(كلمة الدكتور عبد الله علي إبراهيم في ندوته بطيبة برس بالخرطوم
تاريخ النشر: 1st, January 2025 GMT
(كلمة الدكتور عبد الله علي إبراهيم في ندوته بطيبة برس بالخرطوم وقفة عيد الاستقلال 31-12-2008 التي أعلن فيها ترشيحه لانتخابات رئاسة الجمهورية، فبراير 2009)
(في عشية عيد الاستقلال لعام 2009 دعوت لمؤتمر صحفي بمكاتب طيبة برس بزعم أنني سأقدم محاضرة بعنوانها. ولكن كنت رتبت نفسي لإعلان مفاجأة وهو ترشيح نفسي لرئاسة الجمهورية.
سمعت أول ما سمعت بنبأ قرب خلاص السودان من الاستعمار وأنا في وضع منذر بسوء العاقبة. فقد كنت صبياً بالمدرسة الوسطى "قالب هوية": رأسي مدلدلاً وأقدامي في الهواء على حائط من بيوت حلة المحطة بمدينة عطبرة. وأنا على هذا الوضع الاستثنائي جاء رجل من أقصى المحطة مهرولاً يذيع نبأ توقيع اتفاقية فبراير 1953 بين بريطانيا ومصر التي منحت الحكم الذاتي للسودانيين. ووجدت في هذا الوضع، الذي تلقيت فيه نبأ استقلالنا، رمزاً لسوء منقلب هذا الحادث السعيد حتى أصبح فينا "عيد بأية حال عدت يا عيد". ولكن أكثرنا عض على هذا المنجز الوطني الوسيم بالنواجذ مثمنين استعادتنا لإرادتنا الوطنية بغض النظر عن سوء استخدامنا لها. فالعودة إلى مربع الاستعمار (أو تشهي العودة له) عيب شؤم لأنه استبدال للحق والحرية بالباطل وهو العبودية. والأصل في الإرادة الوطنية هو حق الخطأ. حتى قال الرئيس نايريري للغرب إن لنا سرعتنا الخاصة فلا تعجلوا بنا.
وفي شرط الإرادة الوطنية والحرية قمنا بما نكاد أن نبلغ الآن به بر الأمان رغم مر الشكوى من الاستقلال. فقد توافرت الآن الأسس الواجبة لبناء وطن حر مستقل تظلله الإلفة السودانية. فالاتفاقات الناجزة (نيفاشا) والتي تحت النظر والمراجعة والاحتجاج (أبوجا والشرق والقاهرة) توجت ما اسميته من قبل ب "إعادة التفاوض" في بلدنا. وهو إجراء ضروري لنتحول بالبلد من مستعمرة فصَّلها الاستعمار على مقاسه وغرضه "قميص عامر" إلى وطن يسعد فيه السودانيون كافة بمنزلة المواطن لا الرعية. ونحن نقف بهذه الاتفاقات على أكتاف عالية سبقت مثل ثورة أكتوبر بتعبيرها الجنوبي المسؤول ومفاوضات المائدة المستديرة في 1965، واتفاقية أديس أبابا في 1972، وسائر المفاوضات من بعد ذلك بين الدولة وخصومها ومن بين الجماعات السودانية فيما بينها.
ومن حقنا تهنئة أنفسنا كسودانيين على أمرين. اولهما الشجاعة التي جاءت بها كل قوى الشعب السوداني بما في ذلك الجماعات المهمشة بأشواقهم جمعاء إلى مائدة المفاوضات تباعاً وبإلحاح وصبر وعزيمة حتى صرنا كلنا على علم بظلاماتنا. فكل شيء في الضوء وهذا سبيل الحلول والمواثيق التي تبقى وتلم شعث الوطن. أما ثاني ما نستحق التهنئة عليه فهو أننا لم نمل التفاوض وصار فينا عادة. وحتى الذي استكبر عاد مكرهاً لطاولته: أباها ممعوطة فقبلها بصوفها. وما نريد اعتياده هو شرف الالتزام بالميثاق الوطني لا نهبط به إلى درك الحزبيات والجهويات وما أدريك. وعادة التواثق مما يحمل عليه الناكث لأن في السياسة من يراوغ حتى تنسد عليه السبل.
