إبراهيم برسي
1 يناير 2025

لا مؤاخذة: كل عام وأنتم بخير في وطنٍ لم يذق طعم الخير.
كل عام ونحن نحتفل بسؤالٍ يطاردنا كاللعنة: هل نعيش الاستقلال أم أننا أسياد عبودية جديدة؟

في ذكرى استقلال السودان التاسعة والستين، يبدو التاريخ وكأنه يمد يده ليصفعنا بسؤالٍ لا يهدأ.
سؤال ينغرس عميقًا في قلب أجيالٍ لم تذق طعم الحرية الحقيقية: هل تحررنا فعلاً؟
أم أن التحرر كان وهماً زُرع في أذهاننا، بينما بقيت السلاسل نفسها، لكن بألوانٍ وطنية؟
كيف لوطنٍ أن يحتفل باستقلاله، وهو يقف مترنحًا بين أحلامٍ لم تتحقق وكوابيسٍ تتكرر في دوراتٍ عبثية؟

إن كان الاستقلال وعدًا بالانعتاق، فقد بدا وكأنه ثوبٌ مهترئ زُين بزخارف زائفة ليخفي قيدًا يطوّق أعناق الكادحين بلون الوطن.


هؤلاء الفلاحون الذين حملوا الأرض على أكتافهم، والعرق يخطّ قصائد بؤسٍ على جباههم، كانوا أول من دفع الثمن.
أو كما قال حِميد:
“طوريتك في الطين مرمية وكوريتك يابسة ومجدوعة…”
لم يكن هؤلاء الفلاحون وحدهم فحسب، بل كان المواطن البسيط، “محمد أحمد”، ذلك الوجه الذي يمثل السودان في صبره وبؤسه، جزءًا من الحكاية.

وهنا نتساءل: كيف لأرضٍ تسكنها معاناة كهذه أن تثمر غير أشواك؟
في مشروع الجزيرة، حيث يُفترض أن تزهر الحقول قمحًا وأملًا، كانت الحقيقة أشبه بكابوس.
الفلاح الذي حرث الأرض وسقاها بعرقه، لم يحصد سوى شقاءٍ يتجدد.
كان القطن الذي زرعه رمزًا لاستنزافه، وكأن الأرض خُلقت لتُسلب، والفلاح خُلق ليُستعبد.

إنني اليوم، في هذه الذكرى، أقف بكل الانحياز والتضامن مع هؤلاء الكادحين.
أرى في عرقهم ملامح الوطن الحقيقية، وفي صمتهم عمق الألم.
وكما قال إدوارد سعيد: “إننا حينما نروي حكايات المظلومين، لا نسرد تاريخهم فقط، بل ننحاز إلى إنسانيتنا.”
وإنني هنا، أنحاز إلى إنسانية هؤلاء، أولئك الذين حرثوا الأرض ليغتني الآخرون، وظلوا أسرى العوز في وطنٍ لم يعترف بعرقهم.

قال علي عبد اللطيف فيما معناه: “الحرية حق، لكنها تُنتزع بالوعي والنضال.”
وهذا ما لم يتحقق بعد في السودان.
لم يكن استقلالنا أبدًا منجلًا يقطع أغلال الهيمنة، بل كان تبديلًا في شكل الطغيان.
عندما غادر المستعمر، ترك وراءه نخبةً تربت في كنفه، تُعيد إنتاج نفس أدوات القهر.
وكما قال د. خالد الكد: “لقد ترك الاستعمار جذوره في العقول، فصار الوطن يُدار بعقلية السيد والعبد.”
وأضاف د. منصور خالد: “السياسة في السودان ليست فن الممكن، بل مهزلة تديرها الطوائف والامتيازات.”

الحكومات والأحزاب التي أعقبت الاستقلال، مثل الأمة والاتحاديون، لم تكن سوى واجهاتٍ لنظامٍ يرى في الشعب وسيلةً لتحقيق المصالح، لا غايةً لبناء وطنٍ يستحق الحياة.
بقاعدتهما الجماهيرية الواسعة، استغلتا بساطة المواطن البسيط، الذي لطالما استجاب بعفويةٍ صادقة لخطاب ديني زُرع في وجدانه كأداةٍ لتمدد نفوذهما.
لم يكن ذلك الخطاب ليبني وعيًا جماهيريًا حقيقيًا، بل وسّع القاعدة الجماهيرية بالتبعية فقط، ليكرّس التبعية بدلًا من الاستنارة، والانقسام بدلًا من الوحدة.

