جريدة الرؤية العمانية:
2025-04-30@15:44:44 GMT

وسِّع عقلك.. زمن التحمُّل ولَّى

تاريخ النشر: 1st, January 2025 GMT

وسِّع عقلك.. زمن التحمُّل ولَّى

سلطان بن محمد القاسمي
في لحظة من العمر، تدرك أنك لم تعد الشخص الذي كنت عليه. تلك المرآة التي عكست ذاتك يومًا، تحمل الآن ملامح أقوى، أكثر وضوحًا وأقل استعدادًا للمساومات. تسأل نفسك: لماذا يجب أن أتحمل ما لم يعد يحتمل؟ ولماذا أسمح للآخرين بتجاوز الخطوط التي وضعتها لحماية نفسي؟ الحقيقة البسيطة هي أن زمن التحمل ولى، وحان وقت الوضوح والصدق مع الذات ومع الآخرين.


فحين تُبنى شخصيتك على قيم راسخة، تدرك أن التهاون في هذه القيم ليس تضحية؛ بل خيانة لنفسك. يقول الله تعالى: "وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمُ مُؤْمِنِينَ" (آل عمران: 139). في هذه الآية، يذكّرنا الله بأنَّ العزة تأتي من الإيمان والقوة الداخلية، وأن الضعف أمام المواقف والأشخاص لا يليق بمن يحمل قلبًا مُؤمنًا ونفسًا كريمة.
ومع ذلك، لا يعني هذا أن تصبح شخصًا قاسيًا أو متعجرفًا، بل أن تفهم حدودك وتعرف قيمتك، فلا تسمح لأحد أن يتجاوزها. والحياة مليئة بالتحديات، ومع كل تحدٍ تتعلم أنَّ الخط الفاصل بين الاحترام والتهاون في الكرامة واضح جدًا. فأنت الآن في مرحلة تختار فيها علاقاتك بعناية. لذلك، تعلم أن هناك أشخاصًا يستحقون البقاء، وآخرين يجب أن يتركوا حياتك لأنهم لم يعودوا جزءًا من تقدمك وسعادتك.
تخيل أنك كنت دائمًا الشخص الذي يسامح ويتحمل، الذي يتجاهل الكلمات الجارحة والمواقف القاسية، فقط لأنك أردت الحفاظ على السلام. لكنك الآن تدرك أن هذا السلام لم يكن حقيقيًا، بل كان على حساب سلامك الداخلي. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ لَعَّانًا، وَلَا طَعَّانًا، وَلَا فَاحِشًا، وَلَا بَذِيئًا" (رواه الترمذي). هذه الأخلاق الرفيعة لا تعني أن نتجاهل حقوقنا، بل أن ندافع عنها برقي واحترام لأنفسنا وللآخرين.
ومن المهم أن تفهم أن الوضوح مع الآخرين يبدأ بالوضوح مع النفس. فعندما تعرف ما تريده وما لا تقبله، تصبح حياتك أكثر بساطة ووضوحًا. وتبدأ بوضع الحدود التي تحميك من التعدي العاطفي أو النفسي. خذ على سبيل المثال علاقاتك الشخصية، سواء كانت مع الأصدقاء أو أفراد العائلة. إذا كنت دائمًا الشخص الذي يعطي دون أن يتلقى، أو الذي يتحمل الإهانة دون أن يعبر عن ألمه، فقد حان الوقت لإعادة تقييم هذه العلاقات.
ومع مرور الوقت، تدرك أن التغيير ليس ضعفًا؛ بل هو ضرورة؛ لأن التغيير في طريقة تعاملك مع الآخرين هو انعكاس لنضجك؛ إذ إن الحياة قصيرة جدًا لتعيشها في محاولات إرضاء الجميع على حساب نفسك. يقول الله تعالى: "وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ" (الحج: 78). وهذه الآية تذكرنا بأن الله لا يريد لنا العيش في ضيق أو معاناة، بل أن نعيش بكرامة وسلام.
وفي العمل، قد تجد نفسك في مواقف تحتاج فيها إلى الوقوف بحزم. فمثلا، الزملاء الذين يستغلون لطفك، أو المدير الذي يطالبك بما يتجاوز قدراتك دون تقدير. هذا ليس وقت الصمت، بل وقت الحديث بوضوح واحترام. لا تخف من التعبير عن حدودك ومطالبك. فبالتأكيد القوة في العمل لا تأتي من القوة الجسدية، بل من قوة الشخصية والقدرة على الحفاظ على حقوقك دون إيذاء الآخرين.
وفي العلاقات العاطفية، يتجلى هذا المفهوم بشكل أعمق. فلا تسمح لشريك حياتك أن يستهين بمشاعرك أو أن يفرض عليك أمورًا تخالف قناعاتك. لأن العلاقة الصحية هي التي تُبنى على التفاهم والاحترام المتبادل، حيث يُقدر كل طرف الآخر دون أن يشعر بأنه مضطر للتخلي عن ذاته.
أما في المجتمع، فإنك تدرك أن لك دورًا كبيرًا في بناء صورة متوازنة عن نفسك وعن قيمك. لا تتلون وفقًا للمواقف، ولا تحاول أن تكون نسخة من الآخرين. كن أنت، بكل ما تحمله من عيوب ومميزات، لأن التميز لا يأتي من التشابه؛ بل من الأصالة.
وإذا تحدثنا عن الجانب الروحي، فإن علاقتك بالله هي الأساس الذي يمنحك القوة والثبات. وعندما تكون قريبًا من الله، تشعر بالسلام الداخلي الذي يجعل كل الأمور الأخرى تبدو أقل أهمية. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ" (رواه الترمذي). هذه الكلمات البسيطة تحمل في طياتها عمقًا كبيرًا. فكلما حفظت حدودك وقيمك، حفظك الله وبارك في حياتك.
ومن زاوية أخرى، التمسك بالوضوح في حياتك اليومية يفتح أبوابًا من الحرية، الحرية في اتخاذ قرارات تعبر عن حقيقتك، الحرية في قول "لا" دون شعور بالذنب، والحرية في بناء علاقات قائمة على الصدق. هذه الحرية ليست مجرد امتياز؛ بل هي حقك الذي يجب أن تُحافظ عليه.
وفي ختام رحلتنا هذه.. تذكر أن الحياة ليست اختبارًا لتحمل الآخرين، بل هي فرصة لبناء نفسك والعيش بصدق. الزمن يمضي سريعًا، وكل لحظة تضيعها في التحمل الزائد هي لحظة تفقد فيها جزءًا من نفسك. اختر أن تعيش بكرامة، أن تحب نفسك كما تستحق، وأن تحترم ذاتك بكل قوة.
وسِّع عقلك، واعرف متى تقول "لا" ومتى تفتح أبوابك للفرص والعلاقات التي تستحق؛ لأن زمن التحمُّل ولَّى، وبدأ زمن الصدق مع النفس.
 