كدنا بما توافر لنا من مواثيق أن نرى الضوء في نهاية النفق. وكل ما أصابنا من ضر فادح هو من مستحقات بناء الأوطان الخيرة المتآلفة بلا استثناء. فلنتفاءل بالخير نجده. ولا نستبق التطورات الدقيقة الحرجة القادمة لتشطيب بناءنا الوطني بالنذر البائسة. فليس بوسع سياسي أن يرشو شعبنا لانتخابه كما يروج البعض من شرفات لوج السياسة. فهذا تبخيس لإرادة شعبنا سواء جاء ممن طلب شراء الذمم، أو من صدق أن هذا ممكن الحدوث. شعبنا فوق هذه الصغائر. ومن تلك النذر قولهم أنه ربما طاف بنا طائف الجارة كينيا في انتخاباتها الأخيرة. وهذه استنتاج فاسد لأنه لم يقم على مقدمات منطقية. فلو كانت فينا جرثومة الفتنة الانتخابية لحدثت بعد انتخاباتنا في 1954 بعوارها الكثير. ولكن بلدنا محروس. ومن النذر أيضاً قولنا أن تقرير المصير الجنوبي هو باب وشيك حتمي للانفصال. وهذا باطل من وجهين. أولهما: طالما كان الانفصال خياراً فلماذا هذا الترويع به أصلاً؟ لماذا نرتعب من ممارسة لحق مكفول؟ علماً بأنه، من الجهة الأخرى، لم يثبت من تاريخنا أن كان الجنوب على هذا المزاج إلا من قلة ستظل عليه قبل الاستفتاء وبعده ولا تثريب عليها.
لذا كانت الانتخابات القادمة هي عقدة المسألة للخروج من نفق طال. وعلينا أن نستعد لها بأفضل مما نفعل. فأكثرنا ما زال يراوح عند استباق نتائج الفرص الذهبية المتوافرة لبناء السودان المتآخي الديمقراطي. فتهجم عليه نذر الشؤم خشية أن يتفرق السودانيون أيدي سبأ. وبالنظر إلى ما علقته من أهمية على الانتخابات القادمة للم شتات الوطن، ولطويلة، فإنني أنظر بجد وقوة إلى نتائجها على مستوى رئاسة الجمهورية خاصة. فمتى أَمَّنا زعامة صالحة ضمنا استثماراً أكيداً للفرص الغراء التي بمتناولنا حتى ننهض بالسودان ونشفي جراحه فيكون الوطن المتآخي السالم المسالم السعيد . . . " الفوق" الذي به هتفنا حتى انشرخ الحلق. وقد استخرت بشأن تبعتي شخصياً تجاه هذا التشهيل الطيب للانتخابات وتوصلت إلى ما يلي:
أصالة عن حقيقة في نفسي وامتثالاً لرغبة العديد من الأصدقاء ومريدي الخير لنا أنقل إليكم عودتي بصورة نهائية للسودان لاستئناف شاغلي العام وشغلي في وطني وبين أهلي. قال ولي في "طبقات ود ضيف الله" حين استبان الحق: "البضوي اليضوي بين أهله". وسأبعث برسالة بعد لقائي هذا بكم إلى مخدمي وهو شعبة التاريخ بكلية الآداب والعلوم بجامعة ميسوري بالولايات المتحدة أطلب منها إحالتي إلى المعاش الذي بلغت سنيه الاختيارية. وليس هنا موضوع تفصيل فضل هذه الجامعة وأمريكا بعامة عليّ. وسيجي يوم شكرهم جميعاً تباعاً.
وبعد تفكر طويل فيما ينبغي لي عمله في جولتي الأخيرة هذه في العمل العام قدرت أن أفضل ما بوسعي القيام به هو أن أشٌرف برئاسة الجمهورية في هذه المنعطف الولود الخصيب من تاريخنا الذي سيتشكل فيه بلداً للسودانيين جميعاً. وبناء عليه فيسعدني أن تنقلوا عني ترشيح نفسي لانتخابات رئاسة الجمهورية القادمة في سبتمبر من هذا العام، أو متى وقعت.
