حصاد 2024.. أجمل الكتب التي بقيت راسخة في ذاكرة المبدعين
تاريخ النشر: 1st, January 2025 GMT
باريس- لأن "حياة واحدة لا تكفي" كما قال العقاد، نلتجئ للكتب والقراءة لكي تهبنا حيوات جديدة كل مرة. ولأن القراءة سفر وترحال أبدي لا ينتهي عبر سفينة الخيال، يأخذنا كل كتاب جديد نفتحه إلى بحار من حبر وكلم وقصص ليس لها مرافئ ولا تعترف بالوصول.
ونحن نودّع سنة ونستقبل أخرى، يُطرح سؤال عن أجمل الكتب التي بقيت راسخة في ذاكرة الكتاب والمبدعين، بعد عام من القراءة والبحث والتنقيب والكتابة، وتظل أبواب المعرفة والسؤال مشرعة بحثا عن إجابات طريفة، وحصاد أدبي وثقافي متميز، عن أجمل الكتب والقراءات التي بقيت عالقة في ذهن نخبة من الكتاب والمبدعين العرب خلال هذا العام الذي أوشكت شمسه على الغروب، فضلا عن فعل القراءة وأثرها السحري في المبدع والإنسان عموما.
في رحلةٍ أدبية ثرية، يأخذنا الكاتب الليبي الدكتور "محمد قصيبات" عبر آفاق القراءة التي شكلت عامه 2024. فقد قرأ الكثير من الكتب التي أثرت فيه وهزته، وبعين الناقد والمتذوق عرض تجاربه مع نصوص أدبية خالدة. فمن بين صفحات "تيريز دوكيرو" للكاتب الفرنسي فرنسوا مورياك، الحائز على نوبل للآداب عام 1952، إلى عوالم "المركب المفتوح" للكاتب الأميركي ستيفان كران، يرسم قصيبات خريطة أدبية غنية بالاكتشافات والتأثيرات.
إعلانويستحضر قصيبات ذكريات دراسته في كامبردج، حيث تعرف على أعمال جوزيف كونراد الشهيرة، ليفاجئنا باكتشافه المتأخر لرواية "آمي فوستر" تلك الجوهرة الأدبية المخبأة التي تحمل العنوان الأنثوي الوحيد في أعمال كونراد:
حدثنا الدكتور ترنر عن جوزيف كونراد ورواياته المشهورة مثل "من قلب الظلمات" و"لورد جيم" ولكني لم اكتشف روايته المجهولة التي تحمل عنوان "آمي فوستر" إلا عام 2024
وبحس الروائي المرهف، يسبر قصيبات أغوار هذه الرواية القصيرة، مستعرضاً شخصياتها الثلاث بدقة وعمق، والمتمثلون في شخصيات الدكتور الكندي "طبيب القرية" وهو الراوي، و"يانكو" المهاجر الذي ألقى به البحر، و"آمي فوستر" المرأة غير الجميلة التي يتزوج بها "يانكو".
في سرده للقصة، يلفت قصيبات إلى أن الرواية تمثل صورة إنسانية مؤثرة لمأساة الهجرة والاغتراب والصراع اللغوي، إذ تتناول حكاية "يانكو" الذي يبيع والداه بقرتين وقطعة من الأرض لكي يتمكن من الحصول على أجرة المهربين لتهجيره من بولندا إلى أميركا، من أجل عمل يستطيع من خلاله مساعدة عائلته، لكن المهربين يغرقون السفينة ويلقون بركابها إلى شواطئ كينت في بريطانيا، ليصبح يانكو لاجئا ينظر إليه أهل القرية باحتقار.
ورغم قدم الرواية التي صدرت عام 1901، فإنها ما زالت تنبض بالحياة والراهنية في عالمنا المعاصر. لذا ينوه الكاتب فيقول "قد يظن القارئ للوهلة الأولى أن أحداث الرواية تدور في زمننا هذا حول المهاجرين غير الشرعيين القادمين من البحر".
وفي غمرة تأثره بالرواية، يصف كيف سكنته حتى ظن أنه كاتبها، وألهمته لمحاولات ترجمة متعددة، يتعاطف من خلالها كل مرة مع إحدى الشخصيات الرئيسية الثلاث، متمنيا أن يستطيع إنهاء هذه الترجمة عام 2025.
وينتقل قصيبات بسلاسة من عالم الأدب إلى مجال تخصصه الطبي، مسلطاً الضوء على العلاقة الوثيقة بين القراءة والصحة العقلية، وتأثير القراءة على الإنسان من أكثر من زاوية. ويستعرض بعين العالِم والأديب معاً أهمية القراءة في الوقاية من مرض ألزهايمر، فقد صار هناك تخصص يتعلق بالعلاج بالقراءة، والتي تعد ضرورةً ملحة وحاجةً هامة للإنسان.
