عام جديد جاء، يا رب بالخير لكل الطيبين المسالمين الذين لا يبغونها عوجًا، وبهذه المناسبة تحضرنى تلك القصة الحقيقية، أسوقها لكم مختصرة.
كم عشت يا ولدى من العمر؟ عشت ألف عام، أشعر كأنى عشت ألف عام مما يعدون من الألم والوجع وعمرى لم يتجاوز الخامسة والثلاثين، هكذا كانت إجابة أحدهم فى مناسبة مبهجة لعائلته، فيما قفز شاب آخر يبدو أنه أصغر ببضعة أعوام ليهتف قائلًا: أنا عمرى عشرة أعوام فقط، رغم أن المكتوب بالبطاقة سبعة وثلاثون عامًا، لكنى أشعر أنى ما زلت طفلًا بعد، ضحكت سيدة مليحة الوجه رسم الزمن خطوطه على وجهها برفق وقالت للشاب المرح: طول عمرك بتحب الضحك ومش بتشيل للدنيا هم طالع لأمك.
تحكى أمهما فى همس وهى تتصعب على حال ولدها الأصغر بأنها لم تفرق أبدًا بينهما فى التعامل والتربية ولا والدهما رحمة الله عليه، ولأن فارق العمر بينهما ليس كبيرًا كانت تشعر وكأنهما توأم، وحاولت كثيرًا أن تقنع ولدها الكئيب المتشائم أن الدنيا حلوة ولا تخلو من جمال رغم مشاقها ومتاعبها، وأن على الإنسان ألا يتوقف أمام الآلالم والأوجاع كثيرًا، بل يقفز فوقها ويساعد نفسه لتجاوزها، لأن الوقوف أمام الألم لتأمل تفاصيله يزيد من عمقه حتى يعشش فينا ويتغلغل لأعماقنا ويصبح جزءًا منا. تتنهد الأم فى حسرة وتقول: لقد أمرض ابنى نفسه، عاش فى دور المكتئب المريض النفسى دون أى سبب، وبالطبع ذهب لطبيب نفسى، وأصبح يتعاطى تلك الأقراص التى كتبها له الطبيب -سامحه الله- حتى صرت أخشى عليه من الإدمان لأنها أقراص مهدئة، وتضيف الأم والدموع تتردد بين مقلتيها: والله هو زى الفل وعنده حاجات كتير أفضل من أخيه الكبير ونفسى يتجوز وأشوف ولاده قبل ما أموت، بس رافض ومتمسك بدور المريض الحزين.
نعم سيدتى للأسف توجد تلك النوعية من البشر فى الحياة، لا يشعرون بقيمة النعم الإلهية التى بين أيديهم، حتى يحرمهم الله بالفعل من تلك النعم لأنهم غير شاكرين، لا يرون من أمور الدنيا إلا الجانب المظلم فيها، حتى تعتاد أعينهم البحث عن الظلام وتعمى فى النور، يشترطون على الله شروطًا مقابل حمده وشكره والشعور بالرضا والسعادة، والله سبحانه وتعالى أكبر وأجل من أن يشترط عليه العبد، فيسلط عليه نفسه لتهلكه، فلا يشعر هذا الإنسان براحة ولا سعادة ولا رضا، ويصبح جاذبًا لكل طاقة سلبية ومشاعر هدامة، الطاقة السلبية تهدم المناعة الطبيعية وتسبب الأمراض الفسيولوجية والنفسية، الطاقة السلبية تطرد البشر الطيبين المسالمين المحبين للحياة وتجذب النقيض من هؤلاء تمامًا، لتتسع دائرة الطاقة السلبية حوله وليشعر كل من يتعامل معه بالاختناق ورغبة الموت والكراهية لتفاصيل الحياة... وللحديث بقية.
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: مجرد رقم ١ فكرية أحمد القصة الحقيقية مختصرة
إقرأ أيضاً:
السوجرة قرية من وحي الخيال
قررنا أن نقضي يومنا بطريقة مختلفة، فاخترنا أن يكون الإفطار في مكان لا يشبه غيره، "قرية السوجرة"، تجربة تشعرك وكأنك على وشك الدخول إلى فصل من كتاب قديم، تحمله أوراقه عبق التاريخ، وتروي سطوره حكايات من زمن بعيد، وصلنا إلى القرية التي تقع بين جبلين، تمامًا كأنها مخبأة بعناية في حضن الطبيعة، وكأن الجبال تحرسها من عبث الزمن، السكون كان سيد المكان، لا صوت سوى همسات الريح التي تمر بخفة بين البيوت الحجرية، وكأنها تهمس لنا بقصص من عاشوا هنا قبل عشرات السنين، قرية السوجرة ليست كبقية القرى؛ فهي تعود بأصولها إلى أكثر من 500 عام، عاش فيها جدّان شقيقان، وأسّسا معًا نواة لحياة بسيطة جمعت حولها ست عائلات فقط، ورغم قلة عدد السكان، إلا أن الترابط والانسجام كانا واضحين في كل ركن، في كل حجر من جدران البيوت، وفي كل شجرة زُرعت بيدٍ محبة، ما أثار دهشتنا أن الحكومة لم تُجبر الأهالي على إخلاء القرية كما يحدث في بعض المناطق النائية، بل احترمت ارتباطهم بالمكان، وجلبت إليهم الخدمات الأساسية، حتى في الحالات الطارئة، لم يكن مستحيلًا الوصول إليهم، فكانت طائرات "الهليكوبتر" تُرسل عند الحاجة، وكأن السماء نفسها كانت مفتوحة لهم عند الضرورة.