لكن مشهد الفشل لم يكن حكرًا عليهما.
الحزب الشيوعي السوداني، رغم شعاراته التقدمية التي بشّرت بالمساواة والعدالة، أخفق في كسب قلوب الجماهير البسيطة.
كان خطابه نخبويًا، بعيدًا عن هموم الفلاحين والمزارعين، ولم ينفذ إلى قلب الشارع العريض الذي كان عطِشًا للغةٍ تحاكي معاناته اليومية.
لم يكن الفقر والتهميش نظرياتٍ تُقرأ على الورق، بل واقعًا مُعاشًا، عجز الحزب عن الوصول إليه بروحٍ تنبض بحقيقة الناس وآلامهم.

أما الحركة الإسلامية، فقد جاءت بخطابٍ يدّعي التجديد والعودة إلى الجذور الروحية، لكنه سرعان ما انكشف كستارٍ لمشروع ظلامي أودى بالبلاد إلى هاوية الاستبداد.
كان مشروعها قائمًا على احتكار الدين كأداة للهيمنة، يُخفي وراءه قمعًا ممنهجًا وسياسةً تستهدف تكميم الأصوات المعارضة وإضعاف أي بُنية مجتمعية مستقلة.
جعلت من الدين سلاحًا لإحكام السيطرة على العقول، وحوّلت المؤسسات الوطنية إلى أدوات في خدمة مشروعها السلطوي.

أما حزب البعث والناصريون، فقد تغنوا بأحلام القومية العربية الكبرى، لكنهم رأوا في السودان امتدادًا لخطابات إقليمية مستوردة، غريبة عن عمق مشكلاته.
كان السودان بالنسبة لهم ساحةً لتجربة شعارات الوحدة العربية، دون الالتفات إلى خصوصياته الثقافية والاجتماعية المتنوعة.
لم تكن تلك الأحزاب معنيةً بحل أزمة الهوية التي مزقت البلاد، بل أغرقتها في جدلٍ نظري عن مشاريع قومية بعيدة، لا تمت بصلةٍ لمعاناة المواطن السوداني الذي يئن تحت وطأة الجوع، والحرب، والجهل.

لقد بدا المشهد السياسي في السودان وكأنه سلسلة من الأوهام المتراكمة.
تتبدل الوجوه، لكن الأدوات تبقى هي ذاتها: استغلال، تهميش، وعجزٌ عن ملامسة روح الوطن الحقيقية.

وحينما وقف العسكر على المسرح، لم يكن ذلك لحماية الوطن، بل لاستغلاله باسم الإنقاذ.
إبراهيم عبود، الذي قاد أول انقلابٍ في 1958، جسّد بداية عسكرة السياسة في السودان.
كانت تلك اللحظة إيذانًا بأن السلاح سيصبح اللغة الوحيدة للتواصل بين السلطة والشعب إلى يومنا هذا.
الشعارات التي رُفعت آنذاك عن “إنقاذ البلاد من الفوضى” كانت قناعًا يُخفي قمعًا لا ينتهي.

لكن، كيف يمكن لوطنٍ أن يُشفى وهو غارق في جراح الهوية؟
الهوية، التي كان يفترض أن تكون جسراً نحو الوحدة، أصبحت سيفًا يُمزق الجسد.
وفي خضم ذلك، انقسم المثقفون بين من يرى في السودان امتدادًا للعروبة ومن يرى فيه هوية إفريقية.
كان الصراع الفكري بين عبد الله الطيب ومحمد عبد الحي من جهة، وعلي المزروعي وأبو القاسم حاج حمد من جهة أخرى، انعكاسًا لهذا التشظي.

