جريدة الرؤية العمانية:
2025-03-06@17:53:53 GMT

وسِّع عقلك.. زمن التحمُّل ولَّى

تاريخ النشر: 1st, January 2025 GMT

وسِّع عقلك.. زمن التحمُّل ولَّى

سلطان بن محمد القاسمي
في لحظة من العمر، تدرك أنك لم تعد الشخص الذي كنت عليه. تلك المرآة التي عكست ذاتك يومًا، تحمل الآن ملامح أقوى، أكثر وضوحًا وأقل استعدادًا للمساومات. تسأل نفسك: لماذا يجب أن أتحمل ما لم يعد يحتمل؟ ولماذا أسمح للآخرين بتجاوز الخطوط التي وضعتها لحماية نفسي؟ الحقيقة البسيطة هي أن زمن التحمل ولى، وحان وقت الوضوح والصدق مع الذات ومع الآخرين.


فحين تُبنى شخصيتك على قيم راسخة، تدرك أن التهاون في هذه القيم ليس تضحية؛ بل خيانة لنفسك. يقول الله تعالى: "وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمُ مُؤْمِنِينَ" (آل عمران: 139). في هذه الآية، يذكّرنا الله بأنَّ العزة تأتي من الإيمان والقوة الداخلية، وأن الضعف أمام المواقف والأشخاص لا يليق بمن يحمل قلبًا مُؤمنًا ونفسًا كريمة.
ومع ذلك، لا يعني هذا أن تصبح شخصًا قاسيًا أو متعجرفًا، بل أن تفهم حدودك وتعرف قيمتك، فلا تسمح لأحد أن يتجاوزها. والحياة مليئة بالتحديات، ومع كل تحدٍ تتعلم أنَّ الخط الفاصل بين الاحترام والتهاون في الكرامة واضح جدًا. فأنت الآن في مرحلة تختار فيها علاقاتك بعناية. لذلك، تعلم أن هناك أشخاصًا يستحقون البقاء، وآخرين يجب أن يتركوا حياتك لأنهم لم يعودوا جزءًا من تقدمك وسعادتك.
تخيل أنك كنت دائمًا الشخص الذي يسامح ويتحمل، الذي يتجاهل الكلمات الجارحة والمواقف القاسية، فقط لأنك أردت الحفاظ على السلام. لكنك الآن تدرك أن هذا السلام لم يكن حقيقيًا، بل كان على حساب سلامك الداخلي. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ لَعَّانًا، وَلَا طَعَّانًا، وَلَا فَاحِشًا، وَلَا بَذِيئًا" (رواه الترمذي). هذه الأخلاق الرفيعة لا تعني أن نتجاهل حقوقنا، بل أن ندافع عنها برقي واحترام لأنفسنا وللآخرين.
ومن المهم أن تفهم أن الوضوح مع الآخرين يبدأ بالوضوح مع النفس. فعندما تعرف ما تريده وما لا تقبله، تصبح حياتك أكثر بساطة ووضوحًا. وتبدأ بوضع الحدود التي تحميك من التعدي العاطفي أو النفسي. خذ على سبيل المثال علاقاتك الشخصية، سواء كانت مع الأصدقاء أو أفراد العائلة. إذا كنت دائمًا الشخص الذي يعطي دون أن يتلقى، أو الذي يتحمل الإهانة دون أن يعبر عن ألمه، فقد حان الوقت لإعادة تقييم هذه العلاقات.
