كما توقعت فى مقالى الأخير المعنون «سوريا فى الفخ»، تراجع أحمد الشرع «الجولانى» عن تصريحاته السابقة حول الدستور والانتخابات الرئاسية، وأعلن أن البلاد تحتاج نحو أربع سنوات حتى يمكن إجراء انتخابات رئاسية، وأن كتابة دستور جديد لسوريا يعبر عن كل مكوناتها السياسية وأطيافها الدينية، يحتاج ثلاث سنوات.
كلام الجولانى جاء طبيعيا ومتسقا مع تطلعاته والواقع السورى، فالرجل لا يكذب ولكنه يتجمل، بعد أن اكتشف أن حكاية الثلاثة أشهر التى حددها سابقا لا تكفى لفعل أى شيء، فلم يكن لديه من الخبرة أن يفرق بين قيادة دولة كبيرة وعميقة ومعقدة النعرات، وبين إدارة فصيل عسكرى أو قطيع يتربى فى الصحراء.
ويحاول الجولانى جاهدا تبرير رغبته المستقبلية فى الانفراد بحكم سوريا، بأن البلاد تحتاج إلى سيطرة قوية من هيئة التحرير على كل مقاليد الأمور، وعلى كل الأراضى السورية، حتى ولو كان ذلك على حساب مصالح وحقوق الأقليات.
وعلى طريقة الديكتاتور الناعم، أخرج مظاليم بشار ونظامه الفاسد وأدخل بدلا منهم سوريين مثله يعارضون مجيئه على دبابة تركية وحماية إسرائيلية وأمريكية، متجاهلا تماما التركيبة السياسية للبلاد، فهو لا يرى أحدا سوى رجاله فقط فى الهيئة التى يتزعم فصائلها رفاق الدرب والأصدقاء المقربون.
نحن على أعتاب عام جديد، ولا حديث للجولانى إلا عن الفصائل أما الأطياف السياسية فلا وقتها الآن، حتى إسرائيل عدو سوريا التقليدى، انتقدت ذلك التجاهل على لسان وزير خارجيتها جدعون ساعر الذى يخشى أن تنقلب الأقليات وتحدث فوضى فى البلاد، مطالبا بحماية الأكراد والعلويين والمسيحيين وغيرها من طوائف الداخل السورى لتهدأ الحدود.
الخطير أن الجولانى يبرر عدم تضمين حكومته أى طيف سياسى مدنى بعدم استقرار الوضع فى البلاد، زاعما أن «محاصصة الحكومة» أى وجود تمثيل نسبى للطوائف الرئيسية سيؤدى إلى تشتيت الأهداف، فهو لا تعنيه الديمقراطية ولا التعددية السياسية، وإنما فقط كرسى الحكم الذى يجرى تفصيله وتصنيعه بمشاركة قوية من مخابرات تركيا وأمريكا وإسرائيل.
كل خطوات الجولانى تؤكد أنه يعد نفسه بشياكة لرئاسة سوريا حتى إذا خاض الانتخابات آخرون لإكمال الديكور، ولذا فهو يركز على ولاء مجتمع العشيرة، وقطع فى ذلك مسافات، ولا يتبقى أمامه سوى قوات سوريا الديمقراطية «قسد» المناهضة للوجود التركى، ويغريها الآن بتمثيل معقول فى وزارة الدفاع.
الرجل بصراحة يريد الأرض بكل ما فيها له وميليشياته، رافضا الفيدرالية وأى تقسيم لا تكون فيه هيمنة للذين حاربوا معه لإسقط النظام، ويبحث عن أى وسيلة لإنقاذ الاقتصاد وإعادة الإعمار عبر بوابة تركيا والخليج وفى المقدمة ( قطر والامارات والسعودية ) بعدها يشدد قبضته ويدخل التاريخ كأول إرهابى سابق أسقط الأسد فى ثلاثة أيام.
وقد يسأل سائل، إذا كانت هناك مخاوف من أن ينقلب الجولانى ويعود إلى سيرته الأولى كمتطرف ومتشدد دينى.. فلماذا يهرول البعض إليه؟ ولماذا هذه الزيارات والاتصالات من وزراء الخارجية العرب والأوربيين؟ هل هو لمجرد استكشاف نيات الرجل الذى يتخفى فى البذلة الأمريكانى، أم أن كل دولة تريد أن يكون لها دور فى بداية تأسيس سوريا الجديدة؟
فى جميع الأحوال، الأيام المقبلة ستخبرنا اليقينا، وسيتأكد للجميع إذا ما كان «الجولانى» المعدل سيقرن أقواله بأفعال، ويعجل بالدستور والانتخابات الرئاسية أم سينتظر سنوات كما قال بحجة التحديات الداخلية ونشاط بقايا النظام وعدم استقرار المنطقة، خاصة شمال شرقى البلاد التى تلعب فيها تركيا لعب الشيطان.
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: تصريحاته السابقة
إقرأ أيضاً:
تاح تاح تاح تحسم بالسلاح: الأغنية السياسية في الحرب (1-2)
ملخص
جاء الغناء عن حب الوطن في السودان مدراراً ومن بابين، الأول هو حب مطلق مثل “أمتي يا أمة الأمجاد والماضي العتيق”، أما الثاني فهو ما نعى >فيه المغنيون غربتهم عن الوطن في المهاجر وذاع ذيوعاً كبيراً خلال أيامنا
في واقع النزوح الاستثنائي المأسوي بعد الحرب.