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

كلمات دلالية: تدرک أن

إقرأ أيضاً:

3 شخصيات تنشر عدوى التوتر.. نصائح علمية لتحصين نفسك

لا أحد في مأمن من التوتر؛ فبحسب الإحصاءات، يشعر نحو 80% من الأميركيين بالتوتر يوميا، سواء نتيجة لضغوط المسؤوليات العائلية والمهام اليومية، أو بفعل انتقال التوتر إليهم من أشخاص آخرين، تمامًا كما تنتقل الجراثيم الضارة، وفق ما أوضحته الدكتورة شيري باغوتو، أستاذة علوم الصحة المساعدة بجامعة كونيتيكت، في مقال لها على موقع "سيكولوجي توداي".

ورغم محاولاتنا للسيطرة على التوتر، قد يبدو احتواؤه مهمة صعبة، خاصة في ظل الأزمات التي يشهدها العالم من حروب واضطرابات وفقدان للوظائف وتقلبات اقتصادية تضر بالدخول والمدخرات. ويزداد الأمر تعقيدًا مع الدور الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي في تضخيم مصادر التوتر، مما يجعل الوقاية من عدواه أكثر تحديا.

لكن هناك جانبا مشرقا، إذ يؤكد الباحثون أن الوقاية من عدوى التوتر ممكنة. ومن بين الطرق الفعالة لتحقيق ذلك: بناء علاقات اجتماعية متينة، والتوقف عن الانشغال بالآخرين عند الشعور بالإرهاق، والتركيز على الأنشطة التي نستمتع بها، وتجنب الانخراط في المشكلات. هذا ما أوضحته الكاتبة العلمية سام جونز، الحاصلة على دكتوراه في العلوم الطبية الحيوية من جامعة كاليفورنيا، في مقال حديث لها نُشر بصحيفة "واشنطن بوست".