ومع مرور الوقت، تدرك أن التغيير ليس ضعفًا؛ بل هو ضرورة؛ لأن التغيير في طريقة تعاملك مع الآخرين هو انعكاس لنضجك؛ إذ إن الحياة قصيرة جدًا لتعيشها في محاولات إرضاء الجميع على حساب نفسك. يقول الله تعالى: "وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ" (الحج: 78). وهذه الآية تذكرنا بأن الله لا يريد لنا العيش في ضيق أو معاناة، بل أن نعيش بكرامة وسلام.
وفي العمل، قد تجد نفسك في مواقف تحتاج فيها إلى الوقوف بحزم. فمثلا، الزملاء الذين يستغلون لطفك، أو المدير الذي يطالبك بما يتجاوز قدراتك دون تقدير. هذا ليس وقت الصمت، بل وقت الحديث بوضوح واحترام. لا تخف من التعبير عن حدودك ومطالبك. فبالتأكيد القوة في العمل لا تأتي من القوة الجسدية، بل من قوة الشخصية والقدرة على الحفاظ على حقوقك دون إيذاء الآخرين.
وفي العلاقات العاطفية، يتجلى هذا المفهوم بشكل أعمق. فلا تسمح لشريك حياتك أن يستهين بمشاعرك أو أن يفرض عليك أمورًا تخالف قناعاتك. لأن العلاقة الصحية هي التي تُبنى على التفاهم والاحترام المتبادل، حيث يُقدر كل طرف الآخر دون أن يشعر بأنه مضطر للتخلي عن ذاته.
أما في المجتمع، فإنك تدرك أن لك دورًا كبيرًا في بناء صورة متوازنة عن نفسك وعن قيمك. لا تتلون وفقًا للمواقف، ولا تحاول أن تكون نسخة من الآخرين. كن أنت، بكل ما تحمله من عيوب ومميزات، لأن التميز لا يأتي من التشابه؛ بل من الأصالة.
وإذا تحدثنا عن الجانب الروحي، فإن علاقتك بالله هي الأساس الذي يمنحك القوة والثبات. وعندما تكون قريبًا من الله، تشعر بالسلام الداخلي الذي يجعل كل الأمور الأخرى تبدو أقل أهمية. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ" (رواه الترمذي). هذه الكلمات البسيطة تحمل في طياتها عمقًا كبيرًا. فكلما حفظت حدودك وقيمك، حفظك الله وبارك في حياتك.
ومن زاوية أخرى، التمسك بالوضوح في حياتك اليومية يفتح أبوابًا من الحرية، الحرية في اتخاذ قرارات تعبر عن حقيقتك، الحرية في قول "لا" دون شعور بالذنب، والحرية في بناء علاقات قائمة على الصدق. هذه الحرية ليست مجرد امتياز؛ بل هي حقك الذي يجب أن تُحافظ عليه.
وفي ختام رحلتنا هذه.. تذكر أن الحياة ليست اختبارًا لتحمل الآخرين، بل هي فرصة لبناء نفسك والعيش بصدق. الزمن يمضي سريعًا، وكل لحظة تضيعها في التحمل الزائد هي لحظة تفقد فيها جزءًا من نفسك. اختر أن تعيش بكرامة، أن تحب نفسك كما تستحق، وأن تحترم ذاتك بكل قوة.
وسِّع عقلك، واعرف متى تقول "لا" ومتى تفتح أبوابك للفرص والعلاقات التي تستحق؛ لأن زمن التحمُّل ولَّى، وبدأ زمن الصدق مع النفس.
 