إعلانوخلص إلى أن أهم الدراسات الحديثة حول هذا الموضوع تلك التي تم نشرها بمجلة علم الأعصاب، وهي تتعلق بحوالي ألف من المصابين بألزهايمر تم توزيعهم إلى مجموعتين: الذين يقرؤون والذين لا يقرؤون، حيث كانت النتائج تقول إن نسبة الإصابات بالمرض هي 18% و35% على التوالي.
ويختتم قصيبات حديثه مؤكداً أن الكتاب قد أصبح في عصرنا هذا دواءً ووقاية، في مزيج فريد يجمع بين متعة الروح وصحة العقل.
القراءة مقدمة لأي مشروع ابداعييرى الروائي والشاعر المغربي عبد النور مزين أن القراءة تشكل جزءًا لا يتجزأ من مشروع الكتابة لأي كاتب يعتز بقضايا الكتابة ومسؤولياتها، فهي العنصر الأساسي في تكوين أي تجربة إبداعية. ويصف القراءة كفعل يومي ملازم لمشروع الكتابة لديه ولصيق بها، فهي تتيح له التجدد والتعمق في روح الأشياء، كونها مقدمة ضرورية لأي فعل إبداعي.
وفي حديثه للجزيرة نت، عبّر مزين عن تأثير بعض الكتب في حياة الإنسان ونظرته للأمور بشكل لا رجعة فيه. وهو ما حدث معه أثناء قراءته رواية الكاتبة الأميركية توني موريسون بعنوان (Home) والتي ترجمها بكلمة "وطن" وأعاد قراءتها هذا العام.
سأترجمها بكلمة "وطن" مع العلم أنه يصعب إيجاد كلمة أقرب إلى عمق المعنى الذي يجسد عمق الانتماء كالبيت. هذا لأن السؤال الرئيسي الذي دار في رأس بطل الرواية "فرانك ماني"، الشاب الأسود الذي حارب من أجل أميركا في الحرب الكورية، وظل يتساءل بعد عودته إلى بلده التي استقبلته بواقع التمييز العنصري المنظم، كان بالذات عن معنى هذا الانتماء
ومع تطور الثورة التكنولوجية والمعلوماتية والذكاء الاصطناعي، يرى صاحب رائعة "رسائل زمن العاصفة" أن سؤالي الهوية والانتماء يزدادان أهمية بشكل مخيف.
وشدد مزين إلى أن الوعي بهذه الأبعاد التي طرحتها موريسون -في روايتها عن معاني الانتماء المتعددة- غيّره وأثر فيه لدرجة تركيزه بوعي على هذا البعد الهوياتي في روايته الأخيرة "جسر النعمانية" بالغوص عميقا في كل الأبعاد التي تميز الهوية المغربية.
وخلص إلى أن هذه الومضات -التي تحدثها بعض النصوص في المبدع- تجعله أكثر نضجًا وأقرب إلى فطرته وطفولته التي تأثرت بتغيرات الحياة المتلاحقة والسريعة.
إعلان عناق إنساني لا يمكن وصفهتنسج الكاتبة الروائية الجزائرية حياة قاصدي، المقيمة في مرسيليا، رؤية بديعة للكتاب، فتصوره بالنافذة الجميلة التي نطل من خلالها على أنوار الثقافة والإبداع. وعبر حروفه وصفحاته، ننطلق نحو المدن الفاضلة والقيم الإنسانية الراقية، لنستكشف جوهر الإنسان وربيعه الداخلي المتجدد. فالقراءة، في عيني حياة، ليست مجرد نشاط، بل هي غاية سامية تسعى إليها على مدار العام، بحثًا عن عوالم الدهشة المتجددة.
وبالنسبة لقاصدي، تمثل القراءة لها ككاتبة ما تمثله التربة الخصبة للبذرة، فهي المادة الحيوية التي تنمي بذور الإبداع وتغذي النهم الثقافي الذي يحتاجه المبدع لتجديد طاقاته الفكرية وبناء جسور التواصل الإنساني. فالكتاب -في رؤيتها- هو مهد الحضارات والطاقة الإيجابية التي تدفع عجلة التطور البشري، بغض النظر عن الأفكار والتوجهات التي يحملها. وبقدر اطلاع الكاتب يستمر بداخله ذلك الامتداد الروحي بينه وبين عوالم الإبداع والمعرفة، فالقراءة في جوهرها عناق إنساني منساب لا يمكن وصفه.
