أودّع، 2024، وأستقبل عامًا جديدًا، لكن تظل صور ومشاهد الألم التي رصدتها عن قرب كارثة قطاع غزة عالقة بالذاكرة. مساحة جغرافية كانت آمنة نسبيًا، تحولت خلال الـ15 شهرًا الماضية إلى مسرح للمآسي الإنسانية، التي تكشف عن خلل في منظومة العلاقات الدولية، والمؤسسات الأممية والإقليمية التي تقف عاجزة أمام جبروت آلة الحرب الإسرائيلية.
عام كامل من الرصد والتوثيق لمظاهر الكارثة الإنسانية التي يعيشها سكان القطاع يكشف عن واقع مرير، حيث تدمير المرافق الأساسية وتحول الحياة إلى جحيم لا يُطاق، كان الوصول إلى التفاصيل محفوفًا بالمخاطر، بالخوف على مصادري الذين ينتشرون من شمال غزة إلى جنوبها. كانت الضرورة الأخلاقية قبل المهنية دافعي في استكمال الحملة الموسعة لفضح جرائم الاحتلال الإسرائيلي، دفعتني لتجاوز العقبات اللوجستية، والتواصل مع العائلات والأسر والمسئولين الذين يعيشون وضعًا كارثيًا على مدار الساعة.
في زمن يُفترض أن يكون عصر التقدم والتكنولوجيا، يعود قطاع غزة إلى الزمن البدائي، جراء مبادرة إسرائيل بقطع الاتصالات، هذا العزل ليس مجرد إجراء تقني، بل هو أداة حرب تهدف إلى إسكات الأصوات ومنع العالم من رؤية الحقيقة، تحولت عمليات التواصل مع العائلات والأسر والمسئولين التنفيذيين على الأرض إلى مهمة شاقة، تتعطل وسائل الاتصال بشكل متكرر، مما يجعل مهمة نقل المعاناة الإنسانية إلى العالم أكثر صعوبة.
رغم تعدد العقبات خلال محاولات نقل الصورة الحقيقية، وفرض عُزلة مطلقة على غزة، كنت أتواصل مع حالات عدة في مناطق متفرقة عند معالجة المواد الصحفية، ليس شكًا في مكلومين يضحون بكل شيء من أجل التمسك بالأرض، بالتاريخ، بالحق في الحياة، بل لتوثيق كل كلمة، والبعد قدر الإمكان عن المبالغة، رغم أن ما تقوم به إسرائيل في غزة يتجاوز حد المعقول.
غزة التي كانت يومًا مركزًا للحياة والنشاط تحولت إلى مدينة أشباح، البنية التحتية المدمرة، انقطاع الكهرباء، نقص المياه الصالحة للشرب، وانهيار النظام الصحي، كلها عوامل تجبر السكان على العيش في ظروف لا إنسانية، المدارس والمستشفيات لم تعد قادرة على أداء دورها، والأسر تضطر إلى الاعتماد على الوسائل البدائية لتلبية احتياجاتها اليومية.
كنت أتابع تدريجيًا مدينة عامرة تتحول إلى أنقاض، فآلة الحرب الغاشمة تجتث البشر، والشجر، والمؤسسات. في غزة، لا يشبه الصباح غيره. كل يوم يحمل وعدًا جديدًا بالألم، المستشفيات شبه معطلة، مرافق المياه والصرف الصحي مدمرة، والشوارع تغص بأنقاض الأحلام المحطمة، حتى الأطفال لا يرسمون بالطباشير على الأرصفة، بل يحملون آثار الجراح على وجوههم وأجسادهم.
قصص أهالي القطاع تجسيد للصمود الإنساني في وجه القهر. تحدثني أم فلسطينية عن فقدها الزوج والأبناء، وفي نهاية حديثها تقول بكل ثقة: «متمسكون بأرضنا». أخرى فقدت أسرتها كاملة، وثالثة، ورابعة، وخامسة تتبنى الموقف نفسه. لا يذرفون دموع الانكسار، يدخرون مشاعرهم للثأر. الرجال عنوان للصبر والجلد، إرادة حقيقية تمشي على الأرض. يحدثونني عن واقع أليم، عن جثث تُدفن كما هي، بلا أكفان، في مقابر جماعية، لأنه لم يعد هناك أكفان أو أماكن مهيأة للدفن.
