النجيد.. نبض العطاء وأمل المستقبل
تاريخ النشر: 1st, January 2025 GMT
فايزة سويلم الكلبانية
faizaalkalbani1@gmail.com
إهداء
"إلى أبناء بلدتنا العزيزة (النجيد) في ولاية عبري، من آبائنا وأمهاتنا وشبابنا الذين يُواصلون سعيهم المُستمر بكل إصرار وعزيمة، ليتركوا بصمة مُشرقة تظل شاهدة على عطاءاتهم في رفعة هذا الوطن العزيز، عُمان. إلى أولئك الذين يطمحون للعيش الكريم ويعملون بلا كلل من أجل مُستقبل أفضل، مُحاطين بمحبة وإخاء وعطاء لا يعرف حدودًا".
*******
خرجتْ أمي في إحدى صباحات الشتاء الباردة بخطوات ثابتة، تحمل في قلبها شغفًا لا ينطفئ، ومصحفها الصغير في يدها، تطوي المسافات مشيًا على الأقدام نحو مدرسة القرآن الكريم. ومع مرور الوقت، تغيَّر مكان منزلنا وأصبح أبعد عن المدرسة، فاستعانت أمي بإحدى الجارات لتقلها معها، محتسبة الأجر بتعاونها المشكور، لم تكن المدرسة كما هي اليوم، بل كانت منزلًا قديمًا تركه أصحابه، واستُغل ليكون مكانًا لتدريس الأمهات تحت برنامج محو الأمية، حيث اجتمعت النساء لأول مرة في أجواء بسيطة، يحملن حلمًا واحدًا: تعلم القرآن الكريم وحفظه، كانت تلك البدايات متواضعة، تمامًا كالأمهات اللاتي حضرن بخطوات مترددة، غير أنَّ الشغف بالعلم سرعان ما غلب كل تردد.
ومع مرور الوقت، بدأ الحلم يكبر، وانتقلت حلقات التعليم إلى مجلس متواضع بُني بالقرب من مسجد البلدة. هذا المجلس، الذي أصبح لاحقًا رمزًا للتجمعات في المناسبات المختلفة، من أعياد وعزاء وأفراح، تحول إلى مكان دائم لتعليم النساء القرآن الكريم.
لم يكن هذا التحول ليحدث لولا جهود أبناء البلدة وفريق من الشباب المتطوعين الذين حملوا على عاتقهم زمام المبادرة لترميم المجلس وتجهيزه، بتبرعات سخية من أبناء البلدة، هؤلاء الشباب، الذين تحلوا بروح العطاء، عملوا بلا كللٍ لجعل المكان ملائمًا لتحقيق أهداف التعليم، فبات المجلس بفضل تكاتف الجهود المخلصة أكثر استقبالًا للنساء وأمهات البلدة اللواتي توافدن عليه بشغف أكبر.
أصبحت مدرسة القرآن الكريم اليوم مكانًا تحرص عليه النساء حُبًا وقناعة، ورغبةً حقيقية في التعلم، حيث تتنوع البرامج التي تُقدّم، ما بين التفاعل مع المناسبات الوطنية واندماج الأمهات الدارسات في فعالياتها، مما يعزز من ارتباطهن المستمر بالمكان. في قلب هذا الجهد، تبرز الأستاذة وضحاء المعمرية، المتطوعة والمصرح لها بالوعظ والإرشاد من وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، التي تقوم بدور كبير في توجيه الأمهات وتعليمهن. إلى جانبها، تقف الأستاذة رياء بنت سالم الكلبانية، رفيقتي في الدراسة بالمدرسة، التي توفقت بأن تصبح مُرشدة دينية معتمدة من الوزارة، ولهن بصمات وجهود عظيمة في محبة الأمهات بالمدرسة وتشجيعهن على الإقبال المُستمر، مما جعله مركزًا جاذبًا للنساء الطامحات في تعلم القرآن الكريم.