وعن رحلتها القرائية بالأدب الإنساني العربي والعالمي لعام 2024، استوقفت قاصدي رواية "أنا والمستحيل" للمبدع الجزائري خليفة عبد السلام. إذ تصف هذا العمل كرحلة متكاملة تحاكي مسيرة الإنسان العربي ثقافيًا وتاريخيًا وعمقا وجوديا. ولكن ما أثار دهشتها أثناء قراءتها للرواية هو البنية الجديدة التي قدمها الكاتب في صياغة النص الروائي:
اعتدنا على كون الإنسان هو من يمثل شخوص الرواية، ولكن أن نعثر على إبداع يخرج الإنسان كعنصر أساسي في بنية العمل الروائي، ويعوض وجوده بأيقونات فلسفية نكون قد اطلعنا على بنية جديدة في طريقة كتابة النص الروائي العربي
وتستعرض قاصدي بعين الناقد الحصيف شخصيات الرواية، فتقول "شخوص هذه الرواية أيقونات تتصارع في حوار فلسفي وهي الذات والتاريخ والماضي والحاضر والمستحيل والانكسارات والأمل. ولهذه الشخصيات وجودها الملموس ومثلت الجانب السّيكولوجي لـ(الأنا) والتي نجح الكاتب في جعلها تلعب دورا أساسيًا داخل عباءة فلسفية قوية عندما أخضع (الأنا) لسلطة الفلسفة".
إعلان الكاتب الذي لا يقرأ لا يجدّد أدواته ومضامينهأما الكاتب والمترجم التونسي "أبو بكر العيادي" المقيم في باريس، فقد أشاد بقوة برواية "الطوفان" للأميركي ستيفن ماركلي والتي صدرت ترجمتها الفرنسية الصّيف الماضي، ويصف العمل بأنه آسر للقارئ، فبالرغم من حجمها الضّخم (1039 صفحة) فإنّ قارئها لا يمكن أن يتركها لحظة، ولا يستطيع أن يمنع نفسه من المرور إلى الصفحة الموالية، تباعًا، حتى النهاية، بفضل لغتها الواضحة، ومضمونها الذي يرجّ القارئ، ويجعله يعيد النّظر في كثير من ممارساته اليوميّة تجنّبا لخطر حقيقي.
ويصنف العيادي الرواية -في معرض حديثه للجزيرة نت- فيقول:
الرواية من النّوع الديستوبي، الاستباقي، ولكنّها ليست من الخيال العلمي، بل تستند إلى واقعنا الحالي، وهو واقع كرة أرضية صارت مهدّدة بالزّوال
ويسرد القصة التي تمتد أحداثها من عهد أوباما حتى نهاية ثلاثينيات القرن الحالي. فعلى الرغم من تحذيرات المتخصصين المتكررة، ودعوات المنظّمات العالمية إلى توخّي تدابير لا محيد عنها لإنقاذ الأرض وما فيها ومن عليها، يستهين زعماء البلدان المصنّعة بالتحذيرات ويعتبرونها من قبيل "نظريّات المؤامرة".
أما عن شخصية البطل بالرواية "توني بيتروس" فيسلط العيادي الضوء عليه، فهو يصدر كتابًا عن اختلال المناخ، وبعدها يتلقّى تهديداتٍ ممّن لا يفكّرون إلّا في مصالحهم الخاصّة.
ويرسم الكاتب من خلال كل هذا صورة للعالم وهو يشهد تصاعدًا في الكوارث الطبيعية كارتفاع درجات الحرارة واستشراء القيظ والفيضانات والحرائق والأعاصير التي باتت تهدّد البشريّة قاطبة وتضعها على شفير الهاوية. ويطرح سؤالًا جوهريًا: بِمَ تقبل أن تضحّي لأجل إنقاذ الإنسانيّة؟
ويذكر العيادي قول "ستيفن كينغ" عن الرواية أنها "تنبّؤيّة ومرعبة" فالقارئ لا يمكن أن يتخلّص منها بعد طيّها، لأنّها تطرح أسئلة آنية حارقة وتتحدّث عن البشر وعن مصيرهم ومصير الأجيال المقبلة على وجه أرض يهدّدها سكّانها، فيهدّدون بذلك وجودهم وبقاء جنسهم.
قراءة الكتب تنير البصائر، وتفتح العيون على تقاليد أمم أخرى وتجارب إنسانيّة متنوّعة، وتزيد الانسان معرفة بموقعه من العالم
وبوصفه كاتبّا، يشدد على أهمية القراءة للكاتب في حلّه وترحاله، لأن الكاتب الذي لا يقرأ باستمرار نصيبًا من نتاج البشريّة، قديمه وحديثه، لا يجدّد أدواته، ولا مضامينه.
إعلان اقرأ حتى أراكتمتلك الشاعرة والروائية اللبنانية شادن دياب شهية قرائية ثرية، ففي عام 2024، قرأت حوالي 40 كتابًا بين الروايات الأجنبية والعربية، وكتب الفلسفة والعلوم السياسية. لكن من بين كل هذا، برزت رواية "غداء في بيت الطباخة" للكاتب المصري محمد الفخراني كجوهرة فريدة استحوذت على اهتمامها، متميزة بسياقها الاستثنائي وأسلوبها الفني المبتكر.
