يُقصد بذلك العنوان أن فعل المقاومة لا يقتصر على فعل بعينه، بل هو منظومة من المعارك التي تؤكد على تعدد أشكالها وأساليبها وطرائقها؛ بما يؤكد حركة الأمة الفاعلة التي يتشارك فيها الجميع ليضطلع بدوره في تلك المقاومة الحضارية الشاملة والمتكاملة. صحيح أن معارك المقاومة يقع على رأسها معارك الجهاد والقتال في الميدان؛ إلا أنها في ذات الوقت تجد دعما ومساندة من معارك أخرى؛ لتقدم مع منظومة المعارك تلك أقصى فاعلية ممكنة على مستوى الأمة: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ" (العنكبوت: 69).



الأولى: معركة التحرير من أجل التغيير؛ فلم تكن الحالة السورية التي كانت صفحة أخرى مباركة بعد طوفان الأقصى بعيدة أبدا عن المعاني التي نؤكد عليها في قاموس المقاومة. فبعد أن حدثت معركة الطوفان الكبرى كان من المهم أن نطلق شعارا "من طوفان الأقصى إلى طوفان الأمة"، للتأكيد على أن مسيرة المقاومة الحضارية الشاملة ليست مجرد أحداث نتفاعل معها أو ننفعل بها. ومن منن الله سبحانه علينا أن يواتينا كما أكدنا بأيام الله الكاشفة والفارقة التي تتحول بدورها الى لحظات فرقانية في مسيرة النهوض في الأمة التي تتطلب عملا جادا ورصينا؛ فإن الله سبحانه لا يواتي الناس بالمنن إلا إذا عملوا بالسنن: "وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّة وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ" (القصص: 5). فإذا كانت صفحة طوفان الأقصى في مواجهة العدو والعدوان؛ فإن صفحة الثورة السورية في طبعتها الثانية هي في مواجهة الاستبداد والطغيان، ومواجهة هذا وذاك -أي العدوان والطغيان- ساقان في المقاومة الحضارية الشاملة.

الثانية: معركة الذاكرة؛ إذ يخوض الشعب الفلسطيني حرب وجود، وفيها تعدّ معركة الذاكرة من أهم المعارك التي خاضها هذا الشعب بجدارةٍ لمواجهة حرب التهويد التي فُرضت عليه، منذ النكبة التي ابتُليت بها بلاده سنة 1948. ولعل مقولة "الكبار سيموتون والصغار سينسون" التي أطلقها أول رئيس وزراء إسرائيلي، بن غوريون، من أكثر المقولات استفزازا وتحدّيا لأبناء الشعب الفلسطيني. غير أنها أدخلت اليقظة إلى ذاكرة الفلسطينيين، من أجل عدم نسيان أرضهم المسروقة، وتاريخهم الذي يحاول الإسرائيليون طمسه.

وبرزت إرادة الحفاظ على الذاكرة لتعيد التذكير بأن الصراع التاريخي في المنطقة لم يتغيَّر، وما تزال قضية فلسطين بؤرته. إن معركة الجيل إنما ترتبط بمعركة الأجيال لمواجهة العدو وتنشيط ذاكرة كل جيل من خلال خيار المدافعة والمقاومة والتعرف على طبيعة الصراع المصيري والحضاري مع الكيان الصهيوني، كما أن الطاقة الحضارية الفعالة إنما ترتبط بجيل الشباب وتنشئته على فكرة المقاومة ونفسية الجهاد؛ فيكون ذلك ميراثا يسلم من جيل الى جيل لتضمن استمرارية الذاكرة وذكر مستدام وتوصل الأجيال في حمل أمانة المقاومة والكرامة.