للوقاية من عدوى التوتر يجب التوقف عن الانشغال بالآخرين عند الشعور بالإرهاق (بيكسلز) كيف يتطور التوتر ويصبح مُعديا؟

يتطور التوتر لدى جميع المخلوقات "للمساعدة على تجنب المخاطر، وزيادة فرص البقاء على قيد الحياة"، وتتصاعد الاستجابة له في شكل "تسارع نبضات القلب، والتعرّق، وقلة النوم"؛ كما تقول ناتاليا دوك ويلكنز، أستاذة العلوم البيولوجية المساعدة بجامعة ولاية كارولينا الشمالية.

وتضيف أن "التوتر قد يصبح ضارا عند استمراره لفترة طويلة"، حيث يؤدي التوتر المزمن إلى ارتفاع مستمر في مستويات هرمونات الكورتيزول والأدرينالين، "مما يعزز تخزين الدهون، ويرفع ضغط الدم، ويؤثر على وظائف المناعة، ويُسبب اضطرابات مثل الاكتئاب والقلق".

وتُعدّ عدوى التوتر ظاهرة شائعة في كل من البشر والحيوانات، حيث يمكن أن ينتقل توتر شخص أو حيوان إلى آخر، كما تنتقل الإنفلونزا؛ فقد لاحظت عالمة البيئة السلوكية هانجا براندل، أن الطيور التي كانت تدرسها لا تتحرك كثيرا، ولا تتفاعل مع الحيوانات الأخرى عندما تكون متوترة، ولم يكن طائرا واحدا فقط هو الذي يتصرف وكأنه متوتر، بل المجموعة بأكملها.

إعلان

وعقبت على ذلك بقولها "تخيل، في حالة البشر، إذا كنت تعيش في شقة مشتركة مع 5 أصدقاء وكان اثنان منهم يعانيان من توتر مزمن، فمن المؤكد أنه سيكون هناك تغيير سلوكي لدى الجميع".

ورغم أن كيفية انتقال التوتر بين الأفراد "غير مفهومة تماما"، كما تقول ويلكنز؛ فإنها تعتمد على الرؤية بشكل أكبر غالبا، فنحن نميل إلى التقاط التوتر من خلال "تعابير الوجه، أو وضعية الجسم، أو نبرة الصوت"، ويعتمد انتشار التوتر بشكل كبير على تواصلنا بأي من هذه الطرق، أو بها مُجتمعة.

العلاقات الاجتماعية القوية تمنحنا شعورًا أكبر بالاستقرار والثقة (فري بيك) أشكال التوتر المُعدي وطرق حماية نفسك منها

"لأننا اجتماعيون نهتم بما يحدث للآخرين، فنحن غالبا ما نميل نحو تداول الأخبار السلبية، ونساهم في مشاركتها مع الآخرين، مما يتسبب في نشر عدوى توتر هائلة"، كما تقول ويلكنز.

وهي العدوى التي تناولتها الدكتورة باغوتو في 3 أشكال رئيسية، واقترحت حلولا للحماية منها.

1. الشخص المتوتر دائما، وهو الذي يتعامل معه الجميع بحذر شديد، فهو ينزعج بسهولة وبشكل غير مُتوقع؛ مما يجعله هدفا للّوم، لإبقائه مَن حوله من العائلة والأصدقاء في حالة "تأهب قصوى" تحسبا لتوتره التالي.

بالإضافة إلى ما قد يسببه الوجود مع شخص يُعاني من مستوى عال من القلق أو العدوانية أو الاكتئاب، من مشاعر سلبية مثل القلق أو الإحباط أو الخوف أو الغضب.

فإذا شعرت أنك بدأت تعاني من عدوى التوتر المزمن، فإن باغوتو تنصحك بمحاولة الحد من تواصلك معه، وخاصةً عندما تلاحظ تفاقمه.

وإذا لم تستطع تجنبه لأي سبب، فتدرب على التواصل معه "فور ملاحظة العلامات المبكرة للتوتر"، لتمنع تفاقمه؛ واحذر من مجاملته عندما يكون متوترا، "لأن هذا من المرجح أن يعزز سلوكه السيئ".

وعندما يتصرف بطريقة غير مقبولة، من المهم جدا أن تُخبره بوضوح في كل مرة -بعد أن يهدأ- أنك تشعر بمشاعر سلبية تجاهه.