وتكشف شادن عن شغفها الخاص بموضوع الرواية قائلة:
لدي اهتمام خاص بموضوع الحرب والسلام، وهذه الرواية كُتبت في سياق استثنائي بعيد عن النمطية، مما جعلها تجربة أدبية مميزة بالنسبة لي. فهي تقدم رؤية أدبية جديدة للحرب تتجاوز الصور النمطية المألوفة. بعيدًا عن مشاهد الأشلاء والدماء المعتادة، وتعيد الرواية تعريف الحرب كحالة إنسانية عميقة، وتكشف عن روح الإنسان وهشاشته في مواجهة الصراعات، وقد فازت بجائزة أفضل رواية في معرض القاهرة الدولي للكتاب 2024
وعن براعة الفخراني في توظيف الرموز والألوان، تقول شادن إنه استخدم أسماء مجردة تضفي على العمل طابعًا فلسفيًا وتأمليًا عميقًا. وعبر هذه الشخصيات، يستعرض الكاتب أبعاد الحرب الإنسانية، حيث تتحول الخنادق من مواقع للصراع إلى مساحات للكشف عن جوهر الإنسان، ومن خلال حوارات ومواقف تجمع شخصين من طرفين متعارضين وسط الحرب، تظهر إنسانيتهما رغم عدائية الظروف التي تحيط بهما.
وتستشهد الشاعرة اللبنانية بمقطع من الرواية يجسد عمقها الفلسفي "لا أحد يعرف. في الحرب لا يمكنك أن تعرف حتى ترى بعينيك. وعندما ترى بعينيك تتأكد أكثر أنك لا تعرف". وهذا المقطع يلخص الأسئلة الجوهرية التي تثيرها الرواية حول طبيعة المعرفة والحقيقة في زمن الحرب.
وبنظرة عميقة، تخلص الروائية إلى جوهر القراءة، والتي تمثل وجهة نظر تعكس وعينا الواعي وغير الواعي في اختياراتنا للكتب التي نقرأها، أو هي في عبارة موجزة "اقرأ حتى أراك".
كالميت بين يدي غاسلهيعيش الكاتب التونسي "شكري الباصومي" منذ أشهر تحت سلطان كتاب "الموازي في أخبار المسرح النشازي.. ومهملات أخرى" للمبدع المسرحي توفيق الجبالي الذي ضل طريق الكتابة.
ويتساءل حائرا كيف بإمكانه في سطور أن يعبر عن محتوى هذا الكتاب الملغوم؟ فهو يرى أنه حين يكتب الجبالي فهو قادر على امتاع القارئ، فقد اعتنق الكتابة الشاملة المنفلتة التي تتميز بأن المعرفة عمادُها، والجبالي يمتلك جرأة في القول، ويقدر على تسمية الأمور بأسمائها، قدر المستطاع، ويتميز بسخرية تغيظ بعض الفاعلين، وتشفي صدور القراء.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات هذه الروایة لا یمکن إلى أن
إقرأ أيضاً:
خصوبة الشر.. سرد 60 عاما من الذاكرة الجزائرية بأسلوب الرواية السوداء
يُعد "عمارة لخوص" كاتبا مقيما في الترحال والمنفى الاختياري، يحلق بأكثر من جناح في سماء الإبداع، وينهل من ثقافات متنوعة، ويكتب بأكثر من لغة، مما منح رواياته وأسلوبه ثراء خاصا، وفتح أمامه آفاقا إبداعية جديدة، وجعله "يفكر خارج الصندوق"، لذلك فهو يعتبر أن "الهوية ليست قالبا ثابتا، بل حالة ديناميكية تتغير وتتوسع مع التجارب والاحتكاك بالثقافات المختلفة".
ولعل انفتاح تجربته الإبداعية الأدبية واحتكاكه بثقافات مختلفة، هي التي صبغت شخصيات رواياته بالنزعة الإنسانية مهما كان اللسان الذي تنطق به، وحملت بذرة النجاح واللهفة التي استقبلت بها أعماله في شتى اللغات التي ترجمت لها، تأصيلا لمفهوم الإبداع والهوية التي لا يعتبرها "سجنا وقدرا محتوما مكتملا"، بل "أفقا مفتوحا، كلما وسعناه، ازداد فهمنا لأنفسنا وللآخرين".
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2فلسطين ذاكرة المقاومات.. محمد بنيس يقدم شهادة ثقافية إبداعيةlist 2 of 2"تهويد الأندلس".. تزوير التاريخ العريق لأغراض أيديولوجية حديثةend of listولأننا "لا نسكن إلا الأماكن التي نغادرها" كما يقول الشاعر الفرنسي "رونيه شار"، فقد كانت المسافة التي فرضتها الهجرة على لخوص "فرصة ثمينة لفهم أعمق للجزائر وللجزائريين"، لأن الابتعاد عن الجزائر ورؤيتها من الخارج جعله يرى تفاصيل لم يكن يلتقطها من قبل، كأنه يقف أمام المرآة لأول مرة، فيرى بوضوح ما كان غائبا عن ناظريه.
إعلانوتعتبر روايته "طير الليل"، التي صدرت ترجمتها الفرنسية عن دار "أكت سود" في ديسمبر/كانون الأول الماضي تحت عنوان "خصوبة الشر"، ترجمة واضحة لهذه المناخات الإنسانية والاشتغال على ذاكرة المكان ومسبار الذاكرة، التي يتحرك فيها المنجز الإبداعي لعمارة لخوص.