فرق الإنقاذ التي تحاول إنقاذ الأرواح تحت الأنقاض تواجه صعوبات جمة بسبب نقص المعدات والوقود، ناهيك عن الاستهداف المباشر من قبل القوات الإسرائيلية. قصص الأبطال الذين يخاطرون بحياتهم لإنقاذ الآخرين تذكرنا بقوة الروح الإنسانية، لكنها أيضًا تذكرنا بالثمن الباهظ الذي يدفعه المدنيون في هذه الحرب غير المتكافئة، وأنا أتواصل مع مسئولي الدفاع المدني في القطاع، الذين كانوا دائمًا خط الدفاع الأول في المشكلات والأزمات، باتوا عاجزين أمام الكارثة التي خلفها العدوان الإسرائيلي.
لم يعد بمقدورهم القيام بدورهم، ليست المسألة نقص المعدات فقط، بل الاستهداف المباشر والمتكرر من قبل آلة الحرب الإسرائيلية. كثيرًا ما سمعت منهم: «نخرج لإنقاذ العالقين تحت الأنقاض، لكننا لا نعلم إن كنا سنعود أحياء. أصبحت عملياتنا أشبه بمهام انتحارية. لا نعلم أين نذهب، من نساعد أولاً، ومع من نتواصل بسبب الانقطاع المتكرر للاتصالات. تصبح الأمور فوضوية بالكامل، لكننا نحاول أن نعمل بما نستطيع». ومع ذلك، فأصواتهم المرهقة لا تخلو من مظاهر الإصرار على الاستمرار في العمل مهما كان الثمن.
غزة اليوم ليست فقط عنوانًا للمعاناة، بل مرآة تعكس كيف يمكن أن يتحول العالم إلى مكان متوحش، يتبدى العبث مع كل قذيفة تسقط، تسقط معها قطعة من إنسانيتنا المشتركة ومع كل روح تُزهق، الحديث عن غزة ليس مجرد وصف لما يحدث، بل نداء لضمير عالمي بدا أنه تبلد.لا يمكن لمشهد عائلة تبحث بين الركام عن جثة طفلها أن يُعتبر خبرًا عابرًا، ولا يمكن لصورة مستشفى يُخلي مرضاه تحت القصف أن تُقرأ بدون أن تهز القلوب، في كل مرة حاولت فيها أن أروي قصة غزة، كنت أكتشف أن الكلمات تخونني. لا شيء يمكن أن يعبر عن هذا الجرح المفتوح.
ليس صحيحًا أنها أزمة العواصم العربية، سواء الفاعل منها أو من اختار منذ عقود أن يظل على هامش الأحداث، فقد بادرت دول عدة عربية وإسلامية بتقديم مساعدات متنوعة قدر طاقتها وجهدها. كانت، مصر، في الصدارة، رغم الحملة المشبوهة التي حاولت التلاعب بالرأي العام، لتبرة إسرائيل من التعنت، من تعمد استخدامها سلاح التجويع لتركيع أهال القطاع.
عام كامل من المعاناة في غزة يكشف عن فشل المجتمع الدولي في وقف هذه الكارثة الإنسانية. القطاع الذي يعيش تحت الحصار منذ سنوات يشهد اليوم تدهورًا غير مسبوق في كل جوانب الحياة. الأصوات التي تنادي بالسلام والعدالة تتعرض للإسكات، لكن الحقيقة لا يمكن إخفاؤها إلى الأبد.على العالم أن يستيقظ، أن يرى ما يحدث في غزة، وأن يتحرك لوقف هذه المأساة. لأن الصمت ليس خيارًا عندما يتعلق الأمر بالإنسانية.
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: فی غزة
إقرأ أيضاً:
ما هي الدول الأوروبية التي ستشارك في "تحالف الراغبين" من أجل أوكرانيا؟
طرحت فرنسا والمملكة المتحدة فكرة إرسال قوات إلى الميدان كضمان أمني بعد اتفاق السلام. ولكن حتى الآن، يبدو أن قلة من الدول توافق على ذلك.
خلال قمة عُقدت في لندن يوم الأحد، طرحت فرنسا والمملكة المتحدة، مقترحًا لتطوير "تحالف الراغبين"، بهدف تعزيز الدفاع عن أوكرانيا والمساهمة في أي خطة سلام مستقبلية، في إطار الجهود الغربية المستمرة لدعم كييف في مواجهة التحديات الأمنية.