إعلان

2. الشخص الدائم الشعور بتوتر الآخرين، بغض النظر عما إذا كانوا قريبين منه أم لا، فمجرد سماع خبر وفاة شخص ما يجعله يشعر بالقلق حيال فقدان أحبائه، ويُدخله في مشاعر سيئة يصعب عليه التخلص منها.

تقول باغوتو "قد يكون الأشخاص الذين يتمتعون بتعاطف كبير ويجدون صعوبة في التخلص من المشاعر السلبية عرضة لهذا النمط"، فإذا كنت تشعر دائما أنك بمثابة سند للآخرين، فكن على دراية بحجم الضرر الذي يُسببه هذا الدور عليك، "وقد تحتاج إلى بعض التراجع لمصلحتك".

وتوضح ستيفاني ديميتروف، أستاذة علم النفس الاجتماعي المساعدة بجامعة مونتانا، أن "التعاطف" يلعب دورا مهما في ذلك، "فالشخص المتعاطف بطبيعته، يُحس بمشاعر الآخرين بعمق، ومن ثم يشاركهم توترهم".

لذا، توصي هي أيضا بالتحلي بالحكمة "والتراجع وإعادة تقييم مقدار الوقت الذي تقضيه مع أشخاص يعانون من التوتر، بمجرد الشعور بالإرهاق، ومواجهة صعوبة في التخلص من عدوى التوتر". ومحاولة التركيز بدلا من ذلك على جوانب أهم في حياتك.

3. التوتر الناتج عن المبالغة في إلقاء المسؤوليات على الآخرين، فهناك دائما من يشعرون أنهم الأكثر انشغالا على وجه الأرض، مما يجعلهم يُبالغون في إفراغ ضغوطهم على الآخرين، بتسليمهم مسؤولياتهم، وحتى كل مهمة تقع على عاتقهم، تاركين لأنفسهم القليل من العبء أو لا شيء على الإطلاق، بحجة أنهم متوترون للغاية، وهو ما قد يحدث كثيرا بين زملاء العمل، أو الزوجين، أو الإخوة، وحتى في علاقات الوالدين والأبناء.

تقول باغوتو "لا تسمح لهم بنقل ضغوطهم إليك، لكي لا تُرسي سابقة سيئة تجعلهم يعتادون ذلك".

أهمية التفاعل الاجتماعي في الحماية من عدوى التوتر

تشير العالمة هانجا براندل إلى أن التفاعل الاجتماعي يلعب دورا إيجابيا في تسريع تعافي الإنسان من الاستجابة للتوتر. وتؤيدها ناتاليا ويلكنز موضحة أن "التواصل مع الآخرين بعد التعرض لضغط نفسي يقلل من مستويات التوتر"، بينما قد يؤدي ضعف الروابط الاجتماعية إلى تفاقم تأثير الشخص المتوتر على من يحاولون مساعدته.

إعلان

وتضيف ستيفاني ديميتروف، أستاذة علم النفس الاجتماعي، أن جوهر التوتر يكمن في "الشعور بفقدان القدرة على التنبؤ والسيطرة". ومن هنا تبرز أهمية العلاقات الاجتماعية القوية، إذ تمنحنا شعورًا أكبر بالاستقرار والثقة، وتطمئننا بوجود دعم متاح عند الحاجة، مما يجعل مواجهة الأحداث الصعبة أقل وطأة.

مقالات مشابهة

  • المجد للبندقية التي حرست المواطن ليعود الى بيته الذي كانت قحت تبرر للجنجويد احتلاله
  • 3 شخصيات تنشر عدوى التوتر.. نصائح علمية لتحصين نفسك
  • سلطان القاسمي يُفصح عن مكنونات تجاربه الذاتية وتأملاته الحياتية في "وسِّع عقلك"
  • ترامب يواجه ثورة يهودية داخلية: لا تستغلنا لقمع الآخرين
  • أفضل الصدقة التي أخبر عنها النبي .. اغتنمها
  • الماضي الذي يأسرنا والبحار التي فرقتنا تجربة مُزنة المسافر السينمائية
  • كيف تختار الهاتف الذكي الذي يناسب نمط حياتك؟
  • أمير مكة: الدعم السخي الذي يلقاه القطاع غير الربحي من القيادة يؤكد حرصها على تلمّس حاجات المواطن وتوفير متطلباته
  • دعاء الذي يقال عند بلوغ سن الاربعين
  • أعظم عبادات وقت الفجر.. داوم عليها وسترى التوفيق في حياتك