فـي مقالة سابقة، طرحت هنا سؤالا عن الكتابة والعلاج، لأصل فـي نهاية نصي إلى سؤال آخر: هل الأدب دواء وهمي؟ لو عدنا إلى الماضي، لوجدنا أنه كان هناك وقت نُظر فـيه إلى الكتّاب على أنهم أطباء، وكان الأطباء المتعلمون يبحثون فـي الأدب عن مفاتيح العيادة النفسية التي استعصت عليهم. لقد سبق هؤلاء الأطباء فرويد الذي شكك فـي التحيزات «المحلية» لمعاصريه، وفرض تساؤلات محددة على الأعراض النفسية وحتى الجسدية، وبصرف النظر عن الأسباب العضوية، كانت هناك، للمعاناة النفسية التي تثير الكائنات الناطقة، على وجه التحديد، أسباب نفسية أفلتت منها بينما كانت قابلة للاستكشاف.
«الفارماكون» (الدواء) الذي هو الكتابة ـــ وهذا هو كل غموضه ـــ لا يوجد خارج العلاقة التي يقيمها مع من يفك شفرته. معظم الناس، عندما يواجهون رسالة نصية، يجدون أنفسهم مثل الدجاجة أمام السكين. مفتونين. مغويين. معجبين. محظورين. هل أن النص، هنا، هو القناع أم الوحي؟ وممن، من القارئ أم من المؤلف؟ ومن ماذا؟ لماذا تبدو بعض الكتب «جيدة»؟ ولمن؟
دعونا نتحدث بدلاً من ذلك عن العلل التي يمكن أن تعالجها الكلمات، سواء المكتوبة أو المقروءة أو المعاد قراءتها. إنها لا تعد ولا تحصى: النسيان، الجهل، الحزن، التقصير، الغباء، العزلة، الشعور بالعبث، اليأس... وغيرها. ثمة شيء يمكن أن يكون له علاقة بنقص الوجود، والحاجة إلى المعنى، والرغبة. ونعتقد أن الكاتب يتقن اللغة. وهذا غير صحيح: إنه يبحث عنها. يستكشفها. يسكنها ليعيد اختراعها. فـي بعض الأحيان يتمكن من ابتزازها. من هذا العمل الفريد، الذي يستمده من العلاقة التي يحافظ عليها بنفسه مع هذه اللغة التي يشعر فـيها بأنه ولد من جديد، ربما يستفـيد القارئ، بطريقته الخاصة (الكلمة جميلة، إذا لم نختزلها إلى جانبها المالي، لأنه يقول «ما هو جيد»). هل سيكون للإبداع الأدبي آثارا معدية؟
إذا كان الإبداع هو بالفعل ما يسعى إليه كل إنسان، فـيجب علينا أن نتحدث عن الأدب، بمفهومه الواسع، باعتباره رعاية. من نواحٍ عديدة، سيكون هذا أمرًا مشروعًا. أكثر من واحد سيرى وجهة نظر ضيقة، يحلم بأدب متحرر من كل أشكال الاحتمالية والعدوى، ومع ذلك فإن كل الكتابة تأتي من البشر، لذلك يجب علينا أن «نستعملها»، أن «نفتح» الكلمات، أن «نجعل» النص أكمل لكسر الانقسامات التي تحصرها فئاتنا فـيها، أن نفتحها لمحاولة الاقتراب قدر الإمكان من الغموض الذي يجعلنا، نتحدث أو نكتب أو بشرًا أو إنسانيين جدًا أو غير إنسانيين أو مجانين أو عقلانيين، مغتربين أو واضحين، وحتى حالمين.
