس فيها، فجعل عقوبةَ المعصية فيها مضاعفةً، كما جعل الأجر والثواب على الطاعات فيها مضاعفًا.
قال سبحانه: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة: 36].
وقد كانت العرب تحترم هذه الشهور وتعظمها؛ اتباعًا لملة سيدنا إبراهيم عليه السلام؛ وقد بلغوا من شدة تعظيمهم لها أن اختصُّوها ببعض القربات، كما حرَّموا على أنفُسهم فيها سفك الدماء؛ فكان الرجل منهم يلقى قاتل أبيه في هذه الأشهر ولا يتعرَّض له بالأذى، حتى جاء الإسلام فأقرهم على تعظيمها.
وعن أبي بكرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ» متفق عليه.
مظاهر تعظيم العرب لشهر رجب
عرفت العرب منزلة الأشهر الحرم وما لها عند الله من شأنٍ وفضلٍ فعظَّموها، غير أنهم كانوا يبدِّلون ويغيِّرون فيها على حسب أهوائهم، إلا شهر رجبٍ؛ إذ ميَّزوه بمزيدٍ من التعظيم؛ فلم يغيِّروه عن مكانه، ولم يكن يَسْتَحِلُّهُ أحدٌ منهم، وما ذاك إلا لمعرفتهم بما لهذا الشهر من فضلٍ كبيرٍ، وشأنٍ عظيمٍ عند الله تعالى.
تعظيم العرب قبل الإسلام لشهر رجب
ومن مظاهر تعظيم العرب قبل الإسلام لشهر رجب أنْ جعلوا فيه ذبيحةً تُذبح في كل عام تُسمَّى بـ"العتيرة"، ومنهم من كان ينذر النذر أو يوجب على نفسه حقًّا في ماله ويعلق أجله والإتيان به بشهر رجب؛ لما له مِن شأنٍ عظيمٍ ومنزلةٍ رفيعةٍ عندهم.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (9/ 598، ط. دار المعرفة): [العتيرة المُنَذَرُ كانوا ينذرونه، من بلغ ماله كذا أن يذبح من كل عشرة منها رأسًا في رجب، وذكر ابن سيده: أنَّ العتيرة: أنَّ الرجل كان يقول في الجاهلية: إنْ بَلَغَ إِبِلِي مائةً عَتَرْتُ منها عتيرةً، زاد في "الصحاح": في رجب] اهـ.
وأول مَن سَنَّ العتيرة أو الذبح في شهر رجب: (بُورَا بن شُوحَا)، وهو مِن أجداد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد سيدنا عدنان.
قال الإمام الطبري في "تاريخ الرسل والملوك" (2/ 274، ط. دار التراث) في ذكر نسب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد جده سيدنا عدنان: [ابن بورا؛ وهو بوز، وهو عترُ العتائر، وأولُ مَن سَنَّ العتيرة للعرب، ابن شوحا وهو سعد رجب] اهـ.
حكم العتيرة ذبيحة شهر رجب
وكان الصحابةُ رضوانُ الله عليهم يسألون النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن كل شيءٍ كانوا يفعلونه في الجاهلية حتى يبيِّن لهم الحلال منه والحرام، وعندما سُئِل صلى الله عليه وآله وسلم عن العتيرة في حجة الوداع: نهى عمَّا كان فيها من الذبح لغير الله، وبيَّن أنها تكون في كل شهور العام؛ فعن نُبَيْشَةَ الهذلي رضي الله عنه قال: نادى رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وَآله وسلم فقال: يا رسول الله، إنَّا كُنَّا نَعتِرُ عَتِيرَةً في الجاهليَّة في رجبٍ؛ فما تأْمرنا؟ قال: «اذْبَحُوا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَيِّ شَهْرٍ مَا كَانَ، وَبَرُّوا لِلَّهِ، وَأَطْعِمُوا» أخرجه الأئمة: ابن ماجه والنسائي في "السنن"، وأحمد في "المسند".