من أمثل؟
للإجابة على سؤال "من أمثل؟" أعود إلى ذكرى من الطفولة. عدت ظهيرة يوم من أيام 1947 من روضة مدرسة كمبوني بعطبرة. ووجدت ركباً من العمال متجهاً صوب مكتب مدير السكة الحديد. فسرت في ذيل الموكب فضولاً. وعلمت لاحقاً أن ذلك كان أول موكب أراد به العمال الضغط على الحكومة للاعتراف بهيئة شئون العمال، أو نقابة السكة الحديد لاحقاً. ثم اخترت لاحقاً بوعي أن أكون في الحلف الاجتماعي السياسي الذي نشأ حول النقابة وإنسانيتها. وهي إنسانية عمت القرى والحضر متواشجة مع إنسانية القبيلة والطائفة ومغطية عليها. وكانت لها أمجادها وعثراتها. فقد نهضت بثورة أكتوبر 1964 وابريل 1985 وابتنت تحالفات سياسية اجتماعية ستراودنا أبداً. من الجهة الأخرى، كان لهذه الإنسانية عثراتها. ونذكر عرضاً تمترسها خلف مصطلح "القوى الحديثة" حتى تنصلت عن الأرياف وتركتها نهباً لتكتيكات العنف. ومن عثراتها ضيقها بالهزائم ومحاولاتها المتكررة لتجديد ثوراتها بالانقلاب والانقلاب المضاد حتى أصابها الإنهاك. وسيكون كل ذلك موضوع نظرنا لعودة إنسانية النقابة إلى معترك السياسة بعد جلاء الطغم المسلحة التي سادت الحكم والمعارضة في العقود الأخيرة.
كنت في ذيل موكب لهذه الإنسانية طفلاً ثم كنت بعضها شاباً ثم في وسطها كهلاً. وأريد منكم في شيخوختي أن تعينوني أن أكون على رأسها مجاهداً برئاسة الجمهورية لنصلح البلد ونسعد أهله وغمارهم خاصة.
وماذا أطلب بالتحديد؟
لن أفصل في برنامجي لا منعاً للإطالة فحسب، بل لأنني أخشى أن يكون قولي مكروراً أنسج من قماشة الأزمة ذاتها في طلب مستحيل لتفكيكها والشفاء منها. فقد سمعت الأمريكيين يقولون إنك لا تحل شِبكة ما وكل زادك هو نفس الفكر الذي ورطك فيها أول مرة. ويقول أهلنا الملوية من البهم ما بتحل رقبتها. فلكي نوفق إلى الحل الصواب (لا المسكنات وجراحة التجميل وعدي من وجهك) رأيت ان تكون مناسبة ترشيحي باباً لفتح باب الحوار الوطني على مصراعيه حول أدق وأعصى متاعبنا بروح سمح وأريحية تشترط الآخر لسداد الفكرة والاستنارة. لقد انقطع حبل هذا الحوار دائماً لتطوع نفر منا باحتكار الرأي وفرضه بانقلابات عسكرية-مدنية متساوقة. فجعلوا من رأيهم عقيدة بينما تعصب معارضوهم وجعلوا من رأيهم غبينة. وأصبحنا جميعاً وقلوبنا شتى.
والتزم من جانبي بما يلي:
- أن أسعى ومن تبعني بإحسان إلى عقد حوارات موثقة مع كافة طوائف المواطنين والجاليات باختلاف لغاتها ومواقعها لبلوغ إقليم الوجع فيهم ومكنون حكمتهم. وشرط هذا الإجراء الحرية والعزيمة. فنسأل ولاة الأمر في حكومة الوحدة الوطنية وحكومة الجنوب والولايات أن يتفاءلوا باستئنافنا الحوار الوطني وأن ييسروا ولا يعسروا. وسيجدوننا في مقاس كثافة تبعة مثل النهوض بمثل هذا الحوار وتمام الذوق السياسي متى اختاروا قبولنا. وسيروا صدق عزائمنا إن هم لجوا عن سواء سبيل الحرية.
غير أنني أبادر بمؤشرات عامة حول تصوري للحكم في ظل رئاستي للجمهورية:
1- استئناف تحرير الدولة من موروث الاستعمار الذي لا مكان فيه لمواطنة مستحقة التكريم. فقد بقينا في ذل وضعية "الأهالي" حتى في ظل الاستقلال لأن ولاة امرنا لم يجدوا سوى القدوة الاستعمارية في الحكم فناسبتهم. فالأهالي هم من يدفعون الضريبة عن يد صاغرين بغير تمثيل انتخابي حقيقي في كيان الحكم. وعليه فلا حق لهم في مساءلة الخاصة الحاكمة في إنفاق تلك الضريبة. وقد انتهى بنا هذه إلى سفه حكومي طال مداه ووجب لجمه بشرع الشعب.