الثالثة: معركة الهوية في قلب الذاكرة؛ فإن المعركة التي يديرها الخصوم معركة تغييب الهوية وطمسها وتزييفها؛ هذا التاريخ الذي استطاع فيه الغرب صناعة هويات جديدة لشعوب الشرق، وفرض عليهم حكاما اعتنقوا هذه القناعات.. فما كان التاريخ هو نفسه تاريخ الهزائم والنكبات والضياع الكبير؛ معركة الهوية أعادت المعركة القائمة في بلادنا إلى حقيقتها، إنها تحاول إزالة هذه الهويات المصطنعة المزيفة التي صُبِغنا بها قهرا، بيد الاحتلال وأذنابه.

الرابعة: معركة المعنى والمغزى والمفاهيم؛ يؤكد مصطفى صادق الرافعي في "وَحْي القلم" أن الكلمات كالحياض وكالجيوش، وجب الدفاع عنها، كالأرض والعرض؛ لأنها تنتهك في حرماتها، وتدنس في معانيها. وتحرير الكلمات المغتصبة، والتنبه إلى الكلمات المسمومة، والتعرف على أضرارها، والكلمات الملغومة، فنحذر من آثارها. ويحتاج ذلك منا رفع الظلم عن الكلمات المظلومة، ورفع الستر والنقاب عن الكلمات الظالمة التي تغسل الأمخاخ جماعيّا، وتستوطن العقول، فتجعلها مؤجرة، أو مفروشة لحساب ثقافة غير ثقافتنا. انتهاك حرمة معاني الكلمات لا تأتي فقط من معتدٍ من خارجٍ، يحاول أن ينحرف بالمعاني، ويدلس على الدلالات، فتصير الكلمات لا تدل أو ترشد، بل قد تأتي من داخلٍ تهون فيه الكلمات وتُهان، فأين نحن من كلمات الكرامة وعقلية العزة ونفسية الأحرار؟ أين مقامنا من كلماتنا، ومقام كلماتنا فينا؟‍ إن مواجهة ومقاومة مفاهيم العدو لمعركة كبري ومركزية في المقاومة الحضارية الشاملة.

الخامسة: معركة الوعي الجمعي والوعي الاستراتيجي؛ إن الفعل الاستراتيجي عمل يبدأ تأسيسه من الآن على طريق التفعيل والفاعلية؛ وأول درجاته صناعة الوعي الآني بالحال في سياق بناء الوعي الجمعي بكل مستوياته وتكويناته والوعي الاستراتيجي باستشراف المستقبل واعتبار المآل، حتى يمكننا أن نحدث التغيير القادم ليكون في مصلحتنا وحتى يرتاد كافة المجالات الحيوية للحركة والفاعلية.

وفي هذا التغيير الذي اجتمعت فيه تلك القوى والذي أشرنا إلى أن بعض آثاره قد تكون علينا وليست لنا، فإن الأمر يتطلب منا العمل في عدة محاور: الأول الوعي بالتحديات واستثمار الفرص الكامنة فيها؛ أما الثاني فإنه يتعلق بالحفاظ على الخمائر، خمائر العزة والكرامة والمقاومة، أما الثالث فيتعلق بتقليل الخسائر، ونفتح الطريق لصناعة كل عناصر الإرادة والقوة امتثالا للنداء القرآني "وأعدو" في إطار يسمح بالحفاظ على تلك القوى ضمن معركة المصير والتغيير الكبير. هذه المحاور تحتاج إلى تخطيط استراتيجيات ورسم خطط وتقديم آليات ضمن المقدمات لمعركة التغيير الاستراتيجي الكبير القادم، والذي وجب الاستعداد له في كل المجالات وعلى كل المستويات.