حيث قدم فيها "سردية تمتد على 60 عاما من تاريخ الجزائر"، وطرح "من خلالها أسئلة جوهرية حول الفشل: لماذا أخفقت تجربة الاستقلال؟ كيف يمكننا بناء مستقبل أكثر إشراقا؟ كيف نعيد ربط الجزائر بقيم ثورتها العظيمة؟ وكيف نتجنب النكسات التي أعقبت الاستقلال؟".
ولكن عكس رواياته، التي كتبها بالإيطالية واستعمل فيها كشكل فني الكوميديا الممزوجة بالدراما، ألبس لخوص روايته "خصوبة الشر" معطف الرواية الإجرامية، أو ما يعرف بـ"الرواية السوداء" (Noir)، لأنها "الأنسب لفهم الواقع الجزائري"، مثلما قال في هذا الحوار.
وحققت الرواية نجاحا بارزا حين صدرت باللغة العربية، ودخلت في القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر" لعام 2021.
وعمارة لخوص روائي جزائري ولد عام 1970، يكتب بالعربية والإيطالية، تخرج من معهد الفلسفة بجامعة الجزائر، أقام في إيطاليا 18 عاما، وحصل على دكتوراه في الأنثروبولوجيا من جامعة روما.
وهو يقيم في نيويورك منذ 2014، وصدر له "البق والقرصان"، و"كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضك؟" التي ترجمت إلى 8 لغات وتحولت إلى فيلم سينمائي عام 2010 من إخراج "إيزوتا توزو"، كما حازت الرواية على جائزة "فلايانو" الأدبية الدولية وجائزة "راكلماري- ليوناردو شاشه" عام 2006، إضافة إلى جائزة المكتبيين الجزائريين عام 2008.
كما صدر له "القاهرة الصغيرة"، و"فتنة الخنزير الصغير في سان سالفاريو"، و"مزحة العذراء الصغيرة في شارع أورميا"، و"قرصان صغير جدا" و"طلاق على الطريقة الإسلامية في حي ماركوني"، وترجمت رواياته إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية والهولندية واليابانية.
إعلانفي هذا الحوار الخاص بالجزيرة نت تحدث لخوص حول الترجمة الفرنسية لروايته "خصوبة الشر" وحيثيات كتابتها، وعلاقة شخصياتها ومناخاتها بالحراك الشعبي في الجزائر عام 2019، كما انفتح على علاقته وتأثره الكبير بالسينما، وناقش كيف مثلت الإبادة الجماعية في غزة اختبارا أخلاقيا حاسما للدول والنخب الغربية، بالإضافة إلى عدة قضايا أخرى أدبية ثقافية تهم الراهن العربي والعالمي، فإلى الحوار:
قررت تغيير العنوان من "طير الليل" إلى "خصوبة الشر" بعد العمل مع 3 مترجمين: فرانشيسكو ليجو (الإيطالية)، ألكسندر ألينسن (الإنجليزية)، ولطفي نيا (الفرنسية). ووجدت أن "طير الليل" لا ينقل المعنى المقصود في هذه اللغات، إلى جانب مشكلة إضافية تمثلت في وجود فيلم إنجليزي يحمل الاسم نفسه. حينها، تذكرت العنوان الأول الذي اخترته للرواية، "خصوبة الشر"، والذي رافقني طويلا قبل أن أستبدله لاحقا بـ"طير الليل".
خلال عملية الترجمة المشتركة مع المترجمين الثلاثة، لم يقتصر الأمر على تغيير العنوان، بل أجريتُ أيضا تعديلات جوهرية على النص الأصلي، شملت تحسين الحبكة، حذف التكرار، وإضافة مقاطع جديدة تسهل على القارئ فهم الرواية بشكل أعمق.
تنتمي روايتك "خصوبة الشر" إلى رواية الجريمة السوداء والنوع البوليسي، فهل موضوع الرواية هو الذي فرض هذا الشكل الفني السردي أم العكس هو الصحيح؟عندما أنظر إلى رواياتي المنشورة، أجد أن المضمون هو الذي فرض الشكل دائما. على سبيل المثال، في الروايات الأربع التي كتبتها عن إيطاليا وتتناول موضوع الهجرة، كتبتُ الروايتين الأولى والثانية بالعربية والإيطالية، بينما كتبت الثالثة والرابعة بالإيطالية فقط. كان الموضوع هو العامل الحاسم في اختيار الشكل.
إعلانوفي هذه الروايات، تبنيت الكوميديا على الطريقة الإيطالية، كوميديا ممزوجة بالدراما، حيث تجد نفسك تضحك وتبكي في آن واحد. أدركتُ أنه من المستحيل فهم الواقع الإيطالي من منظور عقلاني صرف، لذلك لجأت إلى الكوميديا.