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

كلمات دلالية: تدرک أن

إقرأ أيضاً:

ما الذي منحه الإسلام للمرأة وكيف حالها في ظلِّه؟

وقد منح الإسلام المرأة مكانة خاصة وحصَّنها معنويا وماديا ولم يسمح للرجل بالتعدي عليها أو احتقارها كما كانت الحال في أيام الجاهلية التي كانت تنظر للمرأة كأداة متعة تابعة للرجل ولا قيمة لها، كما قالت الأستاذة بكلية الشريعة في دمشق الدكتور لينا الحمصي.

ووفقا لما قالته لينا الحمصي في حلقة 2025/3/6 من برنامج "الشريعة والحياة في رمضان"، فقد وصل امتهان المجتمع للمرأة قبل الإسلام أن سلبها حقها في اختيار الزواج وكذلك في الطلاق ولم يعترف بحقها في الامتلاك ولا في الإرث، حتى إنها كانت أحيانا تعتبر جزءا من ميراث الرجال.

ولم يكن وضع المرأة في الجانب الغربي من العالم بأفضل مما كانت عليه في بلاد العرب، ففي أوروبا الغربية والدولة البيزنطية كانت المرأة أفضل حالا لكنها كانت ممتهنة أيضا لدرجة أن الرجل كان بإمكانه بيعها في حال عجز عن الإنفاق عليها، كما تقول الدكتورة لينا.

لكن الإسلام -كما تقول الأستاذة بكلية الشريعة- أزال هذا الجور المجتمعي، فكرّم المرأة وانتقل بها من الانحدار للرقي وأجاز لها حق البيعة كما حدث مع الصحابية نسيبة بنت كعب التي شاركت في بيعة العقبة وشهدت الحروب مع النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي مشهد آخر، أجارت أم هانئ رجلا أهدر النبي دمه ومنعت علي بن أبي طالب من قتله، ولما تخاصما إلى النبي قال صلى الله عليه وسلم "نجير من أجارته أم هانئ".

إعلان لا حرج في خروج المرأة

كما سمح النبي للمرأة بالخروج مع الرجال للقتال لرعاية الجرحى وتوفير الطعام والشراب وخوض القتال إذا اقتضى الأمر ذلك كما حدث مع نسيبة رضي الله عنها في أكثر من حرب.

ونزلت المرأة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- للسوق فباعت واشترت ولم ينكر النبي عليها هذا، مما يعني أنها لم تكن سجينة عند الرجل كما يشيع البعض، وفق لينا الحمصي.

وفي دليل على أهمية وعظم دور المرأة في الإسلام، لفتت إلى أن المسلمين أخذوا جزءا كبيرا من دينهم عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- والتي كانت تفتي للمسلمين في أمور دينهم من وراء حجاب، حتى قيل إن ربع الشريعة نقلت عنها.

ليس هذا وحسب، فقد روت السيدة عائشة -رضي الله عنها- ما يصل إلى 2200 حديث، وكان الصحابي أبو موسى الأشعري يقول "ما التبس علينا نحن الصحابة شيئا إلا ووجدنا عند عائشة له حلا".

ومن بين الأدلة على انخراط المرأة في المجتمع، ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا رأي الخنساء يقول لها "أسمعينا من شعرك".

ومع ذلك، فقد أمر المرأة بغض البصر كما أمر الرجل تماما، ومن ثم فقد عرف الإسلام الاختلاط بين الجنسين لكن ضمن ضوابط شرعية، حسب لينا الحمصي.

المرأة والمناصب

وحسب لينا الحمصي، فإن الإسلام لم يحرّم الكلام بين المرأة والرجل ومن ذلك ما جاء في سورة القصص عن سيدنا موسى -عليه السلام- وحديثه مع ابنتي نبي الله شعيب وسقيه لهما، مما يعني أن الحديث من أجل المساعدة مباح.

وحتى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (سلطة الرقابة) الذي هو مقرون بالعمل والاختلاط مع الناس لم تُمنع المرأة منه في الإسلام، حيث ولَّى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الشفاء العدوية -التي كانت تعلم أم المؤمنين حفصة القراءة والكتابة- حسبة السوق.

ومن الثابت أن السيدة نفيسة وهي من نسل الحسن بن علي -رضي الله عنهم- كان لها مجلس تروي فيه الحديث، ويقال إن الإمام الشافعي سمع منها في مجلسها هذا، كما تقول لينا الحمصي.

إعلان

وكانت أم الدرداء الصغرى تدرس الحديث والفقه في الجامع الأموي وكان يحضره الرجال والنساء، وقد تتلمذ على يديها الخليفة عبد الملك بن مرْوان، ورجاء بن حيوة الذي تعلَّم على يديه الخليفة عمر بن عبد العزيز.