السادسة: معركة الإرادة؛ أثبتت الكيان الصهيوني وداعموه الغربيون على مدى أيام الطوفان أن هدفهم النهائي ليس حماس ولا جماعات المقاومة، بل الإرادة الفلسطينية لمقاومة الاحتلال والاستعباد. تشير تصرفات إسرائيل إلى أن هدفها الحقيقي هو إنهاء التطلعات الفلسطينية لتقرير المصير، لذا فقد انصبّ جهدها على الإنسان والمجتمع والحجر. كانت الإبادة والتهجير والتجويع مهلكات الإنسان الثلاث، أما المجتمع فقد تم القضاء على كل مؤسساته التعليمية؛ والصحية؛ والاقتصادية؛ والدينية، ومعركة الإرادة والوعي بها هي أهم معارك التحرير والمقاومة.

السابعة: معركة الموقف والخيار الاستراتيجي؛ من الأهمية بمكان أن نحمل مشروعا استراتيجيا، يحدد المواقف بوعي والخيارات الاستراتيجية بدقة للأمة، وحتى يتحقق ذلك فالأمر يتطلب عقلا استراتيجيا للأمة، وآن الأوان أن نؤكد على أهميته، ليفكر بحجم الإشكالات والتحديات، وبحجم المتطلبات والاستجابات. يستند هذا العقل الاستراتيجي، في جوهره، إلى قاعدة تتعلق بالتيار الأساسي في الأمة، فيحسن هذا العقل إدارة الصراع، وإدارة الأزمات، وإدارة الفرصة، ما يؤسس لعمل القوى الفاعلة في حركة التغيير، وتحديد كل المجالات الحيوية في مجالات الحركة ومساحات الفاعلية في إطار الصناعة الاستراتيجية.

الثامنة: معركة الرمزية والرموز؛ يتّخذ الكيان الصهيوني، بعد كل فترة، مواقف وقرارات تحاول، بشكل أو بآخر، أن تهدم كل معنى يتعلق بذاكرة المكان، وتهدم كل الرموز التي تشكل جزءا من ثقافة الأمة وهويتها، والتي تتمثل في رمزية الصراع الذي يتمثل في القدس والأقصى. إنها معارك العدو التي يخوضها بلا هوادة، معركة الذاكرة حين يطمسها، ومعركة المعاني حين يزيّفها، ومعركة الرموز حين يحاول محاصرتها وتطويقها، إنه الحصار يقوم به الكيان الصهيوني لكل صوتٍ مسموع، يؤشر على الحضور والوجود.

من المهم، في هذا المقام، أن نتحدّث عن قدرات الرموز وعالمها في تشكيل وعي الناس، وفي محاولات العدوّ لطمس كل ما يعلن عن الوجود والحضور الفاعل الذي لا يمكنه، بأي حال، أن يكبته أو ينقضه. يشن الكيان الصهيوني، المرة تلو المرة، حروبا معنوية يقصد منها هزيمة النفوس، والشعب الفلسطيني، حينما يعبر عن كيانه ومقامه ومقاومته، يحاول، في كل مرة، أن يصعّد من مشاهد الطغيان، وأن يهزم حالة المقاومة والتعبير عن الوجود في كل آن، وعلى امتداد المكان.

التاسعة: المعركة الحضارية الكونية؛ فالعالم، بشبابه ومسنّيه، لم ينسَ القضية الفلسطينية، إذ يمثل التضامن اللافت مع الشعب الفلسطيني أخيرا، والذي أسّست له حركة المقاطعة الدولية وسحب الاستثمارات، حالةٍ وجدانيةٍ تخاطب الضمير الإنساني وذاكرة الشعوب، لإبراز القضية ومنع العالم من نسيانها ونسيان ما اقترفته العصابات الإسرائيلية من جرائم عنصرية وتطهير عرقي لتهجير الشعب الفلسطيني. وجرى خلال حملات التضامن التأكيد على أن عمليات الإخلاء الحالية، وإقامة المستوطنات فوق أراضي الضفة الغربية، ما هي إلا ثمرة عمليات التهجير الأولى التي حدثت بعد النكبة سنة 1948، وخلالها. ولعل انتفاضة الجامعات الغربية في هذا المقام والتظاهرات الإنسانية العالمية الدافقة؛ تشكل معركة يجب التواصل معها والحفاظ على زخمها.