ووصف رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر التحالف بأنه مجموعة من الدول "المستعدة لدعم أوكرانيا بقوات على الأرض وبطائرات في الجو، والعمل مع الآخرين ".
لا تزال طبيعة المهمة العسكرية المحتملة للقوات الغربية في أوكرانيا غير واضحة، وسط تساؤلات استراتيجية حول نطاق وأهداف هذا التدخل. ويطرح فيليب بيرشوك، مدير "معهد البحوث الاستراتيجية" في المدرسة العسكرية في أوروبا، سلسلة من التساؤلات الجوهرية حول السيناريوهات المحتملة لنشر القوات.
ويشير بيرشوك ليورونيوز إلى أن هناك فارقًا جوهريًا بين إرسال قوات إلى غرب أوكرانيا للسماح للجيش الأوكراني بإرسال وحدات محلية للقتال على الجبهة، وبين نشر قوات لحفظ السلام، حيث يتطلب هذا الأخير تمركز قوات عند خطوط التماس لمنع استمرار القتال، وهو نهج يختلف تمامًا عن التدخل العسكري التقليدي.
Relatedأوكرانيا تجدد رفضها دخول مفتشي الطاقة الذرية إلى زابوروجيا عبر الأراضي المحتلةرئيس وزراء السويد السابق" يصف مفاوضات ترامب للسلام حول أوكرانيا بأنها مباحثات "هواة" ستارمر: لندن وباريس تعملان على خطة لوقف الحرب في أوكرانيا سيتم طرحها على ترامبويقدر الخبراء أن تنفيذ مهمة حفظ سلام موثوقة يتطلب نشر عدة آلاف من الجنود. وفي هذا السياق، صرّح سفين بيسكوب، الباحث في "معهد إيغمونت" في بروكسل، لقناة يورونيوز قائلاً: "قد يكون من الضروري إرسال فيلق عسكري يضم 50 ألف جندي، لإيصال رسالة واضحة إلى روسيا مفادها أننا جادون للغاية في هذا الأمر."
ورغم أن باريس ولندن تبديان استعدادًا لاستكشاف هذا الخيار، إلا أن المواقف الأوروبية لا تزال منقسمة بشكل كبير حيال هذه الخطوة الحساسة، إذ تتحفظ بعض الدول على التصعيد العسكري المباشر، ما يضع مستقبل هذا المقترح أمام اختبار سياسي ودبلوماسي معقد.
الدول المترددةويبدو أن بعض الدول الأوروبية تتجه نحو تأييد المبادرة الفرنسية-البريطانية، لكنها لم تحسم موقفها بعد بشأن مسألة نشر جنود على الأرض في أوكرانيا.
ففي البرتغال، تعهدت الحكومة بدعم الخطة التي ستضعها لندن وباريس، لكنها ترى أن الحديث عن إرسال قوات إلى أوكرانيا في إطار عملية حفظ السلام لا يزال سابقًا لأوانه. وأكد الرئيس مارسيلو ريبيلو دي سوزا أن أي قرار يتعلق بنشر قوات برتغالية يجب أن يُعرض على المجلس الأعلى للدفاع الوطني، المقرر اجتماعه في 17 مارس للنظر في الأمر.
أما في هولندا، فقد أوضح رئيس الوزراء ديك شوف أن بلاده لم تقدم أي التزامات ملموسة بعد، لكنه أكد انضمام هولندا إلى الجهود العسكريةالفرنسية-البريطانية للمساهمة في وضع حلول ممكنة.
بدورها، قد تنضم إسبانيا إلى المبادرة في مرحلة لاحقة، إذ صرّح وزير الخارجية خوسيه مانويل ألباريس أن مدريد "ليس لديها مشكلة" في إرسال قوات إلى الخارج، لكنه شدد على أن التركيز الحالي بشأن أوكرانيا لا يزال سياسيًا ودبلوماسيًا بالدرجة الأولى. ومع ذلك، يبدو أن الرأي العام الإسباني يدعم هذا التوجه، حيث أظهر استطلاع للرأي أجرته قناة "لا سيكستا" أن 81.7% من الإسبان يؤيدون نشر قوات لحفظ السلام في أوكرانيا.
إيطاليا وبولندا: المتشككونرئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني تُعد من أكثر القادة الأوروبيين تحفظًا بشأن فكرة نشر قوات أوروبية في أوكرانيا، حيث وصفتها بعد اجتماع لندن بأنها "حل معقد للغاية وربما أقل حسمًا من الخيارات الأخرى". وأكدت في تصريحاتها أن إرسال قوات إيطالية لم يكن مطروحًا على جدول الأعمال في هذه المرحلة.
