الدولة العميقة في سوريا.. حقيقة أم مبالغة؟
تاريخ النشر: 1st, January 2025 GMT
في مقابلة مع The Hill أُجريت عام 2017 قبل عدة أسابيع من تنصيب ترامب، وصف زعيم الديمقراطيين في مجلس الشيوخ ـ آنذاك ـ تشاك شومر ترامب بأنه "غبيٌ حقًا" لانتقاده المتكرر لوكالة المخابرات المركزية، قائلًا: "اسمح لي أن أخبرك، عندما تهاجم مجتمع الاستخبارات، لديهم ست طرق للانتقام منك". واعتبر العديد من المعلقين، وكذلك اتحاد الحريات المدنية الأميركية هذا البيان دليلًا على وجود ما يسمّى بـ"دولة عميقة".
ويعتقد على نطاق واسع، أن مصطلح "الدولة العميقة"، صاغته تجربة الصراعات السياسية على السلطة بتركيا، في تسعينيات القرن العشرين، ولكن بدأ استخدامه للإشارة إلى "الحكومة الموازية" في الخبرة الأميركية، بما في ذلك أثناء تجربة أوباما.
بيد أن تقارير صحفية أميركية تواترت على أنّ لهذا المصطلح سوابق تعود إلى خمسينيات القرن العشرين على الأقل، بما في ذلك مفهوم المجمع الصناعي العسكري الذي يفترض وجود عصابة من الجنرالات ومقاولي الدفاع الذين ينتفخون ثراءً من خلال دفع البلاد إلى حروب لا نهاية لها.
وتشير استطلاعات الرأي التي أجرتها أيه بي سي نيوز عام 2017، وشبكة سي إن إن عام 2018 إلى أن ما يقرب من نصف الأميركيين يؤمنون بوجود دولة عميقة في الولايات المتحدة.
إعلانووَفقًا لنظرية المؤامرة السياسية الأميركية، فإن الدولة العميقة هي شبكة سرية من أعضاء الحكومة الفدرالية (خاصة داخل مكتب التحقيقات الفدرالي ووكالة المخابرات المركزية)، يعملون بالاشتراك مع كيانات وزعماء ماليين وصناعيين رفيعي المستوى، لممارسة السلطة جنبًا إلى جنب مع أو داخل حكومة الولايات المتحدة المنتخبة، وذلك بحسب إفادة الصحفي الأميركي أوسنوس إيفان في النيويوركر.
ويصف الناشط الأميركي في مجال حقوق الإنسان جون إيبنر الدولة العميقة بأنها " عالم سفلي غامض حيث تعمل عناصر قوية داخل الدولة، وخاصة الأجهزة العسكرية والأمنية، بالاشتراك مع جماعات متطرفة عنيفة.. فضلًا عن العالم السفلي الإجرامي غير السياسي، للقيام بعمليات خاصة غير قانونية لصالح النخبة الحاكمة في البلاد.
وفي منطقة الشرق الأوسط، ولعقود من الزمن، كان مصطلح "الدولة العميقة" يُطلق على تركيا على وجه التحديد، وكان ذلك إشارة إلى الجيش التركي وجهوده لإبطاء انتشار الديمقراطية هناك، كما استخدم لاحقًا في دول الربيع العربي، إذ يُعتقد أن تحالف القوى الأمنية والمؤسسات الخشنة، استعاد السلطة، بعد أن كادت أقرب ما تكون إلى يد المناضلين السياسيين من أجل الديمقراطية.
في السياق، فإن ثمة مخاوف مشروعة تستدعي، تجارب دول الربيع، كلما تطرق الحديث إلى سوريا بعد هروب الأسد، وما إذا كان "العالم السفلي/الدولة العميقة" التي ظلت العائلة الحاكمة، تؤسس لها وتتضخم مثل الورم في كل مفاصل الدولة الأسدية لما يزيد على خمسة عقود ـ وهي مدة "مخيفة" ـ قد تنتهي بمقاربة تستبعد الاستسلام السهل للواقع السوري الجديد.
عندما نقول إن التجربة السورية تختلف، فإن ذلك ليس من قبيل الادعاء الذي يتكئ إلى العواطف وليس إلى الحقائق على الأرض: فلا توجد بين الدول العربية التي انتصرت فيها ما تسمى بـ"الثورات المضادة"، أية تجربة تعدل الخبرة السورية وعمرها النضالي، ففي الأولى لم يتجاوز عمر الانتفاضات بضعة أيام، وفي الثانية "سوريا" تجاوز اثني عشر عامًا أو يزيد، والفارق في الفواتير المسددة عنفًا ودمًا وخبرة، يضع الأخيرة "السورية" في منزلة أعلى من مراتب "الحكمة" من فنون إدارة التناقضات، وإعادة ترتيب ما تخلفه الفوضى المتوقعة من أزمات.
إعلانلم يكن مفاجئًا، الانهيار السريع لكل مكونات الدولة العميقة المفترضة في سوريا ـ الجيش والأجهزة الأمنية ـ خلال عشرة أيام فقط، فكل تلك العناصر من مؤسسات خشنة، بكل تاريخها من الوحشية والتفسخ وغياب الانضباط، كانت منهكة وفاسدة، وتحولت إلى قوة كسولة واتكالية، تعتمد على البديل الأجنبي: روسيا وإيران وحزب الله والمليشيات الشيعية التي تدفقت إلى سوريا.
