في حربنا المقيتة تتواتر كل مصطلحات قاموس (الأزمة الإنسانية). أحياءٌ سكنية مدمرّةً؛ بمن وما فيها. مدنٌ مهجورة،كلُ صنوف العنف والتوحّش .فيها أعداد مهولة من القتلى فوق العدّ وأكثر من ذلك مصابون وجرحى، جوعى ومرضى ، وأرقامٌ مجهولة لأسرى . فيها الإجبار على الإخلاء،النزوح ، هجر السكن ، فقد أرصدة الكد الذاتي، التعرضُ المهين للنزوح ،النهبُ والسلب .
*****
كل تلك البلايا تغطي رقاعا عريضة من الوطن .المنظمات الدولية لا تكتفي فقط بتأطير كارثة الجوع المتمكنة من الشعب حتى العظم ،بل تحذر من استشراء مساحة الجوع أُفقياً ورأسيا. فمنظمة الصحة العالمية تحدد خمس مناطق تكابد مجاعةً ضروس.كما تحذر من سقوط خمس مناطق مغايرة بين فكي الجوع لا محالة خلال النصف الأول من السنة الجديدة. أبعد من ذلك يؤشر تقرير دولي إلى سبعة عشر منطقة أخرى يهددها شبح المجاعة. وزير الخارجية البريطاني يصنّف وضع الأمن الغذائي في السودان ب(مثير للقلق) بابا الفاتيكان ينادي بمفاوضات تستهدف وقف النار. انتشار العمليات العسكرية وأشكال العنف في دارفور، كردفان، الجزيرة ،سنار ومناطق في النيل الأبيض عرقلت الإنتاج الزراعي .ذلك بعضٌ مما ورد في تقرير لجنة متابعة الطوارئ الإنسانية.
*****
لعل كشف ذلك البعد اللاإنساني من الحرب الظالمة دفع الجنرالات مغتصبي السلطة يسارعون لإعلان مقاطعتهم المنظمات الدولية الإنسانية المعنية بالأمن الغذائي. للمفارقة فقد بثت وكالة الأنباء الرسمية (سونا) بالتزامن مع تلك الفضيحة اخبارا عن عن عصابات تنهب بيوتا في كرري بالتزامن مع اغتصاب عشرين طالبة جامعية داخل منزل زعيم وطني راحل. عشية إعلان تلك المقاطعة . بالإضافة إلى ذلك تداول المتصفحون صور تكدس جموع من اللاجئين في القاهرة طلبا لإغاثة الشتاء.للمفارقة المضحكة المبكية في الأزمة الانسانية مشاركة حاكم دارفور تحت جنح الحرب والأزمة الإنسانية الطاحنة في مؤتمر للأحزاب الاشتراكية في الرباط. هولا ينتمي لأي حزب.بل زعيم فصيل مسلح! هو أحد مروجي الكراهية ودعاة الفاشية!.
*****
لا أحد يمتلك مع اكتناز الأزمة وانهيار الدولة ماكينزم إحصاء لضحايا الجوع، المرض والتصفيات الوحشية على المستوى الفردي والجماعي. الكلام عن انتهاكات حقوق الإنسان يصبح ترفا تحت ظل هذا التفحش في التوحش بما ذلك التلذذ في ممارسات التعذيب الممعنة في الإذلال وفق جميع أشكال العنف العشوائي والممنهج.عند حلول يوم يأتي حتما يُرفع فيه الغطاء عن كافة أهوال الرعب سندرك جميعا كم هي غائرة تلك الجروح في الأرواح الصابرة الصامدة الصامتة حد الجنون.في زمن تفكك الدولة وتفشي حمى الخوف الجماعي شاهدنا بنات وابناء الجزيرة أبا في هجرة جماعية هربا من الماء.هي الأولى من نسقها .فأهل أبا عُرف عنهم الثبات في وجه الماء والنار. لكن عجز الدولة مع أمواج الأزمة أجبرتهم على ما كرهوا. البعد الخفي في الهجرة الفريدة ألا إمامَ ولا هاديَ لها ولا وجهة محددة . ذلك الخروج الكبير من أبا كما من الجزيرة سابقا من أشد مظاهر الأمة الإنسانية إيلاما! استبدال العملة وحرقها كما عملية الامتحانات المرتجلة يعكسان محاولات بئيسة لتأكيد وجود بقايا من أجهزة الدولة .كم هي محزنة احوال الشباب المعطل دولاب دراستهم والمجمدة تطلعاتهم الحياتية وأحلامهم.