من هنا أُقدِّم الدعوة المُتجدِّدة إلى وزارة الأوقاف والشؤون الدينية لتقديم الدعم المستمر للمُعلِّمات المُتطوِّعات، وتوظيفهن استنادًا إلى خبراتهن ورغبتهن في الاستمرار في مسيرتهن التعليمية. هذا الدعم سيكون خطوة مهمة لتكثيف استقطاب النساء المتعلمات، مما يُسهم في تعزيز جهود تعليم القرآن الكريم ويعكس إيمانًا بقدراتهن على إحداث تأثير إيجابي في المجتمع.
اليوم، لم تعد أمي تمشي وحدها إلى تلك المجالس؛ بل ترافقها جاراتها وصديقاتها من نساء البلد، يذهبن في جماعات، يحملن في قلوبهن شغفًا واحدًا: الارتقاء بمعرفتهن الدينية، وحفظ كتاب الله الكريم. بات المجلس يشهد حضورًا لافتًا يصل إلى أربعين مُتعلمة، كل واحدة منهن ترى في هذا المكان ملاذًا آمنًا يجمع بين التعليم والدعم الاجتماعي.
إنَّ هذه التجربة ليست مجرد قصة بلدة صغيرة؛ بل هي انعكاس لحراك أكبر يعم هذا الوطن العزيز المعطاء؛ حيث تسعى مراكز تعليم القرآن الكريم إلى تعزيز الهوية الإسلامية وغرس حب العلم في نفوس الأمهات والنساء. وما يحدث في سلطنة عمان يجد له صدى في بقاع أخرى من العالم الإسلامي، من أطفال إفريقيا الذين يتحدون قسوة الظروف لحفظ القرآن، إلى حُفاظ غزة الذين يتشبثون بكتاب الله وسط المُعاناة.
القرآن الكريم ليس مجرد كلمات تُحفظ، بل هو حياة تُعاش. وهذه المجالس، التي بدأت في منزلٍ متواضع وانتهت بمجلس رممته الأيادي الشابة، هي نموذج حي للصمود والإصرار على تحقيق الأهداف. هؤلاء النساء، ومعلماتهن، وشباب البلدة المتطوعون، يجسدون معاني العطاء والإيمان في قريتي "النجيد"، وبكل قرى عُماننا الغالية.
أصبحتُ في سعادة أكبر عندما اكتشفت أن أختي الكبرى في قرية مجاورة لنا بعبري قد انضمت مع نساء قريتها لتعيش نفس التجربة، متأثرات بالأجواء المشجعة على حفظ القرآن، تنظم هؤلاء النساء أوقاتهن بين مُتطلبات المنزل والعائلة ورغبتهن القوية في حفظ القرآن، مما يعكس إرادتهن الصلبة وإصرارهن على التعلم رغم مسؤولياتهن اليومية.
إنِّها رحلة مستمرة، تبدأ بخطوات صغيرة، ولكنها تصنع أثرًا عظيمًا. حين تذهب أمي اليوم إلى المجلس، تمشي بخطواتٍ واثقة، تعرف أنَّ هذا المكان ليس مجرد مجلس؛ بل هو منارة تحمل نور القرآن للأمهات، وترسخ القيم في النفوس؛ ليبقى القرآن نبراسًا يهدي أمتنا إلى طريق النور والخير.
رابط مختصر
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
كلمات دلالية: القرآن الکریم
إقرأ أيضاً:
مفتي الجمهورية: القرآن الكريم أولى عناية كبرى بما يحقق مصالح الناس
عبر فضيلة الدكتور نظير محمد عيّاد- مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في بداية كلمته خلال مسابقة بورسعيد الدولية للقرآن الكريم عن خالص تحيَّته وتقديره لمن كان سببًا في هذا اللقاء المبارك ومع هذا الجمع المبارك والحدث المبارك، وخصَّ بالذكر بشكل عام أسرة محافظة بورسعيد بشكل عام، وبشكل خاص معالي السيد اللواء/ محب حبشي -محافظ بورسعيد- سائلًا المولى لهذا الملتقى دوام الاستمرارية والبقاء، وأن يحقق هدفه، وأن يعود خيره على البشرية جمعاء.