ومع الوقت وبالتراكم باتت محض هياكل شكلية خالية من أي معنى رسالي من معاني الدولة. وليس بوسعها بعد انهيار المؤسسات وتبخرها في ساعات، أن تنتظم كقوة خفية موازية تشاغب السلطة الجديدة المنتصرة في دمشق.
في المقابل، فإنه منذ التجميد النسبي للقتال النشط في عام 2020، كان لدى هيئة تحرير الشام والجيش الوطني السوري ـ المرتبط بالحكومة السورية المؤقتة وتركيا ـ والقوات التي يقودها الأكراد في شمال شرق سوريا الوقت الكافي للتعلم وتعزيز صفوفهم.
لقد أمضوا السنوات القليلة الماضية في تدريب وإعداد قواتهم المسلحة، كما طوروا أنظمة حكم معقدة قادرة على تلبية احتياجات الملايين من الناس.
وفي مختلف أنحاء شمال سوريا، أقامت هذه الجماعات المعارضة وأجنحتها السياسية دولة في انتظارها، تضم وزارات للاقتصاد والتجارة والتعليم والشؤون الإنسانية، كما أنشأت الجماعات أنظمة تسجيل مدنية وأراضٍ خاصة بها، وهو الأمر الذي يعتبر عادة من اختصاص الدول المعترف بها فقط.
كان يوجد بحوزة قوى الثورة ـ إذن ـ مشروع دولة جاهز، لملء الفراغ المتوقع في المدن التي حُررت تباعًا، فإذا كانت الحاضنة الأمنية والعسكرية الوحشية للأسد قد انهارت بشكل مذل وفاضح ومخزٍ، فإن "سوريا ـ الدولة" لم تسقط لوجود بديل مكتمل وناضج تقريبًا، بكل حمولته الأخلاقية والإنسانية "الحانية"، كما يبدو لنا حتى الآن على الأقل.
كما أن وجود "إسناد إقليمي" له وزنه وهيبته ـ مثل تركيا ـ للنسخة السورية الجديدة، لا يمكن حذفه من أي تنظير يستشرف مستقبل أي وجود محتمل لـ "الدولة العميقة". فتركيا ـ القوة الإقليمية العظمى في المنطقة ـ يقتضي أمنها القومي إنهاء حكم عائلة الأسد بكل تجلياته اللاحقة على انهياره، بشكل لا يقبل الترميم أو إعادة التدوير والتجميل أو العمل من خلال عُلب الليل السرية.
إعلانالدولة العميقة، لها شروطها ـ أن تظل المؤسسات القديمة بكل حمولتها من شبكات الفساد قائمة ـ والثورة السورية، تُعيد هندسة المشهد على نظافة ـ كما يقولون ـ وعلى النحو الذي يضيق المساحات على "الفلول" المشغولة الآن بالبحث عن الخروج الآمن من التصفية، أو الملاحقات القضائية المتوقعة: العفو أو العقاب.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الدولة العمیقة
إقرأ أيضاً:
محلل يتحدث عن الفراغ الأمني في سوريا وما تخشاه الولايات المتحدة
قال تيم ليستر، المحلل في شبكة "سي إن إن" الأمريكية، في تحليله الأخير، إن تنظيم الدولة الإسلامية الذي كان قد سيطر على أجزاء كبيرة من سوريا والعراق في وقت سابق، لا يزال يشكل تهديدا مقلقا رغم تراجع الخلافة التي أعلنها التنظيم لنفسه، لافتا إلى مخاوف الولايات المتحدة من الفراغ الأمني في سوريا.
وأضاف ليستر أن تنظيم الدولة الإسلامية لم يعد كيانا موحدا ومرتبطا كما كان في الماضي، بل أصبح شبكة غير مركزية تتوزع خلاياها على أكثر من 12 دولة حول العالم. ورغم هذا التوزع، لا يزال التنظيم يحظى بقدرة كبيرة على التحفيز والدعم لعدد من الخلايا النائمة في أوروبا وروسيا، والتي قد تشن "هجمات إرهابية" مدمرة في أي وقت.
وأشار ليستر إلى الهجوم الذي وقع في موسكو في آذار /مارس 2024 والذي تبناه تنظيم الدولة الإسلامية، حيث أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 150 شخصًا وإصابة أكثر من 500 آخرين.
بحسب المحلل، فإن هذا الهجوم أعاد التنظيم إلى دائرة الضوء، وأكد على قدرته على تنفيذ عمليات عالية التأثير في مدن كبيرة، رغم تراجعه الميداني.
وأوضح المحلل أن تنظيم الدولة الإسلامية أصبح أكثر اعتمادا على تحفيز الهجمات التي يُنفذها أفراد متطرفون، بدلا من الاعتماد على هجمات منسقة وكبيرة كما كان الحال في ذروة قوته.