لنفتح قاموسًا ونرى: بين الاستخدام المبتذل والمسيء فـي كثير من الأحيان لكلمة «أدب» والمعاني المتعددة التي تحملها، سينفتح العالم. المجال واسع جدًا لدرجة أنه يحتاج فـي بعض الأحيان إلى وصفه. العقل البشري، ليجد طريقه، يقطع، يقسم، يصنف. أكان الأدب صينيا أو فرنسيا، عربيا أو فارسيا، ألمانيا أو إيطاليا، لا بدّ أن نجد فـي ذلك محورا أول. ثم هناك الشفهي والمكتوب. وأخيرًا العلمي، والتاريخي، والشعري، والمأساوي، وما إلى ذلك. من دون احتساب ما يعتبر «الكتب المقدسة».
فـي بعض الحضارات يجدون «حسنا، ولكن عندما نقول أدبا، فهذا ليس ما نتحدث عنه». لماذا؟ كيف للمؤرخ ألا يمارس الأدب أيضًا؟ ألا يشير ما أطلق عليه الناس فـي العصور الماضية «الإلهي» بكل بساطة إلى المعرفة والوعي الذي يتبع ذلك، والذي يلهم الخلق، والذي يقوم فـي حدّ ذاته على اكتشاف علاقات جديدة بين الأشياء، وعلاقات تبرز معنى جديدًا، أحيانًا؟ خاطئة، وذات صلة فـي بعض الأحيان؟ كيف يمكن لعالم يكتشف القوانين التي تحكم العالم الطبيعي وينقل تجاربه، وليس بطريقته الخاصة، أن ينتج الأدب بالمعنى النبيل؟ لنقرأ كلود برنار، لنقرأ فرويد (يخطران على بالي لأنهما من ضمن المنهج الذي أدرّسه لطلابي). أيّ من الكتّاب! وكم من المؤلفـين، ذوي العقول الصغيرة المنغلقة على عوالمهم الصغيرة، لا يضاهيهما! سنقول: العالِم يقول الواقع. حتى وإن كان كذلك. فـي بعض الأحيان، يتم تسليط الضوء على نقطة صغيرة من الواقع ــ هذا صحيح. إنها آلية غامضة، قانون لم يلحظه أحد، يصبح فجأة مفهومًا للعقل المتمرد، أكثر فضولًا وأكثر خيالًا من الآخرين، والذي يطرح أسئلة لا يطرحها أحد. هذا الشيء نادر بما يكفـي لكي نتذكره لفترة طويلة (ولكن هل سنتذكره من دون الكتابة؟)، من دون أن ننسى أن هذه الأرواح دائمًا ما تقف ضدها الغالبية العظمى من رجال عصرها. فـي الواقع، يكفـي دراسة تاريخ الأفكار العلمية لاكتشاف مدى مزج الباحثين فـي كتاباتهم بين الأفكار والحقائق الجديدة، والتحيزات الثقافـية والمعتقدات الأسطورية، والنظريات الخيالية والفطرة السليمة، والاختراعات والأسئلة المضيئة.
مهما يكن من أمر، لكي يفهم ما يفعله ويشارك الآخرين ما يكتشفه، يجب على المتمرد غير الخاضع لنظام عصره أن يكتب. هناك ضرورة فـي ذلك. ضرورة حميمة، غالبًا ما تفلت من مصادرها، أكانت اجتماعية، أم علمية أحيانًا. وذلك لأن الكتابة هي أيضًا مشرط، وأداة لفهم الذات والعالم، ولولادة الفكر الذي يتطور فـي النص وينتقل، والذي من دونه يبقى العالم مبهمًا كما فـي الأزمنة الأولى؛ ففكرة التقدم والمعرفة ستكون بالية. حتى الأرقام لا يمكنها الاستغناء عنها فـي الكتابة. لنضع جدولاً بسيطًا من الأشكال أمام أعين العديد من الأشخاص، وسيكون لدينا آلاف التفسيرات، من الأكثر جنونًا إلى الأكثر صرامة، وذلك لأنه لكي نفهم وندرك ما تقوله الأرقام، نحتاج أيضًا إلى فك رموزها، أن نفكر فـيها، أن ننتقدها، أن نحكم عليها. أن نسأل اللغة، علينا أن نواجه أنفسنا بالنصوص وبالآخرين، يبدو أن هذا الشيء لا يرضي الجميع.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فـی بعض الأحیان
إقرأ أيضاً:
قطر تصف استخدام الغذاء والدواء كسلاح ضد غزة بأنه وصمة عار عالمية
أكد وزير خارجية قطر محمد بن عبد الرحمن، أن استخدام الاحتلال الإسرائيلي للغذاء والدواء سلاحا في الحرب على قطاع غزة يمثل "وصمة عار على جبين العالم"، قائلا إن "النزاعات المستمرة تتواصل نتيجة غياب إرادة سياسية جماعية".