الجنوب، ذاك الجزء الذي بدا وكأنه يئن تحت وطأة الإقصاء، كان سؤالًا وجوديًا أكثر منه أزمة سياسية.
من الحرب الأولى التي بدأت عام 1955، إلى اندلاعها من جديد في 1983، كانت تلك الحروب كأنها لعنة تُعيد نفسها.

وعندما جاء جعفر نميري بانقلابه في 1969، جاء معه الوعد بالاشتراكية والتغيير.
لكن، كمن سبقه، سرعان ما استبدل الشعارات بالمصالح.
في يوليو 1971، شهدنا انقلاب هاشم العطا، الذي أُجهض سريعًا، لكنه كان بداية لمرحلة جديدة.
مرحلة أظهرت أن الديمقراطية لا تُفرض بالقوة، ولا تأتي على أكتاف الانقلابات، بل تحتاج إلى وعي جماهيري عميق، وإرادة حقيقية تعكس نبض الشارع لا مصالح النخب.
كانت تلك اللحظة درسًا مؤلمًا في أن الحريات لا تُزرع في تربةٍ تُحرث بالسلاح، بل في أرضٍ تُسقى بالعدالة والتفاهم.
هنا تدخل حسن الترابي، الذي استغل جهل النميري ليحوّل مسار السودان نحو الظلام.

في عام 1989، انحدر الليل بأشد ألوانه ظلامًا وحِلكة.
عمر البشير، الذي جاء بدعم الجبهة الإسلامية القومية، حوّل السودان إلى مختبرٍ للتجربة الظلامية.
مشروع “التمكين” الذي رفعته الجبهة كان أشبه بآلة تلتهم مؤسسات الدولة، وتحوّل البلاد إلى ساحة مفتوحة للصراعات.
دارفور، التي كانت أرضًا للسلام، أصبحت رمزًا للإبادة الجماعية.
الجنوب، الذي كان جزءًا من هوية السودان، انفصل عام 2011، تاركًا خلفه ذاكرة من الخسائر والانكسارات.

وفي ظل هذه الفوضى، أين كان المثقفون؟
هل كانوا مناراتٍ تُضيء الطريق؟ أم أنهم اكتفوا بمشاهدة الوطن وهو يتهاوى؟
المثقفون، بدلًا من أن يكونوا صوت الشعب، انقسموا بين موالٍ للسلطة ومنعزلٍ في برجه العاجي.
قال عبد الخالق محجوب: “الثورة تبدأ من الوعي، لكن الوعي يحتاج شجاعة مواجهة الحقيقة.”
فهل واجه مثقفونا الحقيقة؟ أم أنهم اكتفوا بتأريخ المأساة دون محاولة تغييرها؟

وفي ظل هذا الخراب، كانت الأطماع الخارجية تحوم حول السودان كذئبٍ جائع.
الذهب في دارفور، النفط في الجنوب، والموانئ على البحر الأحمر، كلها تحولت إلى أدوات لاستغلال جديد، تُغذيه أيادٍ من الداخل.
إن القوى الخارجية لم تكن لتنجح لولا وجود من فتح لها الأبواب من الداخل، من النخب السياسية التي باعت الوطن مقابل مكاسب زائلة.

اليوم، ونحن في عام 2025، نرى الخرطوم تحترق تحت أقدام الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع.
الجبهة الإسلامية، التي كان يفترض أن تُحاسب بعد ثورة ديسمبر، عادت لتغذي الحرب، وكأنها تريد أن تمحو كل أثر للثورة.
الأطماع الخارجية التي طالما غذّت الانقسامات، وجدت في هذا الصراع فرصةً لتعميق جراح الوطن.