وأشار فضيلته في البداية إلى أن الله تعالى أيد رسله بالمعجزات الباهرات والآيات البينات التي تدل على صدق نبوتهم ورسالتهم، وكانت معجزة كل نبي من جنس ما اشتهر به قومه، فلما جاءت رسالة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وخاتم النبيين كانت رسالة عامة وخاتمة فكانت معجزتها خالدة باقية بخلود وبقاء رسالته صلى الله عليه وسلم ألا وهي القرآن الكريم.
وقال فضيلته مبيِّنا منزلة القرآن الكريم من المعجزات الإلهية: لقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم معجزات حسية عديدة كغيره من إخوانه الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ومع ذلك كان لا بد لهذه الرسالة من معجزة تلائم طبيعتهم، فتتعدد وجوه إعجازها لتقيم الحجة على الخلق كافة وتستمر وتتجدد على مر الأيام لتظل شاهدة على الأجيال المتلاحقة بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم وربانية رسالته.
وأكد فضيلة المفتي أن القرآن الكريم هو المعجزة الكبرى الدائمة للمصطفى صلى الله عليه وسلم لم يكن معجزة حسية كمعجزات غيره من الأنبياء من قبله؛ لأن المعجزة المادية لا تؤدي هذا الدور ولا تصلح لهذه المهمة، وإنما كانت معجزته معنوية خالدة؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "ما من الأنبياء من نبي، إلا وقد أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة".
وبين فضيلته اختصاص القرآن الكريم وتفرده بأمور عديدة دون غيره من المعجزات، ومن هذه الأمور: أنه معجزة عقلية جاءت موافقة لطور الكمال البشري ونضوج الإدراك العقلي والعلمي الذي وافق عصر النبوة وما تلاه، كما أنه حجة على كل من بلغته آیات هذا القرآن ووعى ما جاء فيه من دعوة إلى الله، فهو رسول في الناس إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كما اختص بتعهد الله تعالى بحفظه وصيانته من التحريف والتغيير والتبديل قال تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].. ثم هو بعد كل ذلك مهيمن ومتضمن لما في الكتب السابقة من دون أن تتصادم حقائقه مع عقل صحيح ولا علم ثابت بيقين.
ثم انتقل فضيلته إلى بيان أن القرآن الكريم قد أولى عناية كبرى بكل ما من شأنه تحقيق مصالح البشر؛ فسن ما يحفظ على البرية كلياتها الخمس: نفسها، ودينها، وعقلها، وعرضها، ومالها، كما جاء بأمهات الفضائل وجوامع الأخلاق والآداب، وقرر المسؤولية الفردية ومسؤولية المجتمع كذلك، ومع أن القرآن قد أقر سنة التعدد والاختلاف بين الناس لكنه دعاهم للتعارف والتعاون فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: ١٣].
وأشار فضيلة المفتي إلى أن القرآن الكريم قد حرر المرأة، وأعاد لها ما صادرته عليها أنظمة المجتمعات في ذلكم الوقت من حقوق لا يتسع المقام لتعدادها وبيانها، وجاء بفلسفة جديدة تقوم على العدل والمساواة والشورى والاحترام، كما وجه العباد إلى كل خير، فأمرهم بأحسن الأخلاق، وأرشدهم إلى أقوم القيم، وأفضل المبادئ.
وفي الختام أكد فضيلته استحسانه لما فعلته محافظة بورسعيد عندما حرصت على إقامة مسابقة للقرآن الكريم تذكيرًا بفضله، وتأكيدًا على واجب الأمة نحوه، وتنبيها على خطورة هجره، وقبح الإعراض عنه، الأمر الذي يؤكد على أهمية التنافس في حفظه، والتسابق في القيام بأمره، والعمل بما فيه.