مدرين المكتومية
كثيرًا ما نقرأ عن معاني الفداء والتضحية؛ بل ينشأ الفرد منَّا في بيئته ومدرسته ومحيطه الاجتماعي على أهمية التحلي بالقيم والصفات النبيلة، لكن قلّما يُدرك المرء حقيقة هذه القيم، التي في أحيانٍ عدة لا تعدو كونها شعارات يتغنى بها البعض أو يُرددها آخرون، إلّا أن قلة قليلة هي التي تحظى بفرصة لتطبيق هذه القيم والمعاني الأصيلة في حياتها.
ومنذ أن أدركت هذه الحياة وتشكَّل وعيي المعرفي، وأنا أرى دائمًا أن شعوب العالم مُقسَّمة إلى صنفين، الأول: شعوب مناضلة تقدم الغالي والنفيس من أجل نيل حريتها وحماية كرامتها الوطنية، في مواجهة كل ظالم وغاصب للأرض. أما الصنف الثاني: فهي الشعوب التي حققت استقلالها وتعكف على خوض معركة البناء والنمو. ولا ينازعني شكٌ في أننا إذا ما أردنا أن نضرب أروع الأمثلة في الشعوب المُناضِلة، سيكون الشعب الفلسطيني الشقيق هو المضرب والمثل، هذا الشعب الذي يئن من مؤامرات دولية واحدة تلو الأخرى منذ أكثر من 76 عامًا، عاش خلالها أشد معاني الظلم وأقسى مشاعر الاضطهاد.
وعلى مدى أكثر من عام و3 أشهر، يتجرع الشعب الفلسطيني في قطاع غزة أصعب الآلام، في ظل حرب الإبادة التي تشنها قوات الاحتلال الإسرائيلي الإجرامية، وسط صمت مُخزٍ في كل أنحاء العالم، بينما هذا الشعب الذي يقف وحيدًا في وجهة آلة القتل والدمار، يرسم كل دقيقة وكل ساعة وكل يوم، أسمى صور التضحية والفداء. وقبل أيام قليلة، شاهد العالم بأسره مدى الإجرام الإسرائيلي في استهداف مستشفى كمال عدوان بقطاع غزة، وكيف استبسلت الطواقم الطبية العاملة هناك في وجه القصف المدفعي والصاروخي الذي طال كل مترٍ في هذا المستشفى، وعلى رأس هؤلاء البواسل الطبيب الإنسان الدكتور حسام أبو صفية، ذلك المناضل الذي وقف في وجه العدوان بقوة وإرادة وإصرار على مداوة آلام المصابين بنيران الاحتلال الغاصب، أو المرضى. ضرب الدكتور حسام أبو صفية أروع الأمثلة في بذل الغالي والنفيس من أجل أن يحيا الإنسان الفلسطيني رافعًا رأسه، وقدم كل ما يستطيع تقديمه لكي يظل هذا المستشفى صرحًا شامخًا أمام بشاعة وإجرام العدو الصهيوني الخسيس.
لم يكن الدكتور حسام أبو صفية مجرد مدير لهذا المستشفى؛ بل كان الأب الروحي له، والحارس الأمين، والقائد الميداني لكتيبة الأطباء والمُمرضين، الذين لم يتوانوا لحظة عن تقديم الدعم والمساندة والعلاج لكل من يلجأ إلى المستشفى، سواء كان مريضًا أو مُصابًا أو حتى نازحًا يُريد أن يأمن نفسه من نيران الاحتلال الأعمى الذي لا يُفرِّق بين المدنيين وغيرهم.
الاحتلال الإسرائيلي يواصل بكل تبجُّح وحقارة استهداف الطواقم الطبية في قطاع غزة، ولا يتردد عن قصف المستشفيات والمراكز الصحية، في إطار مخططه الجُهنمي لتحويل قطاع غزة إلى منطقة غير قابلة للعيش، وإجبار أكثر من 2.2 مليون فلسطيني على التهجير القسري خارج وطنه، ليستكمل المؤامرة الساعية إلى التهام كامل الأرض الفلسطينية، وابتلاعها في جيوب استيطانية.
الصمود الأسطوري الذي يُظهره الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، تجسَّد في تلك الصورة الملحمية للدكتور حسام أبو صفية، بعدما سار على قدميه بكل جرأة مرتديًا المعطف الأبيض، نحو دبابة إسرائيلية، ليتم اعتقاله وأسره في موقع غير معلوم. صورة تناقلتها وسائل الإعلام حول العالم، لتؤكد للجميع أن هذا الاحتلال الإجرامي ليس سوى مجموعة من العصابات الوحشية، بينما الشعب الفلسطيني المُناضل، شعب مُحب للحياة، ومُتمسِّك بأرضه وتراب وطنه.
تحية صدق وإجلال للبطل الفلسطيني الدكتور حسام أبي صفية، أيقونة النضال الطبي في العالم، والذي يستحق أن ينال أسمى الجوائز تقديرًا لما قدّمه من خدمات إنسانية جليلة لبني وطنه في قطاع غزة.
*****
قبل الختام:
نبدأُ اليوم عامًا جديدًا، بعدما ودّعنا عامًا مضى، بكل ما فيه من انتصارات وعذابات وهزائم، ويحدونا الأمل في هذا العام الجديد 2025، ومع شروق شمس أول أيامه، أن ينعم العالم بالرخاء والاستقرار والأمان، وأن ينال الشعب الفلسطيني حريته المسلوبة منذ عقود.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
مناشدات للكشف عن مصير الدكتور المعتقل حسام أبو صفية
مناشدات للكشف عن مصير الدكتور المعتقل حسام أبو صفية