قال جان بول سارتر: “الحرية عبءٌ ثقيل، لا يستحقها إلا من يقاتل لأجلها.”
فهل قاتلنا بما يكفي؟
أم أننا اكتفينا بالشعارات والأهازيج، بينما الوطن ينزف من كل شبرٍ فيه؟

السودان، ذلك الحلم الذي لم يُولد أبدًا، ما زال يبحث عن ذاته في مرآة مشروخة.
في كل ذكرى للاستقلال، نتوقف ونتساءل: هل هذا يومٌ للاحتفال أم للتأمل؟
هل نحن حقًا أسياد حريتنا، أم أننا فقط نبدّل سلاسل الاستغلال بأخرى جديدة في كل حقبة؟

إن بدء هذا المقال بمقولة “لا مؤاخذة: كل عام وأنتم بخير” لم يكن صدفة، بل دعوة للتفكر في حالنا.
لا أحد ينكر أن ما قبل الاستقلال كان زمنًا من القهر والهيمنة، لكن السؤال الفلسفي العميق الذي يطاردنا الآن هو:
هل خرجنا من ذلك الزمن لنحقق الاستقلال حقًا؟
أم أننا عالقون في دورة لا تنتهي من التبعية والاستغلال، ولكن بأيدٍ تشبهنا هذه المرة؟

إنه ليس إنكارًا للحظة الاستقلال، بل هو رفض للاكتفاء بها كغاية.
لأن الحرية ليست يومًا في الروزنامة، ولا استقلالًا يُحتفل به بالخطابات.
الحرية مشروع يتطلب شجاعة مواجهة أنفسنا، شجاعة الاعتراف أننا فشلنا في حماية ما نلناه.

فهل سنملك يومًا الشجاعة لإعادة بناء الحلم؟
أم أن التاريخ سيكتبنا كشعبٍ ضاع بين الأطماع الداخلية والخارجية، ولم يترك خلفه سوى أطلال وطن؟

zoolsaay@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: فی السودان ل السودان لم یکن

إقرأ أيضاً:

لازم تقيف ..طالما استخدمت قحتقدم هذا الشعار بالتزامن والتناسق مع الإرهاب الذي يمارسه حلفاؤهم