قالت دار الإفتاء المصرية إن الله سبحانه وتعالى فضل بعض الأزمنة والشهور على بعض؛ فميز الأشهر الحرم على سائر الشهور، ومن رحمته بعباده أن جعل لهم فيها مواسم للخيرات، وحثهم فيها على اغتنام الأوقات والإكثار من الطاعات؛ رجاءَ رحمته، وابتغاءَ ثوابه، كما حذرهم من المعصية وظلم النفس فيها، فجعل عقوبةَ المعصية فيها مضاعفةً، كما جعل الأجر والثواب على الطاعات فيها مضاعفًا.
قال سبحانه: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة: 36].
وقد كانت العرب تحترم هذه الشهور وتعظمها؛ اتباعًا لملة سيدنا إبراهيم عليه السلام؛ وقد بلغوا من شدة تعظيمهم لها أن اختصُّوها ببعض القربات، كما حرَّموا على أنفُسهم فيها سفك الدماء؛ فكان الرجل منهم يلقى قاتل أبيه في هذه الأشهر ولا يتعرَّض له بالأذى، حتى جاء الإسلام فأقرهم على تعظيمها.
وعن أبي بكرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ» متفق عليه.
مظاهر تعظيم العرب لشهر رجب
عرفت العرب منزلة الأشهر الحرم وما لها عند الله من شأنٍ وفضلٍ فعظَّموها، غير أنهم كانوا يبدِّلون ويغيِّرون فيها على حسب أهوائهم، إلا شهر رجبٍ؛ إذ ميَّزوه بمزيدٍ من التعظيم؛ فلم يغيِّروه عن مكانه، ولم يكن يَسْتَحِلُّهُ أحدٌ منهم، وما ذاك إلا لمعرفتهم بما لهذا الشهر من فضلٍ كبيرٍ، وشأنٍ عظيمٍ عند الله تعالى.
تعظيم العرب قبل الإسلام لشهر رجب
ومن مظاهر تعظيم العرب قبل الإسلام لشهر رجب أنْ جعلوا فيه ذبيحةً تُذبح في كل عام تُسمَّى بـ"العتيرة"، ومنهم من كان ينذر النذر أو يوجب على نفسه حقًّا في ماله ويعلق أجله والإتيان به بشهر رجب؛ لما له مِن شأنٍ عظيمٍ ومنزلةٍ رفيعةٍ عندهم.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (9/ 598، ط. دار المعرفة): [العتيرة المُنَذَرُ كانوا ينذرونه، من بلغ ماله كذا أن يذبح من كل عشرة منها رأسًا في رجب، وذكر ابن سيده: أنَّ العتيرة: أنَّ الرجل كان يقول في الجاهلية: إنْ بَلَغَ إِبِلِي مائةً عَتَرْتُ منها عتيرةً، زاد في "الصحاح": في رجب] اهـ.
وأول مَن سَنَّ العتيرة أو الذبح في شهر رجب: (بُورَا بن شُوحَا)، وهو مِن أجداد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد سيدنا عدنان.
قال الإمام الطبري في "تاريخ الرسل والملوك" (2/ 274، ط. دار التراث) في ذكر نسب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد جده سيدنا عدنان: [ابن بورا؛ وهو بوز، وهو عترُ العتائر، وأولُ مَن سَنَّ العتيرة للعرب، ابن شوحا وهو سعد رجب] اهـ.
حكم العتيرة ذبيحة شهر رجب
وكان الصحابةُ رضوانُ الله عليهم يسألون النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن كل شيءٍ كانوا يفعلونه في الجاهلية حتى يبيِّن لهم الحلال منه والحرام، وعندما سُئِل صلى الله عليه وآله وسلم عن العتيرة في حجة الوداع: نهى عمَّا كان فيها من الذبح لغير الله، وبيَّن أنها تكون في كل شهور العام؛ فعن نُبَيْشَةَ الهذلي رضي الله عنه قال: نادى رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وَآله وسلم فقال: يا رسول الله، إنَّا كُنَّا نَعتِرُ عَتِيرَةً في الجاهليَّة في رجبٍ؛ فما تأْمرنا؟ قال: «اذْبَحُوا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَيِّ شَهْرٍ مَا كَانَ، وَبَرُّوا لِلَّهِ، وَأَطْعِمُوا» أخرجه الأئمة: ابن ماجه والنسائي في "السنن"، وأحمد في "المسند".