العاشرة: معركة التأسيس والبناء لعقل استراتيجي؛ إن هذه الأمة تحتاج إلى عقل استراتيجي يجمع بين الإرادة والإدارة وإعداد العدة، بل عقول في كل مجال؛ تتعرف على حجم الاشكالات وتبصر كافة التحديات، وكذلك عليها أن تتعرف على مساحة المتطلبات وقدرات الاستجابات، إلا أن الحاضنة المهمة التي تشكل سندا لهذا العقل الاستراتيجي إنما تتعلق بالتيار الرئيسي للأمة الذي يُحسن إدارة الصراع والقدرة التدافعية وإدارة الأزمات وإدارة الفرصة، مما يؤسس المعنى الذي يتعلق بساحات الحركة وإمكانات التغيير وأصول الفاعلية في هذا السياق. وجب علينا أن نشير إلى ما يحيط بهذه الأمة من مخاطر وما يتولد من جوفها من فرص "عقل استراتيجي حضاري شوري مقاوم".

تلك عشرة كاملة من معارك الأمة الجامعة على طريق المقاومة الحضارية الجامعة.

x.com/Saif_abdelfatah

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه المقاومة الاستبداد الفلسطيني الاحتلال الطغيان سوريا احتلال فلسطين مقاومة استبداد مقالات مقالات مقالات سياسة اقتصاد سياسة صحافة سياسة من هنا وهناك اقتصاد سياسة صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الشعب الفلسطینی الکیان الصهیونی الذی ی فی هذا

إقرأ أيضاً:

فلسطين: الأطباء في غزة يخوضون معركة صعبة

أكد رياض منصور، مندوب فلسطين لدى الأمم المتحدة، أن الأطباء في غزة يخوضون معركة قاسية في ظل الظروف الصعبة، لكنهم يواصلون العمل بكل شجاعة رغم التحديات الكبيرة. 

وأوضح أن المجتمع الدولي لم يظهر الشجاعة نفسها التي يتحلى بها الكادر الطبي في غزة في مواجهة الوضع المتدهور.

وخلال كلمته في جلسة مجلس الأمن، أشار منصور إلى أن قوات الاحتلال اعتقلت العديد من الأطباء وعذبتهم في السجون، مشيرًا إلى وفاة بعضهم نتيجة التعذيب الوحشي. 

وقال إنه يجب ألا نعتاد على الجرائم المروعة التي يرتكبها الاحتلال ضد الفلسطينيين في غزة.

وأضاف منصور أن الاحتلال الإسرائيلي ليس لديه أي مبرر لارتكاب جرائم الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني، موضحًا أن إسرائيل تسعى إلى السيطرة على أكبر قدر ممكن من أراضي غزة، وتدمير أكبر عدد من السكان الفلسطينيين.

مقالات مشابهة

  • فلسطين: الأطباء في غزة يخوضون معركة صعبة
  • سوريا.. استمرار معارك قسد والفصائل الموالية لتركيا
  • "حفل زفاف مي فاروق ومحمد العمروسي يتصدر الترند: تامر حسين يهنئهما بأجمل الكلمات في ليلة العمر"
  • لا قيمة لصبر “إسرائيل” الاستراتيجي مع اليمن
  • المؤتمر: ارتفاع صادرات مصر من الصناعات الهندسية يحقق التنمية الاقتصادية الشاملة
  • من غزوة بدر إلى معركة الفتح الموعود.. جذور الموقف اليمني وأسبابه في نصرة القضية الفلسطينية
  • مصر تتسلم مليار يورو من الاتحاد الأوروبي
  • دعاء العام الجديد.. تعرف على أبرز الكلمات المأثورة والمستحبة
  • دراسة حديثة: التعلم الاستراتيجي يعزز تنافسية قطاع الاتصالات اليمنية