تخيّل أن تعيش في قرية منعزلة عن العالم، وتضطر أن تمشي لأيام فقط لتصل إلى السوق الأقرب! هذا ما كان يفعله أهل السوجرة، كانوا يحملون معهم ما زرعته أيديهم من ثمار، ويتوجهون إلى سوق نزوى، في رحلة تستغرق ثلاثة أيام كاملة، يومًا ونصف اليوم ذهابًا، ويومًا ونصف اليوم عودة، يبيعون ثمارهم هناك، ويشترون ما يحتاجونه من طعام وبهارات وأساسيات حياتهم البسيطة، تخيّل كل تلك المسافة، كل ذاك الجهد، فقط لتأمين لقمة العيش، لكنه كان جزءًا من نمط حياة لا يعرف التذمر، بل تحكمه القناعة والرضا، أوقاتهم كانت تسير على إيقاع الطبيعة والعبادة، يصحون مع أذان الفجر، ويبدؤون يومهم مع شروق الشمس، ويخلدون إلى النوم بعد صلاة العشاء، حين يغمر الظلام القرية ويعود السكون ليحتضنها من جديد، لا ضوضاء، لا أضواء اصطناعية، فقط سكون يعلّق الزمن بين الجبلين.
البيوت هناك تُشبه القصص، صغيرة، حجرية، لكنها تحوي دفئًا لا يمكن أن تراه، بل تشعر به، ربما لأن كل جدار فيها شهد ضحكة، وكل زاوية فيها تحمل ذكرى، وكل ممر بين بيوتها ضم خطوات لأجيال مضت، السوجرة ليست مجرد قرية، بل فصل محفوظ من كتاب الهوية العُمانية، هي نموذج لحياة اتسمت بالبساطة، لكنها مشبعة بالقيمة، حياة لا تعرف الإسراف، ولا تلهث خلف التكنولوجيا، بل تسير على إيقاع الشمس والظل، الماء والتربة، الدعاء والكد، وأثناء جلوسنا هناك، وتناول الإفطار وسط هذا الهدوء الساحر، أحسسنا أننا لسنا مجرد زائرين، بل ضيوف على قصة أزلية، قصة لا تزال تُروى رغم أن معظم شخوصها قد غادروها وانتقلوا إلى مساحة مجاورة.
كان أكثر ما لفت انتباهنا في قرية السوجرة هو الانسجام العجيب بين الإنسان والمكان، كل شيء هناك يشعرك وكأن الطبيعة والناس اتفقوا على نوع من التعايش السلمي، لا اعتداء فيه ولا صخب، الأشجار تنمو بهدوء، والمياه تنساب في مجاريها القديمة، والبيوت لا تحاول أن تتجاوز حدود الأرض، بل تتماهى معها، بلون الحجر نفسه وروحه، بينما كنا نتجول في أزقة القرية، مررنا بآثار الدروب الترابية، ربما لأطفال عاشوا هنا قبل عشرات السنين، وربما لحمار يحمل على ظهره الحطب، أو لامرأة كانت عائدة من الحقول، كل شيء له ذاكرة، وله حكاية، حتى الجدران المتصدعة لم تكن مجرد حجارة متهالكة، بل صفحات صامتة من تاريخ عائلات عاشت، وفرحت، وبكت هنا.
سمعنا من أصحاب المكان الذين بقوا في المنطقة والذين كانوا يشرفون على النزل، أن الحياة في السوجرة لم تكن سهلة، لكنها كانت كريمة، كانوا يزرعون ما يأكلون، ويقتسمون ما يجنونه، فلا جوع يستفرد ببيت، ولا حاجة تُترك دون سند، القوة لم تكن في كثرة المال أو البنيان، بل في الترابط، في شعور كل فرد بأن القرية بأكملها تقف خلفه إن احتاج، حدثنا أحد المشرفين القائمين على النزل عن الشتاء هناك، حيث يلبس الضباب القرية بأكملها رداءً من الغموض، ويغلق الجبلان على قريتهما الصغيرة كما لو كانا يحميانها من العالم الخارجي، وفي الصيف، تتزين الحقول بالخضرة.
ما يجعل السوجرة مميزة ليس فقط قدمها أو مكانها، بل استمرارها، قرى كثيرة هُجرت، وبيوت كثيرة تُركت، لكن السوجرة لا تزال تحتفظ ببعض من نبضها، لا تزال تنبض بالقصة، وبالذكرى، وبالأمل، حيث قام أحفاد أولئك الأجداد بإعادة الحياة لها من جديد عبر ترميم المنازل القديمة وتحويلها إلى نُزل تراثية عن طريق شركاتهم العائلية التي تبنّت هذا الدور، لكونهم أحرص الناس على تراثهم، رحلتنا هذه لم تكن مجرد نزهة، بل كانت دعوة للتأمل، وتذكيرًا بأن البساطة ليست نقصًا، بل جمال من نوع مختلف، وفي زمن تتسارع فيه الحياة، وتتشابك فيه الشاشات والتطبيقات، هناك مكان ما بين جبلين، لا يزال يحتفظ بإيقاع الزمن الجميل، وغادرنا السوجرة، لكن بقيت أرواحنا هناك، تسرح بين جدرانها العتيقة، وتتنفس من سكونها الطاهر، وكأن القرية اختارت أن تُقيم فينا، لا أن نُقيم فيها، والذي لا شك فيه أنها الزيارة الأولى، ولكنها حتمًا ليست الأخيرة.