الحرب في السودان: سياسات توطين الجوع وتوريث الفقر
تاريخ النشر: 1st, January 2025 GMT
بروفيسور حسن بشير محمد نور
في الاسبوع الاخير من شهر ديسمبر 2024، أصدرت منظمة التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC) تقريرًا يشير (إلى انتشار المجاعة في خمس مناطق على الأقل في السودان، مع توقع توسعها إلى خمس مناطق أخرى بين ديسمبر 2024 ومايو 2025. أفاد التقرير بأن حوالي 24.6 مليون شخص، أي نصف سكان السودان، يحتاجون إلى مساعدات غذائية عاجلة، مما يعكس تعمقًا غير مسبوق لأزمة الغذاء والتغذية في البلاد).
وللعلم ومزيد من التوضيح لما هو واضح، فان منظمة التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي هي (IPC (Integrated Food Security Phase Classification) هي الية او أداة أو نظام عالمي يُستخدم لتصنيف وتحليل مستوى انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية في مناطق معينة، تم وضعه من قبل منظمات دولية متخصصة في الامن الغذائي وبالتحديد منظمة الأغذية والزراعة (FAO) وبرنامج الغذاء العالمي (WFP) وعدة جهات أخرى، بهدف توفير تقييم موحّد ومشترك لحالة الأمن الغذائي. يهدف ذلك النظام الي توحيد المعايير والتصنيف لانعدام الامن الغذائي وسؤ التغذية، مساعدة الحكومات والمنظمات الإنسانية في اتخاذ قرارات موثوقة حول الاستجابات للأزمات الغذائية ودعم التخطيط طويل الأمد لتحسين الأمن الغذائي وتقليل مخاطر الكوارث.
اذن ما هي مصلحة هذا النظام العالمي المتخصص الذي لم يتم تصميمه للسودان في التجني علي هذه الدولة او تلك؟ فهو نظام عالمي ممول دوليا ويحق للشعب السوداني الاستفادة منه بحكم عضوية بلده في الامم المتحدة وبالتالي الاستفادة من التخصيص الدولي في تلك المجالات موضوع الاختصاص؟ في هذه الحالة فان انسحاب حكومة الامر الواقع من ذلك النظام ورفض تصنيفه المتخصص المتقن ينطبق عليه المثل السوداني القائل: ((جو (جاءوا) اساعدوه في دفن ابوه دس المحافير)، الا انه من الواضح ان المواطن ليس أب ولا أم لهؤلأ الناس وليس اخا او اختا او ابنة او ابنا لهم، وانما مجرد متاع للاستخدام وموضوع للجباية والحصول علي الامتيازات والحوافز. المجاعة في السودان تري بالعين المجردة، في اكل الناس للحشرات واوراق الاشجار وفي الهزال والموت، فالجوع (الكافر)، لا يحتاج حتي لتقارير دولية او مسوحات فهو ينتشر الان بشكل فاضح.
مع ذلك فان تاريخ الجوع والمجاعات في السودان ليس جديدا، وانما الجديد هو ما اضافته الحرب من كوارث. فبالرغم من الموارد الزراعية الهائلة التي يمتلكها السودان، بما في ذلك الأراضي الخصبة والمياه الوفيرة من النيل والانهار والأمطار الموسمية والمياه الجوفية، التي توفر وسائل ري متعددة طول العام، إلا أن البلاد تعاني من تاريخ طويل من الجوع والمجاعات. هذه بالطبع مفارقة تعكس الاخقاقات الهيكلية في السياسات الاقتصادية والزراعية التي لم تُوجَّه لدعم التنمية الريفية أو محاربة الفقر.
شهد السودان مجاعات متكررة منذ عهد الثورة المهدية، خاصة تحت حكم الخليفة عبد الله التعايشي وهو ما عرف بمجاعة سنة ستة، في نهاية القرن التاسع عشر قبل دخول المستعمر الانجليزي للسودان في العام 1898م، وللمفارقة ان العهد الاستعماري رغم استغلاله الاستعماري كان ارحم من حيث المجاعات ومستويات الجوع لادارته المنضبطة ولعدم وجود الفساد علي المستوي الشخصي للحكام والاداريين، كما هو شائع اليوم، وهي مفارقة تستحق التأمل. خلال القرن العشرين كانت أبرز مجاعة هي التي حدثت في 1984/1985 في عهد ديكتاتورية نميري والناتجة عن الجفاف وانعدام خطط استجابة حكومية فعالة. وقد ساهمت الصراعات الأهلية والتوترات السياسية في تعميق الأزمة، حيث تركّزت الجهود الحكومية في سياسات تنموية حضرية ممركزة دون إعطاء الأولوية للريف، حيث يعمل معظم السكان في الزراعة والرعي خاصة في القطاع المطري التقليدي.