وعندما نتحدث عن دور المرأة الأساسي في الإسلام فهو -وفق لينا الحمصي- الإنجاب والتربية وتعليم الأولاد حتى يكبروا رجالا يمكنهم حمل لواء الدين والذود عنه والنهوض بأمر الأمة.

دور في الأدب والسياسة والعلم

ولا يعني هذا ألا تقوم المرأة بعمل آخر سوى الولادة والتربية إذا كانت قادرة على ذلك بزعم أولوية الوجود في البيوت، وفق لينا الحمصي التي أعادت التأكيد على ضرورة وجود الضوابط في التعامل.

والخلاصة أن الإسلام ظل يصعد بالمرأة منذ بعثة النبي وحتى القرن الثامن الهجري عندما بدأ انحدار الأمة جمعاء فصارت المرأة رهينة المحبسين (البيت والفراش) كما تقول لينا الحمصي.

وحتى تفسير قوله تعالى "الرجال قوامون على النساء" بأنه يعني أفضليته عليها فهو غير صحيح كما تقول لينا الحمصي، مؤكدة أن القوامة تعني الرعاية ولا تعني الأفضلية.

واستدلت الحمصي على عدم تواضع شأن المرأة بقولها إن عمر بن الخطاب عندما قال لزوجته إن الرجال أفضل من النساء ردت عليه "كيف، ونساء النبي يحاججنه وتهجره إحداهن في الليل ومن بينهن ابنتك حفصة".

كما أن بعض النساء المسلمات كان لهن باع في الأدب والسياسة والعلم في القرنين الماضيين، ومنهن ثريا الحافظ التي قادت المظاهرات ضد الاحتلال الفرنسي في سوريا، وأيضا السيدة سكينة بنت الحسين التي كان لها مجلس أدبي نسائي.

وهناك أيضا فاطمة الفهوية المغربية التي أسست جامعة القرويين، وعائشة الطائية وفاطمة النبهاني وغيرهن من النساء اللاتي كان لها شأن في المجتمع، حسب لينا الحمصي.

وخلصت لينا الحمصي إلى أن النساء أنفسهن لم يعدن يدافعن عن حقوقهن التي منحها لهن الشرع في كثير من الأحيان عندما يحتقرن أنفسهن ويعتبرن أنهن أقل شأنا من الرجال.

إعلان

ويزخر تاريخ الإسلام في مختلف العصور بنماذج لأمهات وجدّات تمكنّ من صناعة التاريخ، وساهمن في التشكيل الروحي لأئمة المستقبل، ومنهن أم الإمام الشافعي وأم محمد الفاتح وأم عبد القادر الجيلاني وخالته وجدة الشيخ زروق بالمغرب، وغيرهن كثيرات.

6/3/2025

مقالات مشابهة

  • ما الذي منحه الإسلام للمرأة وكيف حالها في ظلِّه؟
  • مدير أمن محافظة اللاذقية لـ سانا: المجموعات المسلحة التي تشتبك معها قواتنا الأمنية في ريف اللاذقية كانت تتبع لمجرم الحرب “سهيل الحسن” الذي ارتكب أبشع المجازر بحق الشعب السوري
  • رئيس الوزراء الياباني: على أوكرانيا أن تدرك أنها لا تستطيع القتال بدون الولايات المتحدة
  • آخر ساعة قبل الفجر في رمضان.. غير حياتك لأفضل مما تمنيت بـ5 أعمال
  • البابا تواضروس الثاني: "استثمر حياتك في السماء"
  • دعاء الليلة السادسة من رمضان .. ردد هذه الأدعية تيسر حياتك وتجعل لك نصيبًا فيما تحب
  • البابا تواضروس: "استثمر حياتك في السماء"
  • استثمر حياتك في السماء.. عظة الأربعاء للبابا تواضروس
  • نظير عياد: الوفاء والاعتراف بفضل الآخرين أبرز صفات النبي
  • دعاء قبل الإفطار.. يجبر الله به خاطرك وينصرك في حياتك