2- أن يستتب دوران الحكم بالانتخاب ويتنزل أدنى فأدنى من الولاة حتى أصغر قائم بالولاية العامة. وفي هذا ترسيخ لمبدأ مساءلة ولي الأمر باقتران الوظيفة العامة وخلعها بالجمهرة لا بسلطان علوي.
3- أن يمتثل السلطان العسكري والشرطي والنظامي للإرادة المدنية مجسدة في ممثلي الشعب المنتخبين.
4- أن تعنى الدولة باللغات غير الرسمية عناية تأذن للمتحدث بها أن يبلغ الدولة بأشواقه وظلاماته في المحاكم ومفوضيات الأراضي والنزاعات. فهذه اللغات المتروكة هي مستودع أوجاع ورغائب في الحياة الحرة السعيدة رمينا بها على قارعة الحكم في طلبنا لإدارة الشعب رغماً عنه. فتحرر الصفوة من الشعب وسفهها هو وجه من وجوه قمع اللسان المظلوم.
ولغاية ترشيد الحكم ولجمه بإرادة المواطنين وتصريفهم سأطلب من الجهات المختصة أن تضع في متناول حملتي الانتخابية ما يلي:
1- كل التقارير المتعلقة بالمواجهات التي تمت بين الدولة والشعب أو الشعب والشعب مثل واقعة الضعين وسوبا والمهندسين وبورتسودان وكجبار والمناصير وغيرها.
2- سأطلب كل بيانات عمليات الخصخصة والتصرف في رئات المدن وأراضي المواطنين بولاية الخرطوم وغيرها.
3- سأطلب تقارير دقيقة عن شركات الدولة الباطنة وسير أدائها ودخلها ومنصرفها.
وغايتي من ذلك لا مجرد المحاسبة، بل بذر بذرة التعافي والعدالة الانتقالية على بينة وعلى مرأى من الشعب وبإذن منه. وأدعو من هنا أهل العلم والاختصاص أن يستعينوا بهذه الحصيلة وثمرة أبحاثهم الخاصة لترتيب بيت الدولة على الامتثال للشعب.
اتوقف هنا قليلاً لوصف التزام سياسي وروحي هو ميثاقي خلال رئاستي للدولة، أو كجزء من الحركة الاجتماعية السياسية التي نرمي إلى استنهاضها خلال الانتخابات لتمكث في الأرض وتنفع الناس. كانت عمتي أمنة بت حجر قد رعت طفلة تركتها بنتها القسمة شافعة ورحلت عن دنيانا. وكانت تسميها "البنت الأمانة". والتزم كرئيس للجمهورية أن تكون من بين مسؤوليتي المباشرة، وتحت نظري تماماً، الجماعات الأمانة التالية من ذوي الحاجات الخاصة، أو من ضحايا اضطراب الحكم وسفهه منذ الاستقلال: وأحصرهم في (1) العرجى والمكاسير والعجزة والعجائز والمفرطين في القصر والمتعففين من الفقراء والمساكين.
(2) اصحاب المعاش الذي أفرطنا في فرضه على العاملين بالإحالة استغناء عن الوظيفة فابتلوا بموارده الشحيحة وهم في زهرة أعمارهم. وكذلك المحالون للصالح العام. ولن يخرجوا عن أمانتي حتى تتهيأ الدولة لعودتهم إلى أضابيرها عوداً كريماً.
(3) قدامى المحاربين من العسكريين والحركات التي ناهضت الحكومة المركزية حتى نستقر على سياسة حكومية مثلى تعتبر خدمتهم الوطنية، وتعتبر بها.
(4) قدامى المحاربين من قادة العمل النقابي وما جرى مجراه ممن خدموا جمهورهم ووسعوا ماعون الديمقراطية من أسفل.
(5) ضحايا اضطرابات السياسة السودانية وعنف الدولة والعنف المضاد.
وهذه أمانة أنا محاسب بها أمامكم سياسة وامام الله تقوى واحتساباً. وأنا على يقين شديد أن ديوان الزكاة سيعينني، جهازاً وفقهاً، على هذا الابتلاء السيادي. وسأسن من القوانين ما يٌفَعِل تقوى "فضل الزاد" بإسقاط جُعل من الضريبة على أهل الخير والسالفة.