٪؜٪؜٪؜٪؜٪؜٪؜٪؜٪؜٪؜
لازم تقيف ..
٪؜٪؜٪؜٪؜٪؜٪؜٪؜٪؜٪؜
لطالما استخدمت قحتقدم هذا الشعار بالتزامن والتناسق مع الإرهاب الذي يمارسه حلفاؤهم في الميليشيا على المواطنين؛
– تسمعوا الكلام وللاااا ????؟
دي فحوى رسالة الابتزاز البيرسّلوها مع بعض؛
وفي كلّ مرّة بيتقّلوا العيار أكتر؛
ما بين القتل والسحل والاغتصاب وجر اللحى في المناطق التي تصلها قوّاتهم، وبين القصف بالمدافع والمسيّرات للمناطق الآمنة البعيدة عن متناولهم؛
لحدّي ما وصلنا مرحلة “عنف عنف عنف” البشّرونا بيها؛
وراح ضحيّتها مئات الشهداء الأبرياء في الهلاليّة وما حولها من مدن وقرى شرق الجزيرة؛
وتجاوزناها بحمد الله، وبعزيمة جيشنا والقوّات المقاتلة في صفّه؛
لــــــــــــكـــــــــــن؛
لسّة ما وصلنا برّ الأمان؛
فبالأمس القريب تجدّد القصف على أحياء أم درمان؛
وفي الفترة الأخيرة دخلنا مرحلة المسيّرات العابرة للحدود التي تستهدف محطّات الكهرباء والمرافق الحيويّة؛
يعني الجنجويد هزمناهم، بحمد الله، لكن لسّة ما سلمنا من أذاهم؛
ما يثير تساؤلاً مشروعاً وموضوعياً حول كيفيّة “إنهاء الحرب”؛
أترانا؛
بعد كلّ النصر الحقّقناه، والملاحم السطّرناها بدماء شهدانا الأبرار؛
أترانا ح نلف ونرجع لمائدة التفاوض، زي ما كانوا بيقولوا لينا الجماعة؟
طبعاً الخوف من شماتة القحّاتة ما بمنعنا من اختيار الصواب؛
لكن المانعنا اليوم ياهو المنعنا من البداية، وهو وعينا الكامل بأنّه دا ما الصواب: لا أمان بوجود الدعم السريع؛
لكن طيّب دي يحلّوها كيف؟
يعني إلّا نقرضهم عديل، ما يفضل فيهم نفر، زي ما كان بينادوا الناس المحتجّين على هروب الجنجويد أحياء من مدني وبحري وغيرها؟
الكابوس دا بنتهي كيف؟!
الإجابة على السؤال دا قد ما تلقاها في أدبيّات العمل السياسي المعاصر، لخلّوه من حروب تأسيسيّة متل اللتنا دي؛
لكن، بخلاف ما قد تتوقّع، بتلقى إجابة في أدبيّات أخواننا السلفيّين، في عبارتهم المتواترة:
– من غلب، واستتبّ له الأمر، وجبت له الطاعة.
ورغم اختلافي كتير معاهم حول “دين الله”، لكن يمكن أقدر أشهد ليهم بالفقه في “دين المَلِك” الذي ما كان ليوسف، نبي الله، أن يتعدّى حدوده؛
والعبارة القاعدة تتقال كقاعدة تشريعيّة دي، لو أعدت النظر ليها بتجريد، يمكن تلمس فيها فلسفة سياسيّة وتاريخيّة عميقة، بعيداً عن أيّ قدسيّات: دا ياهو البحصل على كلّ حال، بعيداً عن مباركتنا أو رفضنا ليه!
نجرّد العبارة يللا من حمولتها الدينيّة، ونحاول نسقطها على واقعنا السياسي، على أمل نشوف الأمور ممكن تمشي كيف؛
– الانتشار لا يعني السيطرة!
عبارة اتقالت كتير خلال فترة الحرب دي، ودارت حولها نقاشات وجدالات مستفيضة في قروبات الواتساب؛
بدون الوصول لاتّفاق حولها؛
لكن لو عرضناها على فلسفة السلفيّين المتوارثة دي، يمكن يسهل شرحها؛
مربط الفرس في “استتبّ له الأمر” دي؛
فالدعم السريع “غلب” في بداية الحرب دي؛
لكن ما استتبّ ليه الأمر؛
وبالمقابل، فالأمر “استتب تب” لما يطلقون عليه “حكومة بورتسودان”؛
وقصاد كلّ غلبة سعى لها الجنجويد، وهلّل لها أولياؤهم، كانت سلطة الأمر الواقع في بورتسودان بتخطو خطوات نحو استتباب الأمر؛
– تشغيل مطبعة الجوازات؛
سخروا من الخطوة دي زمان، ولحدّي ندوة سلك مؤخّراً في لندن هو بلوك في حنك تشجيع الخروج من البلد، لكن الموضوع متعلّق بالسيادة والهويّة الانت بتقول بقن مافي!!
– مخاطبة الأمم المتّحدة: حجز مقعد السيادة!
وممكن بعد كدا تتذكّر الجقلبة الحصلت بهناك؛
– صيانة وتشغيل المطارات المدنيّة في كسلا ودنقلا؛
في مقابل تحويل مطار نيالا لمطار عسكري على الجانب الآخر
– إقامة امتحانات الشهادة السودانيّة؛
الخطوة دي وجدت ممانعة شرسة جدّا بهناك، لو بتتذكّروا، بمستوى منع الطلاب عديل من الوصول لمراكز الامتحانات في مناطق الدعم السريع في السودان وفي الدول الموالية؛
الممانعة دي كانت سياسيّة متوارية ورا غطاء إنساني، لأنّه الشهادة “السودانيّة” دي هويّة، زي جواز السفر:
– تغيير العملة؛
والعملة هويّة تالتة، زي جواز السفر والشهادة الثانوية؛
بل في الحقيقة العملة ممكن تكون هي الهويّة الأولى في فقه الدول؛
ممكن نواصل تعديد الأمثلة في التعليقات؛
لكن الخلاصة إنّه الدعم السريع فشل في تتبيب أمره في مناطق سيطرته: لا حكومة لا عملة لا شهادة لا سجم رماد؛
لا وكمان شنو، قال ح نعتمد الدولار ????؛
بعدين قاموا وقعدوا وطاروا وركّوا، وقال الذين غلبوا على أمرهم لنعلنّن حكومة في مناطق سيطرتنا من العاصمة الخرطوم؛
وقبل ما يجي الموعد الضربوه، فقدوا القصر الرئاسي!!
ودي كانت رسالة الفشل الكامل للدعم السريع: غلبت سيطرته على القصر الرئاسي والمطار الرئيسي والإذاعة القوميّة، ومعاه جمهرة التنظيمات السياسيّة، وفشلوا في تحويل الغلبة دي لواقع سياسي مستدام؛