وجاء ذلك في الكلمة الافتتاحية للدورة السابعة من منتدى الأمن العالمي 2025، المنعقد بالعاصمة الدوحة تحت عنوان "تأثير الجهات الفاعلة غير الحكومية على الأمن العالمي"، خلال الفترة 28- 30 نيسان/ أبريل الجاري، في إطار تعزيز مكانتها الرائدة كمنصة عالمية للحوار الأمني.
وقال الوزير القطري إن "النزاعات المستمرة تتواصل نتيجة غياب إرادة سياسية جماعية وتغليب مصالح ضيقة على متطلبات السلام"، لافتا إلى أنها "تخلّف أجيالا تنشأ في اليأس وفقدان الأمل"، بحسب ما نقلت وكالة الأناضول.
وأضاف: "رؤيتنا للحل تمتد من إنهاء الحروب إلى بناء أسس متينة للتعافي الشامل والمستدام بمسؤولية جماعية والتزام دولي حقيقي"، مشددا على أن "أطفال غزة وسوريا والسودان وأوكرانيا ليسوا مجرد أرقام، بل هم مستقبلنا ومرآة نجاحنا أو فشلنا بصناعة عالم أكثر أمنًا وإنسانية".
وأوضح أن "ملفات مثل إعادة إعمار غزة وسوريا أصبحت للأسف أحلاما على أجندة المجتمع الدولي بسبب تعدد الأزمات الدولية"، مؤكدا أن "دعم الشعب الفلسطيني ليس موقفا سياسيا قابلا للمساومة، بل التزام أخلاقي وإنساني ينبع من قيم العدالة التي نؤمن بها".
وقال إن "أكثر ما يؤلم ويمثل وصمة عار على جبين العالم أن الغذاء والدواء باتا سلاحا بحرب غزة يستغل موت الأطفال جوعا وبردا لتحقيق مآرب سياسية ضيقة"، مؤكدا أن "دولة قطر ستواصل مع مصر والولايات المتحدة والشركاء الإقليميين جهود التوصل لوقف دائم وشامل لإطلاق النار في غزة وتأمين تدفق المساعدات الإنسانية بلا عوائق".
وأضاف: "أدركنا من تجاربنا في الوساطة وحل النزاعات أن بناء السلام الحقيقي يتطلب فتح قنوات حوار مع جميع الأطراف المؤثرة".
ومنذ 2 آذار/ مارس الماضي، أغلقت "إسرائيل" معابر القطاع أمام دخول المساعدات الغذائية والإغاثية والطبية والبضائع، ما تسبب في تدهور كبير في الأوضاع الإنسانية للفلسطينيين وفق ما أكدته تقارير حكومية وحقوقية ودولية.
وترتكب "إسرائيل" بدعم أمريكي مطلق منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 إبادة جماعية بغزة، خلّفت أكثر من 168 ألف شهيد وجريح من الفلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على الـ11 ألف مفقود.
ومطلع الشهر الماضي، انتهت المرحلة الأولى من اتفاق لوقف إطلاق النار وتبادل أسرى بين حركة حماس و"إسرائيل" بدأ سريانه في 19 كانون الثاني/ يناير 2025، بوساطة مصرية قطرية ودعم أمريكي.
وبينما التزمت حركة حماس ببنود المرحلة الأولى، فقد تنصل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، المطلوب للعدالة الدولية، من بدء مرحلته الثانية استجابة للمتطرفين في ائتلافه الحاكم، وفق إعلام عبري.