لقد استلهمتُ هذا الشكل من السينما الإيطالية، التي تأثرتُ بها كثيرا منذ سن المراهقة. ولكن عندما قررتُ الكتابة عن الجزائر، راودتني فكرة استخدام الكوميديا الإيطالية، بيد أنني، بعد سنوات من التفكير والتجريب، وجدت أن الرواية الإجرامية، أو ما يعرف بـ"الرواية السوداء" (Noir)، هي الأنسب لفهم الواقع الجزائري.
أعتقد أن السبب الرئيسي لغياب الرواية الإجرامية، أو حتى الرواية البوليسية، في العالم العربي يرتبط بمحدودية حرية التعبير. ففي الدول الديكتاتورية، لا يُسمح للكتّاب بالحديث عن الجرائم، لأن النظام يعتبر نفسه الضامن الوحيد للنظام العام، ولا يعترف بوجود مشكلات صغيرة وما بالك بالجرائم.
رواية "طير الليل"، التي حملت لاحقا عنوان "خصوبة الشر"، تروي قصة الجزائر على مدار 60 عاما، ابتداء من عام 1958، أي في السنوات الأخيرة من حرب التحرير، وحتى عام 2018.
وتدور الرواية حول 4 شخصيات، جميعهم مجاهدون لا يتجاوز عمرهم العشرين عاما عند بداية الرواية، يناضلون من أجل تحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي. أرافقهم عبر هذه العقود الستة، ليس وفق تسلسل زمني صارم، بل من خلال محطات أساسية في تاريخ الجزائر، مثل استقلال البلاد عام 1962، والانقلاب العسكري عام 1965، وغيرها من الأحداث المفصلية.
إعلانوفي كل محطة، أتابع تحولات الشخصيات، وأستعرض كيف تغيرت حياتهم ومواقفهم مع مرور الوقت.
والفكرة الأساسية التي بنيت عليها الرواية هي خيبة أمل عميقة، لا يشعر بها الجزائريون فقط، بل كل من أحب الجزائر وآمن بثورتها العظيمة. فالشعب الجزائري، الذي صنع ثورة حقيقية ضد مستعمر غاشم، لم ينجح، للأسف، في بناء دولة وطنية تليق بتضحياته.
كما يقول أحد أبطال الرواية: "حررنا البلاد، ولكننا لم نحرر العباد". بمعنى أن الجزائر تحررت من المستعمر الفرنسي، لكنها لم تحرر شعبها، إذ انتقلت من الاستعمار الفرنسي إلى حكم الأنظمة الشمولية التي تعاقبت على السلطة. فالاستعمار تغير شكله، لكنه لم ينته، فبعد طرد المستعمر الفرنسي، جاء مستعمرون من بني جلدتنا، فرضوا هيمنتهم وسلبوا حرية الجزائريين.
هناك فكرة أساسية آمنتُ بها منذ أن بدأتُ الكتابة، وهي أن الكاتب الجيد شاهد على الواقع، لا واعظ يمنح الدروس أو يلقّن المواعظ للناس. وأعتبر نفسي كاتبا شاهدا، لأنني جزائري، وُلدتُ في الجزائر، وعشتُ فيها ربع قرن قبل أن أهاجر. لكن حتى بعد هجرتي، لم أنقطع عنها، بل ظللت أتابعها بالقراءة، والملاحظة، والتفكير.
في الواقع، البعد الجغرافي ساعدني كثيرا في فهم الجزائر بشكل أعمق. أحيانا، لا نستطيع إدراك بعض الحقائق إلا حين نبتعد عنها، ننظر إليها من زاوية مختلفة، من الخارج. هذه المسافة، إلى جانب الأدوات العلمية التي اكتسبتها، ومعايشتي في بلدان مختلفة، منحتني منظورا أوسع وأعمق لفهم الأحداث في الجزائر.
إعلانوهذا ما حدث معي بالفعل. بعد سنوات من القراءة والبحث في الأرشيف، والحديث مع الناس، حاولتُ تقديم سردية تمتد على 60 عاما من تاريخ الجزائر. من خلالها، طرحت أسئلة جوهرية حول الفشل: لماذا أخفقت تجربة الاستقلال؟ كيف يمكننا بناء مستقبل أكثر إشراقا؟ كيف نعيد ربط الجزائر بقيم ثورتها العظيمة؟ وكيف نتجنب النكسات التي أعقبت الاستقلال؟
لقد سعيت، من خلال هذه الرواية، ليس فقط إلى استعادة ذاكرة الجزائر، بل أيضا إلى استشراف مستقبلها، عبر تسليط الضوء على مكامن الضعف، وفهم أسباب الإخفاق، في محاولة لاستنهاض قيم الثورة الحقيقية، والبحث عن أفق جديد لجزائر حرة وعادلة.