وفي المقابل، نجحت سلطة بورتسودان في تتبيب أمرها كممثّل لجمهوريّة السودان؛
وحصلت على اعتراف الدول، برغم جعّير حميدتي والمعاه؛
فاستتبّ الأمر لعبد الوهاب، وفضل ليه الغلبة؛
واهو، الغلبة بدت تحصل بعد داك أسرع ممّا أكبر متفائل كان يتصوّر!
أها وبعد داك؟
سوووو وات؟
الحرب بتنتهي كيف؟
لسّة ما جاوبنا على السؤال دا!
في مستوى عالي من التجريد، فكلّ واحد من “طرفي النزاع” ديل عبارة عن تحالف سياسي عريض؛
حلفنا نحن بيتصدّره الجيش القومي الشرعي، لكن بيضم تحته تحالف عريض من الجماعات المسلّحة، التشكيلات القبليّة، غالبيّة موظّفي الخدمة المدنيّة، طيف من ثوّار ديسمبر، طيف من الفنّانين والشخصيّات العامّة ورموز المجتمع، الخ الخ، بالإضافة لتكوينات سياسيّة “محلولة” رسميّا لكن مازالت موجودة، وأخرى قائمة؛
الحلف البهناك، رغم الثقل الافتراضي لواجهته السياسيّة، والثقل العسكري الفيه، لكن بفتقر للتنوّع العندنا دا؛
لست بصدد المقارنة هنا، لسّة عندنا سؤال راجينا نجاوبه؛
بس ممكن نلخّص إنّه بي جاي فيه كلّ المكوّنات المطلوبة لقيام دولة جمهوريّة، وبهناك تشكيلة بتاعة مغامرين قامروا على مشروع تأسيس دولة، وفشلوا فشل ذريع؛
كلّ النجحوا فيه هو تهديد وجود الدولة القائمة؛
وفشلوا في نهاية العرض!
أها الحرب بتنتهي كيف؟!
العرض الأجبرنا على تقديمه دا كان بمشاركة دول المنطقة الأفريقيّة والعربيّة الحولنا، وبتشاهده القوى الاقتصاديّة العظمى حول العالم؛
الدول دي ما بس ما ح تسمح بي فوضى شاملة في المنطقة، بل في الحقيقة عندها استثمارات متوقّفة في انتظار نهاية العرض دا، واختيار من يستتب له الأمر عشان يبدا التعامل معاه؛
مشروع الدعم السريع مشروع فاشل في جوهره، لأنّه قايم على بنية عشائريّة بدويّة عابرة للحدود، ما ح يستتب ليها أمر جوّة عين كلّ التركيبة الديموقرافيّة الحضريّة الفي بلد عريق زي السودان؛
لكن حظّنا وقدرنا في وجود أطراف إقليميّة نافذة مستعدّة تجرّب في لحمنا، ووجود نخبة متواطية بتسمسر فينا، وسط تجاهل بقيّة العالم؛
المهم؛
التجربة فشلت؛
ما لأنّه الدعم السريع فشل عسكريّاً، وإنّما لأنّه الحلف ككل فشل تماماً في استعراض قدرته على تأسيس دولة مستقرّة؛
غلب، ولكن لم يستتبّ له الأمر، ولذلك لم تجب له الطاعة!
في مقابل نجاح مقنع للطرف الآخر، الـ incumbent، يعني سيد البلد، في إثبات مرونته في إدارة الدولة في ظروف في غاية الصعوبة والتعقيد؛
فباختصار كدا، التحالف القومي، بقيادة عبد الوهاب، نجح في إثبات جدارته كشريك يعتمد عليه في مشاريع مستقبليّة؛
البحصل بعد كدا هو إنّه ح يبدا فتح باب العطاءات في مشروع “إعادة إعمار السودان”؛
تتسابق فيه الشركات صينيّة والروسيّة مع الأمريكيّة والأوربيّة؛
وتتضخّ فيه الاستثمارات الخليجيّة؛
وما تركّز كتير مع تصريحات العطا وشوشرة المصباح والقصص دي؛
فيه سماسرة وديبلوماسيّين شغلهم يصلّحوا العلاقات، زي ما حصل بين السودان والكويت بعد الجفوة الحصلت في حرب الخليج؛
وهنا بتظهر أهمّيّة شخصيّات زي مو إبراهيم وآل داود وآل حجّار وغيرهم في توفير دور الضامن لاستقطاب الاستثمار العالمي؛
وبيظهر ليك كذلك سبب نقمة حميدتي عليهم وتعريضه بيهم؛
وهنا كذلك بتظهر ليك قيمة التحالف العريض القلنا عليه قبيل؛
حيث تظهر آلاف الفرص ليغتنمها الناس؛
من أصغر بنّا وللا صنايعي بشتغل على إعادة ترميم البيوت؛
لأكبر مقاول بيقدّم في عطاءات الطرق والمطارات؛
فرص للمدرّسين، للتجّار، للمصدّرين والمورّدين، …
وأقلّاها ياخ، ما ح تلقى ليك عبد الله جعفر شغّال بهناك يطمّن في الناس ويبشّرهم بالفرص؛
كلّ البتلقاه هناك هو التخويف؛
لأنّه الفرص حصريّة هناك للأسرة المالكة!
أها والحرب بتقيف كييييف؟
لو السرد الفوق دا كان مقنع بالنسبة ليك، ف ح تلقى الإجابة في المقطع المرفق [١] من فيلم Inception؛
في المقطع دا بيظهر بطل الفيلم، دي كابريو، في مطاردة في أحد الشوارع في مومباسا، اللي هي أنا ذاتي ما عارفها وين؛
وفي عز زنقته دي بتقيف ليه عربيّة فخيمة مصفّحة؛
ولمن يركب بيسأل الملياردير العارض عليه شغل: الجابك مومباسا شنو؟
فبيقول ليه أنا هنا عشان احمي استثماراتي؛
الخلفيّة إنّه دا زول هو داير منّو شغل معيّن مهم بالنسبة ليه، فبيوفّر ليه حماية لامن يقضي ليه غرضه!
يللا لو استتب الأمر لعبد الوهاب وشركاه، بمن فيهم نحن كلّنا كشعب يعني، في إدارة شئون السودان، في مقابل العرض الكان مقدّمه حميدتي وأوليائه؛
ف بعد كدا الدول المستثمرة، والشركات البحجم الدول، بتعرف كيف تحمي استثماراتها؛
الموضوع ما بكلّف أكتر من تلفونين، ويتوقّف الدعم عن الدعم!
#حميدتي_انتهى
—————————