*****
كما للحرب أبطالها فإن للأزمات (بَطَلَتَها).هم أ نصاف رجال متهورون متسلحون بأوهام وربما طموحات ليست مشروعة تطفو اسماؤهم على سطح أمواج الغفلة دوماً وسط اضطراب عواصف شعبية تحدث فراغا سياسيا. لوجود هذا الرعب الصادم من المهجوسين بجنون العظمة وهواجس الاضطهاد العرقي أضراب في التاريخ. فعقب انهيار نظام سياد بري في الصومال طفا على السطح ثلة من المتنافسين الحمقى لملء الفراغ السياسي.أحد أبرز أؤلئك المجانين بالسلطة الجنرال فارح عيديد .عوضا عن سد الفراغ توغل الصومال على يدي ذلك الأرعن في فوضى لمّا يسلم منها بعد. لدينا من ذلك المعتوه أكثر من نسخة غير معدلة. الجنرال فرانكو احد النسخ الأوربية الطافية في حالات الفراغ والمغرقة الشعب في خضم الفوضى.قراءة التاريخ تقدم لنا كذلك شواهد في رواندا وصربيا ممن لايكتفون بهزيمة خصومهم بل يتجاوزون بعيدا في سفك دماء الأبرياء إلى الإبادة.
*****
حين يشط الجنون بالمتنافسين على السلطة حدا يسوّقون عنده وحشيتهم المجردة من الحد الأدنى من الإنسانية عملا وطنياً لايبقى لناشط سياسي مساحة للدفاع عن نفسه ،دع عنك أفكاره. لئن انضمت الطبقة الطفيلية لمهرجان الزيف الموشح بالعنف والدم فمن المؤلم انسانيا التحاق أدعياء الدعوة للإسلام السمح بإنسانيته وادعياء التبشير بالكرامة الإنسانية،العدالة والثقافة بمعسكر الرعب والعنف . هؤلاء هم صنعة ومصممو العنف،الأزمة والحرب بنجومها السوداء .من المؤلم الإنشغال بالجدل المحموم المسموم بين فسطاطين أحدهما ينادي بوضع نهاية للحرب وآخر يصر على اجهاض كل جهد يبذل بغية إطفاء النار . فكما قال ابن الخطاب (مراجعة الحق خيرٌ من التمادي في الباطل .) فكيف يكون دعاة وقف الحرب أنصاراً لممارسي القتل والاغتصاب؟ فمشعلو الحرب ودعاة استمرارها يخادعون الواقع والأبرياء المعذبين المبعثرين في الجهات الأربع من اجل استرداد امتيازاتهم المكتسبة زورا وبهتانا كما كانت إبان احتكارهم مفاصل الدولة ومصادر الثروة.
نقلا عن العربي الجديد
aloomar@gmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
“غريبة الروح .. حكاية الشاعر الذي كتب وجعه بالحبر والحنين”
بقلم : سمير السعد ..
شاعر الاغتراب والحنين الذي صوّر وجعه على وتر الحياة و في زوايا مدينة الناصرية، تلك الأرض الخصبة بالإبداع والموشومة بحكايات العشق والخيبات، وُلد الشاعر جبار الغزي. شابٌ حمل في قلبه روحًا حساسة عكست وجدان الجنوب الجريح. لم تكن مسيرته إلا سلسلة من محطات الألم والاغتراب، حفرها الزمن بيدٍ قاسية في ملامحه وروحه.
في مطلع شبابه، وقع الغزي في حب فتاة جميلة أخلاقًا وشكلاً، ارتبطت مشاعرها به تأثرًا بعذوبة كلماته ودفء روحه الشاعرية. كان يخطّ لها قصائد تشبه ندى الصباح، ويرسلها كرسائل حب تفيض بالعاطفة. لكنها، كأغلب قصص العشق المأساوية، انتهت برفض قاطع من أهلها، تاركين جبارًا في مواجهة الفراغ العاطفي والخذلان.
لم يستطع أن يجتاز هذه النكسة بسهولة. هرب إلى بغداد، محاولًا دفن جرحه بين دروبها الصاخبة، ولكنه لم يجد في شوارعها وأزقتها سوى غربته التي صارت رفيقة ليله ونهاره. هناك كتب واحدة من أعذب قصائده، “غريبة الروح”، التي أظهرت عذابه الداخلي وصراعه مع الذكريات !