يحضر المكان في رواية "خصوبة الشر" مكثفا يمتح من الذاكرة ويلاعب الخيال، ويتحول في كثير من الفصول شخصية بحد ذاتها، فأي دور يلعبه في بناء والشخصيات والتوتر الدرامي وتعزيز الموضوعات المركزية في الرواية؟غالبا ما أقول إنني، ككاتب، متأثر بالسينما أكثر من الأدب. فلا بد من مكان تضع فيه الكاميرا، ولا شك أن المكان يشكل عنصرا أساسيا في كل رواياتي. وفي الروايات الأربع التي كتبتها بالإيطالية، وبعضها بالعربية أيضا، والتي تدور أحداثها في إيطاليا، كان المكان حاضرا دائما في العنوان، سواء كان اسم حي أو شارع. فأنا أعتبر المكان شخصية أساسية في الرواية، ليس مجرد خلفية للأحداث، بل عنصر فاعل يساهم في تشكيل السرد.
الهوية كما فهمتها من تجربتي الشخصية، ليست قالبا ثابتا، بل حالة ديناميكية تتغير وتتوسع مع التجارب والاحتكاك بالثقافات المختلفة، مما فتح أمامي آفاقا جديدة في الكتابة والرؤى، وجعلني أفكر خارج الصندوق.
إعلانأنا أرى الهوية كمشروع مفتوح، يمكنك إثراءه، وتحسينه، وتعديله. إذا وُلدت بلغة معينة، يمكنك تعلم لغات أخرى، فتوسع هويتك. وبالنسبة إلى الدين، لا يعني ذلك بالضرورة أن تغير معتقداتك، بل أن تفهم دينك بعمق، وتتعرف على ديانات الآخرين أيضا.
والنزعة الإنسانية هنا ضرورية. إذا آمنا بالهوية الإنسانية أولا، ثم تعمقنا في التفاصيل، يمكننا التفاعل إيجابيا مع الآخرين عبر الحوار والفهم المتبادل. ومن خلال هذا التفاعل، نطور هويتنا، نحسنها، ونغنيها.
ولا توجد هوية مكتملة، فكل الهويات ناقصة ولها عيوبها، وهي ليست سجنا، بل أفق مفتوح، كلما وسعناه، ازداد فهمنا لأنفسنا وللآخرين.
كيف عشت الحراك الثوري الطامح للتغيير الذي حدث في الجزائر سنة 2019؟كنت محظوظا أنني عايشت الحراك الشعبي في الجزائر عام 2019. قبل ذلك، كنت أراقب وألاحظ تصاعد الرفض الشعبي للعهدة الخامسة. وأعتقد أن أهم إنجاز للحراك كان كسر الفكرة القائلة إن الجزائري عنيف بطبعه، وأن التغيير لا يأتي إلا بالعنف.
للأسف، ترسخت هذه الفكرة منذ الاستعمار الفرنسي، حين اضطر الجزائريون إلى مقاومة المحتل بالسلاح لتحرير وطنهم، وكان ذلك العنف مشروعا إلى حد كبير. لكن المشكلة أن هذه الفكرة استمرت حتى بعد الاستقلال، وأصبحت جزءا من التصور العام للتغيير السياسي.
وجاء الحراك الشعبي في 2019 ليكسر هذا التصور، مؤكدا إمكانية التغيير بوسائل سلمية. وخلال المسيرات الشعبية، التي شاركت فيها جميع أطياف المجتمع (نساء- رجالا- أطفالا) سقط حكم بوتفليقة الفاسد، الذي دام 20 عاما. كانت مسيرات الجمعة دروسا حية في الكفاح السلمي.
والآن، هل نجح الحراك أم لم ينجح؟ أعتقد أنه حقق نجاحا في إيقاف العهدة الخامسة، وكشف مشروع الفساد المرتبط بها، ووضع السلطة الحاكمة أمام حقيقة لا يمكن إنكارها: استمرار الأسباب نفسها سيؤدي حتما إلى النتائج ذاتها.
إعلانأتمنى بصدق أن تكون السلطة قد استوعبت درس 2019، وأن تسعى لتجنب أخطاء الماضي، حفاظا على مستقبل الجزائر.
حققت رواياتك، التي كتبتها باللغة الإيطالية، نجاحا باهرا لدى القارئ الإيطالي وصدرت في كثير من الطبعات وترجمت إلى أغلب اللغات العالمية، وتحصلت على جوائز عديدة، فكيف تعيش وتستبطن علاقتك باللغة والثقافة الإيطالية؟انفتاحي على الثقافة الإيطالية والكتابة بالإيطالية ينبع من رؤيتي للهوية كمشروع مفتوح، لا كحالة مغلقة. فالكاتب المبدع، المؤمن بقدرته على التجدد، يستطيع أن ينفتح على الثقافات واللغات الأخرى ويغتني بها.
والكتابة بالإيطالية كانت تجربة رائعة وممتعة، لأنها سمحت لي بأن أكون "مهربا لغويا" أنقل الصور، والأمثال، والتعابير بين العربية والإيطالية، مما خلق لي أسلوبا خاصا في كلتا اللغتين، وأثرى تجربتي الكتابية بعمق.