وترى ميلوني أن أفضل ضمان أمني لأوكرانيا يكمن في تفعيل المادة 5 من ميثاق الناتو، التي تلزم جميع أعضاء الحلف بالدفاع عن أي دولة عضو تتعرض لهجوم. ومع ذلك، يظل تطبيق هذه المادة غير واضح في ظل عدم عضوية أوكرانيا في الحلف، مما يجعل مقترح ميلوني غير محدد المعالم في الوقت الحالي.
Relatedردًّا على ترامب وبوتين: الدنمارك تُطلق صفقة تسليح ضخمة بـ6.7 مليار يوروفون دير لاين تدعو لتسليح أوكرانيا "بسرعة" حتى لا تصبح لقمة سائغة في فم روسياقمة أوروبية تناقش تعزيز تسليح أوكرانيا والحرب في غزةأما في بولندا، أحد أبرز داعمي أوكرانيا منذ بداية الحرب، فلا يزال الموقف حاسمًا برفض إرسال قوات بولندية إلى الأراضي الأوكرانية. وأوضح رئيس الوزراء دونالد توسك أن بلاده تحملت بالفعل عبئًا كبيرًا باستقبال نحو مليوني لاجئ أوكراني خلال الأسابيع الأولى من الحرب، مما يجعلها غير مستعدة للانخراط عسكريًا بشكلٍ مباشر.
وبينما تبدو وارسو مستعدة لتقديم الدعم اللوجستي والسياسي، إلا أنها لا تعتزم نشر قوات على الأرض، ما يعكس الانقسامات داخل أوروبا بشأن هذا الخيار العسكري الحساس.
المجر وسلوفاكيا، غير مستعدتين على الإطلاق للقيام بذلكتتخذ كل من المجر وسلوفاكيا موقفًا أكثر انتقادًا للدعم العسكري الذي يقدمه الاتحاد الأوروبي لأوكرانيا، إذ تدفعان باتجاه فتح حوارٍ مع روسيا لإنهاء الحرب بدلاً من تصعيد المواجهة العسكرية.
وهاجم رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان القادة الأوروبيين المجتمعين في لندن، متهمًا إياهم بالسعي إلى "مواصلة الحرب بدلاً من اختيار السلام"، في إشارة واضحة إلى رفضه لاستراتيجية الدعم العسكري المستمر لكييف.
من جانبه، أعرب رئيس وزراء سلوفاكيا عن تحفظه الشديد تجاه مبدأ "السلام من خلال القوة"، معتبرًا أنه مجرد مبرر لاستمرار الحرب في أوكرانيا بدلًا من البحث عن حلول دبلوماسية حقيقية.
وبناءً على هذه المواقف، يُستبعد تمامًا أن تنضم بودابست وبراتيسلافا إلى أي مبادرة لنشر قوات أوروبية، إذ ترفض حكومتا البلدين بشكلٍ قاطعٍ الانخراط العسكري المباشر في النزاع الأوكراني.
موقف برلينتتوجه الأنظار الآن إلى ألمانيا، حيث يجري تشكيل حكومة جديدة برئاسة المسيحي الديمقراطي فريدريش ميرتس.
وقد استبعد المستشار الألماني الحالي أولاف شولتز إرسال قوات ألمانية إلى أوكرانيا، على الرغم من أن وزير دفاعه بوريس بيستوريوس ألمح إلى إمكانية نشر قوات حفظ السلام في منطقة منزوعة السلاح، في حال وقف إطلاق النار.
إلا أن هذا الموقف قد يتغير، حتى وإن كان من الصعب إقناع الرأي العام المحلي بقرار نشر الجنود الألمان في أوكرانيا.
Go to accessibility shortcutsشارك هذا المقالمحادثة مواضيع إضافية من محام إلى مستشار.. شتوكر يتولى رئاسة الحكومة النمساوية الجديدة بعد مشادة البيت الأبيض.. زيلينسكي: مستعدون لتوقيع اتفاق المعادن ستارمر: لندن وباريس تعملان على خطة لوقف الحرب في أوكرانيا سيتم طرحها على ترامب الغزو الروسي لأوكرانياالمملكة المتحدةالاتحاد الأوروبيقوات عسكرية