مع اندلاع الحرب في أبريل 2023 بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، تفاقمت الأزمة الغذائية بشكل كارثي، وتأثرت المناطق الزراعية الكبيرة، لا سيما في دارفور وكردفان والنيل الأزرق، بشكل مباشر بسبب توقف الإنتاج الزراعي في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع، وارتفاع تكاليف الإنتاج وانعدام التمويل الزراعي في مناطق سيطرة الجيش. وتشمل العوامل الرئيسية:
- تعطيل الإنتاج الزراعي الذي شمل الأضرار ودمار البنية التحتية الزراعية ونهب المعدات وتدمير وسائل الري، كما حدث في مشروع الجزيرة مما جعل العودة للإنتاج أمرا صعبا او غير مجدي.
- ارتفاع تكاليف الإنتاج، اذ أدت الحرب إلى نقص حاد في مدخلات الزراعة مثل البذور والأسمدة والوقود، وارتفاع أسعارها بسبب تعطل الإمدادات.
- عزل المناطق المحتاجة للاغتثة نتيجة لمنع أطراف الحرب المنظمات الإنسانية من الوصول للمناطق الأكثر احتياجًا بما فيها بعض معسكرات اللاجئين، مما زاد من معاناة السكان.
اضافة لما اوردته منظمة التصنيف المرحلي المتكامل IPC)) فان مؤشر الجوع العالمي (Global Hunger Index)، يضع السودان في المرحلة الحمراء باحتلاله مراكز متأخرة جدا تجعله ضمن الدول ذات الوضع "الحرج للغاية". كما تُظهر الإحصاءات الصادرة عن جهات وطنية ودولية متعددة منها نقابات ومنظمات مجتمع مدني، الي أن نسبة كبيرة من السكان تعاني من نقص التغذية، مع ارتفاع معدلات الوفيات بين الأطفال بسبب سوء التغذية الحاد، مما يؤكد ان التصنيف ليس احادي الجانب وليس عملا متحيزا، ولماذا يتحيز من يريد تقديم الغذاء بشكل مكشوف وعبر نظام دولي؟.
نصل الي ان المنظمات الدولية مثل برنامج الغذاء العالمي ومنظمات الأمم المتحدة الأخرى تسعي الي تقديم المساعدات الطارئة، لكنها تواجه تحديات لوجستية وأمنية كبيرة. تقتصر هذه المساعدات غالبًا على مناطق محدودة، مما يترك ملايين السكان دون دعم كافٍ، لذلك كان القبول بتصنيف الية ( IPC) من الممكن ان يوسع الاستجابة للحاجات الانسانية للغذاء والحد من المجاعة واثارها الكارثية التي تنعكس علي حياة الناس بشكل مباشر.
للخروج من أزمة المجاعة، يحتاج السودان إلى:
- وقف الحرب لأن استمرارها يؤدي إلى تعطيل كل الجهود الزراعية والإنسانية، وبما ان هذا غير وارد في وقت قريب فيجب:
- تعزيز الدعم الدولي، وهو ما يتطلب ان يعمل المجتمع الدولي علي مزيد من الضغط على أطراف الصراع لفتح ممرات آمنة للمساعدات والاستجابة للجهود الدولية في التصدي للمجاعة.
- تمكين المجتمعات الريفية: عبر تقديم تمويل ميسر ومدخلات إنتاج ودعم تقني، لان هناك اموال طائلة تذهب الي جيوب الموظفين و(مسؤولي) الحكم، اضافة طبعا لتمويل الحرب.
- وضع سياسة زراعية بعد الحرب، اذ يجب تبني سياسات زراعية تركز على دعم صغار المزارعين، وإعادة تأهيل البنية التحتية الزراعية، علي ان يكون هذا اولوية لاي حكومة تأتي بعد الحرب.
- ادارة الموارد وتوجه السياسات الاقتصادية الكلية نحو التنمية والاستخدام الامثل للموارد الزراعية في تصنيع القيم المضافة بالتوازي مع الامن الغذائي وانتاج الوقود الحيوي.
يشيرتاريخ الساسات الاقتصادية في السودان، الكلية والجزئية، الي انها عبارة عن سياسات قصيرة النظر تعمل علي توطين الجوع وتوريث الفقر جيلا بعد جيل وقد اضافت الحرب الحالية تبعات جديدة من سوء الادارة والاستغلال.
إذا استمرت هذه الحرب وحالات الانكار والهروب الي الأمام فلا يوجد أي افق لأستثمار الموارد الهائلة للسودان بفعالية، وبالتالي فإن البلاد ستواجه مصيرا اسود من المجاعات ومستويات كبري من الفقر واستمرار توريثه، ومع ذلك تتوفر الإمكانيات الحقيقية للتخلص من شبح المجاعة وتحقيق الأمن الغذائي وتحقيق التنمية لاي حكم مستقبلي رشيد. وتبقى جميع تلك الإمكانيات رهينة بمشروع وطني وبالإرادة السياسية التي توقف الحرب وتحقق الاستقرار المنشود للتعافي الاقتصادي والاجتماعي للبلاد والتخلص من الارث الطويل من سياسات التجويع وتوطين الفقر.
mnhassanb8@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الأمن الغذائی فی السودان
إقرأ أيضاً:
الكشف عن الأهوال التي يتعرض لها الفلسطينيين في غزة
ألقت صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية، الضوء على الأهوال التي يتعرض لها الفلسطينيون فى قطاع غزة على أيدى الاحتلال الإسرائيلي، وقالت إن منظمات حقوق الإنسان تصف الوضع فى القطاع بأنه يزداد يأسا.