إنني متفائل بأن مسعاي هذا سيكلل بالنصر. فالفلاح معقود على ناصية الخير. والخير أردت. وثقتي في شعبي عامة كبيرة وفي الكادحين فيه كدحاً بالذات. ولكنني حريص بذات القدر بأن تكون حملتي الانتخابية مناسبة لاستثارة حركة سياسية اجتماعية باسم "القائمة الوطنية للنهضة" (قون) تتفتق عن عبقرية شعبنا المعهودة. وسنفصل في ذلك في حينه. فأرجو أن أتوجه عبركم هنا للسودانيين جميعاً ليباركوا خطوتي هذه وينصروها. فإن لم تكن ممن قبلني ظاهراً وباطناً فباركها لأنها تصب في نهر التحول للديمقراطية. وأوصي من سمع عنا خيراً أن يذيعه ومن سمع منا غير ذلك أن يتأوله على حسن القصد ويعفو عفواً وعافية ويطلب لنا المغفرة.
ibrahima@missouri.edu
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: على هذا
إقرأ أيضاً:
ما التناجي الذي نهى عنه الرسول ومتى يجوز؟.. الإفتاء تجيب
أجابت دار الإفتاء ، على سؤال يقول: ما هو التناجي الذي نهى عنه الرسول؟، حيث حث الشرع على مراعاة مشاعر الآخرين وعدم إلحاق الأذى بالغير، مشيرة إلى أنه مِن المقرَّر أن المحافظة على ترك ما يؤذي الإنسان ويُحزِنه مطلوبة شرعًا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ» أخرجه الإمام أحمد في "المسند"، والنسائي في "السنن".
ما التناجي الذي نهى عنه الرسول؟
وبينت أن هذا الحديث أصلٌ عامٌّ في تقرير وجوب ابتعاد الإنسان عن الأمور التي قد تؤذي غيره، ويندرج تحتها " التناجي أو النجوى"، وذلك بالكلام الخفيُّ الذي يناجِي به المرء صاحبه كأنه يرفعُه عن غيرِه، كما في "تاج العروس" لمرتضى الزبِيدي (40/ 29-31، ط. دار الهداية)، ويظهر تأذي الغير خاصة إذا كان الحاضرون ثلاثة من قصر الكلام الخاص على اثنين منهم بأحد معنيين: "أحدهما: أنه ربَّما يتوهم أن نجواهما إنما هو لتبييت رأي فيه أو دسيس غائلة له، والمعنى الآخر: أن ذلك من أجل الاختصاص بالكرامة وهو محزِنٌ صاحبه" كما قاله أبو سليمان الخطابي في "معالم السنن" (4/ 117، ط. المطبعة العلمية).
وتابعت: لذا فقد جاء النهي عن هذا الفعل، فيما رواه ابن مسعود رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا كنتم ثلاثة، فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما، فإن ذلك يُحزِنه» متفقٌ عليه، ووجه الدلالة مِنه: أن هذا النَّهي ظاهِرٌ في التحريم، بدليل ترتُّب التعليل -وهو الإحزان- عليه بالفاء، كما في "دليل الفالحين" لابن علَّان الصدِّيقي (8/ 438، ط. دار المعرفة).
والأصل في التناجي: الكراهة والقُبح، كالمكر والخديعة، إذا لم يُقصد به أمرٌ حسن في الشرع، وقد بيَّن الله عزَّ وجلَّ أن النجوى لا تحسنُ إلا في وجوه مستثناة، فقال تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ [النساء: 114].
وقال سبحانه: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [المجادلة: 9].
قال ابنُ عطية الأندلسي في "تفسيره" (5/ 277، ط. دار الكتب العلمية): [وصَّى الله تعالى المؤمنين في هذه الآية بأن لا يكون لهم تناجٍ في مكروه، وذلك عام في جميع الناس إلى يوم القيامة، وخصَّ الإثم بالذكر لعمومه، والعدوان لعظمته في نفسه، إذ هي ظلاماتُ العباد، وكذلك معصية الرسول ذكرها؛ طعنًا على المنافقين؛ إذ كان تناجيهم في ذلك] اهـ.