عبد الله جعفر

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • درع السودان، الذي انخرط تحت قيادة عسكرية بدا أكثر انضباطاً وحيوية
  • جريمة فاريا... توقيف والدة المرتكب والفتاة التي كانت برفقته
  • أمن الدولة ألقت القبض على من كانت برفقة صديقها الذي دهس الشاب في فاريا (صورة)
  • بيرم: أهل الجنوب يصنعون المعادلة التي تحمي الوطن
  • وزير الخارجية السوداني: بلادنا ستعود لما كانت عليه وأفضل بمساندة مصر
  • لازم تقيف ..طالما استخدمت قحتقدم هذا الشعار بالتزامن والتناسق مع الإرهاب الذي يمارسه حلفاؤهم
  • بالفيديو.. مسؤولون: الهليكوبتر التي تحطمت كانت ضمن وحدة استعداد في حالة هجوم على أمريكا
  • الرئيس السيسي يهنئ رئيس جمهورية ناورو بمناسبة ذكرى عيد الاستقلال
  • أمين لجنة العلاقات الخارجية بـ«حماة الوطن»: مصر كانت وستظل السند التاريخي لفلسطين
  • ترامب: المروحية العسكرية التي اصطدمت بطائرة الركاب كانت تحلق على ارتفاع عالٍ جدا