“غريبة الروح لا طيفك يمر بيها
ولا ديره التلفيها
صفت وي ليل هجرانك ترد وتروح
عذبها الجفه وتاهت حمامة دوح”
وسط هذا التيه، حملت بغداد له لقاءً يعيد دفءًا مؤقتًا لروحه، حين التقى أمه تحت نصب الحرية بعد سنوات طويلة من الفراق. كان المشهد أشبه بمسرحية حزينة، حيث اجتمع العناق بين دموع الفقد وشوق اللقاء. عكست هذه اللحظة جبار الإنسان، الذي حمل أوجاع الوطن وفقد الأحبة في آنٍ واحد.
مع مرور الوقت، تحوّل الحنين إلى حالة مستديمة في حياة الغزي. كان يتمنى عودة محبوبته، ولو كغريبة تعبر دروب بغداد. حمل في داخله شوقًا مكابرًا، كالعطش للماء الذي لا يرتوي أبدًا ! .
“تحن مثل العطش للماي تحن
ويلفها المكابر
ويطويها وانت ولا يجي ببالك
تمر مرة غرب بيها واهيسك جرح بجروحي
يمرمرني وتحن روحي”
حين كتب “غريبة الروح”، لم تكن مجرد كلمات على ورق؛ بل كانت هوية شعرية تحمل توقيعه الأبدي. جسّد الفنان حسين نعمة هذه المشاعر بصوته، مانحًا النص حياة جديدة تتخطى حدود الكلمات. أضاف الموسيقار فرحان محسن لحنًا يمزج بين الحزن والشجن، ليصبح العمل مرآةً صادقة لروح الغزي.
رغم محاولات الغزي لتجاوز خساراته، بقيت روحه غريبة في هذا العالم. استمر وجعه كشاعر يعكس معاناة كل من عاش الغربة والفقد. ربما لم ينصفه الزمن، لكن أعماله ستظل شاهدة على شاعر جعل من الحزن إبداعًا، ومن الألم قصيدة خالدة.
هكذا، يبقى جبار الغزي رمزًا إنسانيًا يحمل تفاصيل حكاية وطن بأكمله، حيث الحب والخذلان، الغربة والحنين، والشعر الذي يخلد الأرواح المتعبة.
رحلة الغزي لم تكن رحلة فردية، بل كانت انعكاسًا لمأساة جيلٍ بأكمله. جيل عاش تحت وطأة الظروف القاسية التي مزجت بين الحروب والخذلان والهجرة القسرية. في كل بيت شعري كتبه، كان ينطق بلسان المحبين المحطمين، وبصوت كل غريب حمل قلبه عبء الذكريات.
قصائده لم تكن مجرد كلمات عابرة، بل صور شعرية مؤثرة عكست شعوره بالضياع والخذلان، وجعلت مستمعيه يشعرون وكأنهم جزء من قصته. كان الحزن حاضراً في كل حرف، كأن روحه نُقشت على الورق. لم يكن الغزي شاعرًا تقليديًا يكتب فقط للتسلية أو الوصف، بل كان شاعر القلب الجريح الذي استمد إلهامه من تجربة عاطفية وإنسانية عميقة.
على الرغم من النجاح الكبير الذي حققته قصائده، ظل الغزي أسير الحزن. لم تشفِ الشهرة جراحه ولم تملأ الفراغ الذي تركه حبّه الأول. حياته انتهت بمأساة لم تكن غريبة على مسيرته المليئة بالألم. ترك هذا العالم وهو لا يزال غريب الروح، باحثًا عن طيف محبوبته، وعن مدينته التي لم تلتئم جراحها في قلبه.
اليوم، وبعد عقود من رحيله، ما زالت كلماته تُتلى كأنها صلوات على أرواح المتعبين. “غريبة الروح” ليست مجرد قصيدة ، إنها مرآة لروحه ولأرواح كل من فقد شيئًا أو شخصًا أحبّه.
حمل الناصرية في قلبه وبغداد في غربته، ترك بصمة لا تمحى في تاريخ الشعر الشعبي العراقي. لم يكن مجرّد شاعر كتب عن الحب والفقد، بل كان صوتًا للروح العراقية المعذّبة، وصورة حيّة لصراع الإنسان مع أقداره.
ويبقى السؤال الذي تركه وراءه معلقًا في وجداننا ..
“هل يمكن للغريب أن يجد وطنًا لروحه، أم أن الغربة قدرٌ لا فرار منه؟”