والكتابة بالإيطالية لم تكن مجرد نافذة، بل بابا واسعا فتح أمامي آفاقا نحو لغات أخرى. وترجمت أعمالي إلى 9 لغات، معظمها انطلاقا من النسخة الإيطالية، خاصة إلى الإنجليزية، مما فتح لي فرصا غير متوقعة. لولا هذه الترجمات، لما سنحت لي فرصة العمل في إحدى أرقى الجامعات الأميركية، حيث أُدرس حاليا في جامعة يايل، واحدة من أفضل 10 جامعات عالميا، وأفضل 6 جامعات في الولايات المتحدة، ضمن قسم الدراسات الإيطالية.
يقول الكاتب الليبي إبراهيم الكوني "لا أكتب كي أستمتع، ولكني أكتب كي أتحرر"، كيف تعيش الكتابة وكيف تعرفها وتفهمها؟أشاطر رأي أستاذنا الكبير إبراهيم الكوني: الكتابة هي الحرية، خصوصا عندما تحررنا من الجهل. وإذا كان لا بد من تحديد الدافع الرئيسي وراء الكتابة بالنسبة لي، فهو الرغبة في المعرفة، والسعي للإجابة عن أسئلة حارقة تؤرقني.
فالكتابة محاولة مستمرة لإيجاد إجابات أكثر اتساقا مع الزمن الذي نعيشه، وإعادة التفكير فيما نعتبره مسلمات، وفتح أبواب لمعانٍ بديلة تساعدنا على رؤية العالم من منظور مختلف.
إنها ليست مجرد بحث عن الحقيقة، بل أيضا فعل مقاومة ضد الجمود الفكري، وسعي دائم لتجديد الفهم والوعي.
إعلان كيف تفسر وتنظر إلى ازدواجية المعايير الغربية والتناقض بين الخطاب والممارسة، تجاه الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في غزة؟شكلت الإبادة الجماعية في غزة اختبارا أخلاقيا حاسما للعديد من الدول والنخب الغربية التي طالما تباهت بديمقراطيتها واحترامها لحقوق الإنسان، مدعية تفوقها الأخلاقي على غيرها. وفي هذا الامتحان، مثلا، كان سقوط إدارة بايدن والحكومة الألمانية مدويا، إذ أنكرت ما لا يمكن إنكاره، متجاهلة جرائم الحرب الموثقة والإبادة التي يتعرض لها الفلسطينيون. في المقابل، قدمت دول أخرى درسا أخلاقيا رفيعا، كما فعلت جنوب أفريقيا عندما رفعت شكواها المشهورة ضد إسرائيل إلى محكمة الجنايات الدولية.
وكما قال محمود درويش: "سقط القناع عن القناع" بل في الواقع، سقطت الأقنعة كلها، مما تسبب في فضائح مجلجلة تهز الضمائر. لكن في الوقت ذاته، هناك أصوات مشرقة وسط هذا الظلام. لدي أصدقاء يهود أميركيون أبدوا مواقف نبيلة، مثل الناشرة جوديت غورفيش (Judith Gurewich)، التي نشرت ودافعت بشجاعة عن كتاب "حكاية جدار" للأسير الفلسطيني ناصر أبو سرور، متحملة حملات تشهير شرسة.
ومن خلال عملي كأستاذ في جامعة يايل، ألاحظ نضجا متزايدا لدى الشباب الأميركيين، وحسا واضحا بالعدالة، وهو ما قد يثمر مستقبلا عن مواقف ورؤى أكثر دعما لحقوق الشعب الفلسطيني في الحرية والكرامة، بعيدا عن الإبادة والتهجير.
يجيب المفكر الأميركي نعوم تشومسكي عن سؤال: ما مهمة المثقف؟.. "أن يقول الصدق ويفضح الأكاذيب"، فكيف ترى دور المثقف العربي وما أهم التحديات الإبستمولوجية التي تطرح عليه اليوم؟المثقف جزء لا يتجزأ من المجتمع، ودوره مركب ومعقد، إذ يجمع بين بعدين أساسيين: جانب أخلاقي يتمثل في الانحياز إلى الحق والحقيقة وحقوق الناس، وجانب معرفي يتطلب منه الإلمام العميق بالواقع ومواكبة الأحداث بفكر نقدي.
إعلاندور المثقف يتجاوز امتلاك المعرفة إلى تحويل هذا الوعي إلى موقف. وليس مجرد موقف فكري، بل موقف أخلاقي يستند إلى القيم الإنسانية والضمير الحي. المثقف الحقيقي هو من يجمع بين المعرفة والشجاعة الأخلاقية، ليقف حيث يجب أن يكون، لا حيث يكون آمنا.
الربيع العربي كان محطة مفصلية، وامتحانا حقيقيا للمثقفين. هناك من نجح في الحفاظ على استقلاليته وانحيازه لقيم الحرية والعدالة، وهناك من أخفق، إما بالصمت أو بالتواطؤ مع السلطة القمعية.