آداب التناجي
وحول ضابط التناجي المنهي عنه شرعا، قالت الإفتاء: يتحصل من هذه المعاني أن ضابط التناجي المنهي عنه شرعًا -وهو المسؤول عنه- يتحقق بجملةٍ من الأمور:
أولًا: أن يترك المتناجِيان واحِدًا منهم، ولو كانوا جماعة، فلو أبقوا أكثرَ مِن واحدٍ فلا مانِع اتفاقًا، فيجوز تناجي اثنين دون اثنين أو جماعة؛ لأن الثالث قد شاركه الباقون فيما يُستر عنه مِن الحديث، فيزول عنه سوء الظن، والحُكم يدور مع عِلَّته وجودًا وعدمًا، كما أفاده الإمام ابنُ بطال في "شرح صحيح البخاري" (9/ 64، ط. مكتبة الرشد).
فقد جاء في "موطأ الإمام مالك" عن عبد الله بن دينار، قال: كنتُ أنا وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما عند دار خالد بن عقبة التي بالسوق، فجاء رجلٌ يريد أن يناجيه، وليس مع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أحدٌ غيري، وغير الرجل الذي يريد أن يناجيه، فدعا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رجلًا آخر حتى كنا أربعة، فقال لي وللرجل الذي دعاه: استأخِرَا شيئًا، فإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لا يَتَنَاجى اثنان دون واحدٍ».
ثانيًا: أن تقلَّ الجماعة الحاضرة في مكان المحادثة، فإذا كان التناجي بحضرة جماعة كثيرة لم يُمنع؛ لأن ذلك أنفى للتهمة والرِّيبة؛ وذلك لما ورد في حديث جابرٍ رضي الله عنه أنه لما رأى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جوعًا شديدًا في غزوة الخندق ذهب إلى زوجته، ثم قال: فجِئتُه فسارَرْتُه، فقلت: يا رسول الله، إنَّا قد ذبحنا بُهَيْمَةً لنا، وطحنَّا صاعًا من شعير كان عندنا، فتعال أنت في نفر معك. متفقٌ عليه.
ثالثًا: أن يكون التناجي بينهما بغير إذنٍ من بقيَّة الحاضرين سواء كان واحدًا منفردًا أو أكثر، فإن أذِن المنفرد أو الباقي في التناجي دونه أو دونهم: زال المانِع؛ لكون الحقِّ له، فإن أسقطه سقط، ولا يكون بذلك من التناجي المنهي عنه، كما في "الفواكه الدواني" للنفراوي (2/ 328، ط. دار الفكر).
والأصلُ فيه: ما أخرجه أحمد في "المسند" عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا تَنَاجى اثنان فلا تجلِسْ إليهما حتى تستأذِنَهما».
رابعًا: ألَّا يكون الثالثُ هو الداخِل على المتناجَيين في حال حديثهما وكلامهما سِرًّا، فلو تكلم اثنان في السِّر ابتداء، ثم أتى ثالثٌ ليستمع إليهما، فلا يجوز ما لم يُؤذن له، كما لو لم يكن حاضِرًا معهما أصلًا، كما في "فتح الباري" للحافظ ابن حجر العسقلاني (11/ 84، ط. دار المعرفة).
ويدلُّ على هذا: ما أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" عن سعيد المقبري، قال: مررت على ابن عمر، ومعه رجل يتحدث، فقمتُ إليهما، فلَطَمَ في صدري فقال: إذا وجدت اثنين يتحدَّثان فلا تقم معهما، ولا تجلس معهما، حتى تستأذنهما، فقلت: أصلحك الله يا أبا عبد الرحمن، إنما رجوتُ أن أسمع منكما خيرًا.
خامسًا: أن يخشى المتناجيان أن يظن ثالثُهما أنهما يتحدثان في أمرٍ يكرهه، أو كان لا يعرِفُهما ولا يثق بهما، فيكون التناجي في هذه الحالة حرامًا، فإن أمِنَا من ظنِّه ذلك كُرِه تناجيهما؛ لأنه يغمُّ المنفرد مِن حيث الجملة، كما في "البيان والتحصيل" للإمام ابن رشد الجد (18/ 227، ط. دار الغرب الإسلامي).
وشددت بناء على ذلك: فلا مانع شرعًا مِن الكلام الخاصِّ مع شخصٍ في حضور ثالث، ولا يُعدُّ هذا من التناجي الممنوع إذا رُوعِيت الضوابط السَّابِقة، بأن يكون هذا الثالث على معرفةٍ وثقة بالمتناجِيَين، وأن يأذن لهما في هذا الحديث الخاص بينهما دونه، وألا يكون هو الداخلَ عليهما حال حديثهما سِرًّا.