وقالت الصحيفة، إنه منذ شنت إسرائيل غزوها لغزة حولت عمليات القصف العسكري المدن إلى أرض قاحلة مليئة بالأنقاض، ونزح 90% من سكان غزة البالغ عددهم نحو 2.1 مليون نسمة مرة واحدة على الأقل.
واشارت الصحيفة إلى أن الوضع الإنساني المتدهور على نحو متزايد أثار موجة من الإدانة اللاذعة من جانب الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان الدولية.
ونقلت الصحيفة عن فادية ناصر، وهي أرملة لجأت إلى دير البلح في وسط غزة قولها إنها لم تقتات على شيء سوى شطيرة صغيرة من الأعشاب في وجبة الإفطار وطماطم تتقاسمها مع ابنتها في وجبة الغداء على مدى الأسابيع القليلة الماضية.
وعلى بعد أحد عشر ميلاً في مخيم في جنوب غزة، يقول سعيد لولو، الذي اعتاد إدارة كشك قهوة صغير في مدينة غزة، إنه يعاني من آلام بسبب مرض الكلى ولكنه لا يستطيع الوصول إلى المياه النظيفة التي يقول الأطباء إنه يجب أن يشربها لمنع حالته من التدهور.
وتقول الصحيفة إن الحرب في غزة تحرم الأطفال من آبائهم والآباء من أطفالهم، وتقوض النظام الطبيعى للأمور وتدمر الوحدة الأساسية للحياة فى غزة، كما تتسبب الحرب فى أعداد هائلة من الأيتام فى حالة من الفوضى، لا تستطيع أى وكالة أو جماعة إغاثة إحصاءها.
ونقلت الصحيفة عن عاملين في المجال الطبي قولهم إن الأطفال يُترَكون يتجولون في ممرات المستشفيات ويدافعون عن أنفسهم بعد أن يتم نقلهم إلى هناك وهم ملطخون بالدماء وحيدين، “طفل جريح، لا أسرة على قيد الحياة”، كما تصفهم بعض المستشفيات.
وباستخدام طريقة إحصائية مستمدة من تحليل حروب أخرى، يقدر خبراء الأمم المتحدة أن ما لا يقل عن 19 ألف طفل يعيشون الآن بعيدا عن والديهم، سواء مع أقاربهم أو مع مقدمي الرعاية الآخرين أو بمفردهم. لكن الرقم الحقيقي ربما يكون أعلى.
ويقول جوناثان كريكس، المتحدث باسم اليونيسف إن الحروب الأخرى لم تشهد هذا القدر من القصف وهذا القدر من النزوح في مثل هذا المكان الصغير والمزدحم، مع وجود نسبة عالية من الأطفال.
ورصدت الصحيفة تأثير حرب غزة على الآلاف من الأطفال الفلسطينيين الذين أصبحوا أيتاما بعد أن فقدوا آبائهم جراء العدوان الإسرائيلى المستمر منذ أكثر من عام على القطاع، وأشارت إلى تدخل أقارب هؤلاء الأطفال وموظفى المستشفيات والمتطوعين لرعايتهم، حيث تعرض بعضهم لإصابات بجروج وصدمات نفسية وتطاردهم ذكريات والديهم.
إهلاك اجيال
وقالت الواشنطن بوست إنه تم منع أكثر من 10 آلاف مريض يحتاجون إلى إجلاء طبي عاجل من مغادرة غزة منذ بداية الحرب، وكذلك صرّحت وزارة الصحة الفلسطينية إن ما يقرب من 1000 مسعف استشهدوا في غزة في العام الماضي فيما وصفته منظمة الصحة العالمية بأنه خسارة لا يمكن تعويضها وضربة قوية للنظام الصحي.
وخلص التقرير إلى أن الهجمات على المرافق الطبية في غزة، خاصة تلك المخصصة لرعاية الأطفال وحديثي الولادة، أدت إلى معاناة لا تُحصى للمرضى الأطفال، بما في ذلك الأطفال حديثي الولادة.
وبمواصلتها لهذه الهجمات، انتهكت إسرائيل حق الأطفال في الحياة، وحرمتهم من الوصول إلى الرعاية الصحية الأساسية، وفرضت عمداً ظروفاً معيشية يقصد بها إهلاك أجيال من الأطفال الفلسطينيين.