وفي هذا السياق، أشارت مساعدة العميل الخاص في مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي، أليثيا دنكان، إلى أن المشتبه به في هجوم نيو أورليانز كان قد نشر مقاطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي، قبل الهجوم مباشرة، تُظهر تأثره بمنظومة تنظيم الدولة الإسلامية.
واعتبر الكاتب أن هذا الحادث مثالا آخر على تهديد "الذئب المنفرد"، وهو أحد أساليب الهجوم التي تبناها تنظيم الدولة في السنوات الأخيرة، حيث يقوم الأفراد الذين استلهموا أيديولوجيته بتنفيذ هجمات منخفضة التقنية، مثل الطعن أو الدهس بالسيارات، وهي أساليب يصعب اكتشافها أو التصدي لها.
وكان قد تم تنفيذ مثل هذه الهجمات في عدة مدن حول العالم، مثل نيس وبرشلونة وبرلين ونيويورك، ما أسفر عن مقتل أكثر من 100 شخص، وفقا لما أورده التحليل.
وأشار ليستر أيضا إلى التحولات التي تشهدها المنطقة، حيث يرى المحللون أن الهجمات التي شنتها "الجماعات الإرهابية"، وعلى رأسها تنظيم الدولة، قد تزايدت بعد بدء العدوان الإسرائيلي على غزة في أكتوبر 2023.
وأوضح أن تنظيم الدولة دعا بشكل علني في عدة مناسبات إلى استهداف اليهود والمسيحيين، بالإضافة إلى حلفائهم من "المجرمين"، في خطوة تهدف إلى إشعال المزيد من الاضطرابات في الغرب.
لكن التهديد الأكبر الذي يواجهه العالم حاليًا يتمثل في الفراغ الأمني الذي تعاني منه سوريا بعد سنوات من الحرب والدمار، وهو ما يُشكل مصدر قلق كبير للولايات المتحدة والدول الغربية، وفقا للتحليل.
وأشار الكاتب إلى أنه بعد الانتصارات العسكرية ضد تنظيم الدولة في العراق وسوريا، يرى المسؤولون الأمريكيون أن هناك خطرا حقيقيا من أن يؤدي هذا الفراغ إلى إعادة التنظيم وتجميع صفوفه مجددا، خاصة مع تزايد الهجمات في سوريا التي بلغت أرقاما قياسية في عام 2024.
وقال الجنرال إريك كوريلا، قائد القيادة المركزية الأمريكية، في وقت سابق من هذا العام إن تنظيم الدولة يمكن أن يستفيد من الوضع الأمني المتدهور في سوريا، مما يُتيح له فرصًا للانتشار والتوسع.
وأكد كوريلا في تصريحاته أن الولايات المتحدة لن تسمح لتنظيم الدولة بإعادة تشكيل صفوفه والاستفادة من الفوضى في سوريا. ومع ذلك، فإن المعطيات على الأرض تشير إلى أن الهجمات الإرهابية في سوريا تضاعفت ثلاث مرات في عام 2024 مقارنة بالعام السابق.
وقدرت تقارير محللين في مركز "صوفان" غير الربحي أن الهجمات التي شنها تنظيم الدولة في سوريا قد زادت بشكل ملحوظ من حيث تطور العمليات واتساع نطاقها الجغرافي.
وفي ظل هذه الظروف، يعرب المسؤولون الأمريكيون عن قلقهم بشأن احتمال فرار أكثر من 8000 من عناصر التنظيم المحتجزين في سوريا، خاصة بعد تزايد الضغوط على القوات الكردية التي كانت تراقب وتؤمن السجون التي تحتجز فيها هذه العناصر، على حد قول الكاتب.
وحذر كوريلا من أن بعض مقاتلي التنظيم قد يتمكنون من الهروب، مما يشكل تهديدا كبيرا ليس فقط لسوريا ولكن أيضا للدول المجاورة مثل تركيا، وحتى لأوروبا الغربية.
وأشار ليستر إلى أن تنظيم الدولة في فرعه في خراسان، المتمركز في أفغانستان، قد وسع نطاق عملياتها في السنوات الأخيرة ليشمل دولًا مثل روسيا وألمانيا، مما يعكس الطموحات العالمية لهذا التنظيم.
وأوضح أن تنظيم الدولة في خراسان، الذي استفاد من التوترات السياسية والصراعات في آسيا الوسطى، أصبح أكثر عدوانية في محاولة لتوسيع نفوذه، وقد تم الكشف عن مؤامرات في عدة دول أوروبية في السنوات الأخيرة، بما في ذلك ألمانيا وسويسرا.
في الختام، أكد المحلل تيم ليستر أن القلق الأمريكي بشأن التهديد المستمر من تنظيم الدولة لا يقتصر على سوريا فقط، بل يمتد إلى جميع المناطق التي يظل التنظيم نشطا فيها.
كما أن الصورة التي يسعى التنظيم لتقديمها كمنظمة قادرة على تنفيذ هجمات على مستوى عالمي لا تزال تروج وتدعم شبكاته في جميع أنحاء العالم، ما يفرض تحديات كبيرة على الأمن العالمي، حسب ليستر.