سأل صحافي خلال تسعينيات القرن الـ20 عدداً من الشباب في مناسبة
ذكرى ثورة أكتوبر 1964 ضد ديكتاتورية الفريق إبراهيم عبود (1958-1964)، عما يعرفونها عنها. فقال أحدهم “ليس كثير شيء. ولكنها تبدو حدثاً مميزاً مما سمعته من الأغاني عنها”.
واحدة من جبهات الحرب الناشبة الغائبة عن غير السودانيين هي الأغنية السياسية على عظم دورها فيها. وللسودانيين باع طويل في هذه الأغنية التقليدية منها والحديثة حتى قال أحدهم إنهم يعيشون في خفض منها. وتفسير ذلك بسيط متى وقفنا على مناشئها في سياسة البلد ومجتمعها. ومن تلك المنابع أغنية الفروسية التقليدية التي تُستدعى حالياً في هذه الحرب، وهي أغان في مأثرة الفارس في القبيلة تنظمها شاعرة من دائرة قريباته. وتقوم الأغنية منها على ثلاث شعب هي صمامة الرأي والكرم والجلد في الحرب. فاشتهرت أغنية نسبت الفارس إلى آباء “بحلو للعوجات” (من عِوج أي الأمر المشكل)، وأن مطامير عيشه “للخالة والعمات”، وقلبه حديد في النزال. بل تمنت أخرى لفارسها ألا يموت على فراشه تذرف النساء الرماد حزناً على فراقه، بل تريده موتاً في ساحة الوغى بعجاجها الكاتح موشحاً بدمه.
وشكلت الأغنية السياسية عصب الحركة الوطنية ضد الاستعمار الإنجليزي (1898-1956). وأجاد فيها الشاعر الفنان خليل فرح (1894-1932). ولأغنيته “نحن ونحن الشرف الباذخ” حكاية طريفة مع استخبارات الاستعمار الإنجليزي التي كان صمويل عطية اللبناني موظفاً فيها. فكانت الأغنية ألهبت الشعور الوطني في وحدة مصر والسودان فأرادت المخابرات أن تعرف عنها وعن المغني أكثر. فدعا صمويل عطية خليل إلى مكتبه ليسمعها منه ولكنه قال إنه يفضل أن يسمعها منه إن أراد في بيته. فقبل صمويل واستقبله في بيته وسط لفيف من الشوام داخل السودان. وتحول المجلس من تحقيق استخباراتي إلى حفل طرب الحضور فيه للأغنية وردودها مع خليل، بل غنى لهم “أعبدة ما ينسى مودتك القلب” لعمر بن أبي ربيعة، فاكتمل المجلس العربي الطربي. وقال مرافق لخليل ليلتها إن صمويل شد على يدي الخليل معجباً، ومات التحقيق عن الأغنية.
وليس أدل من عيش السودانيين في خفض من الأغنية السياسية من قيامهم بثورات ثلاث لكل منها على حدة ملف كامل من تلك الأغاني. وتحولت أغنيات بعد ثورة أكتوبر 1964 مثل “أصبح الصبح فلا السجن ولا السجان باقي” و”أكتوبر 21″ و”أكتوبر الأخضر” للفنانين محمد وردي ومحمد الأمين إلى ما هو قريب من النشيد الوطني. واستولى وردي مرة أخرى على ألباب السودانيين بعد ثورة أبريل (نيسان) 1985 بـ”بلاء وانجلى”:
بلاء وانجلى
حمد لله ألف على السلامة
انهد كتف المقصلة
وبـ”حنبنبهو” “وطن شامخ وطن عاتي وطن خير ديمقراطي”.
وجاء الغناء عن حب الوطن مدراراً ومن بابين. فالباب الأول هو حب مطلق أما الآخر فهو ما نعى فيه المغنيون غربتهم عن الوطن في المهاجر، وذاع هذا الأخير ذيوعاً كبيراً خلال أيامنا في واقع النزوح الاستثنائي المأسوي بعد الحرب. أما الحب المطلق فتجده في مثل “أمتي يا أمة الأمجاد والماضي العتيق”. أما النوع الذي صدر عن أوجاع الغربة فمثل:
يا غربة لا لا لا لا لا ما تطولي
يا دمعة لا لا لا لا لا ما تنزلي
أنا بيك متيم يا بلد
أنا دمعة نازلة
وانت خد
ولا تلاقي فيديو يستعيد في يومنا مشاهد من السودان إلا مصحوباً بـ:
يا صباح الغربة
متين اسمع يقولو خلاص زمان الرجعة للسودان
ألملم حزني في طرفي، أصر الفرحة بالكيمان
ومن مصادر الأغنية السياسية الأناشيد الجهادية لشباب الحركة الإسلامية في حرب جنوب السودان طوال عقد التسعينيات، ولهم فيها ديوان كامل تستذكره كتائب البراء في هذه الحرب التي تخوضها مع القوات المسلحة مثل:
الجهاد نادانا
يا والده ما تحميني، عاوز أموت في ديني، شفاعة لوالديني، الأهل والأخوانا، الجهاد نادانا
أما سيدة الأغنية السياسية ليومنا للقوات المسلحة فهي الفنانة ندى القلعة. ونواصل.
عبد الله علي إبراهيم
إنضم لقناة النيلين على واتساب